الثلاثاء ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

نوازع شطرنجية

حبلت جدران عقله بأفكار راقت له أملاً فأراد أن يرسم المستقبل لها، لكن بقايا قيود أجهضتها فسالت على شكل دموع خرجت صارخة لا يمكن الحياة في زمن توأد الطموحات بسبب سياسات عقيمة.

جلس في غرفته التي خارت قوى هيكلها من كثرة انتظار وعتمة، تطلع إلى مقبس الإنارة الذي لحست قرنه ظلمة في عدم وجود كهرباء، تحنطت كل مفاصله وهو قابع دون عمل، لم تطقطق فكوكه صعودا ولا نزولا حتى تيبس وأصبح معاقا، بات يرى السراج المتقد هو دلالة الأمل في حياة ربما سيحرك فكيه لينطق باسمها حين ملل صمت مطبق، دفع بالكرسي إلى أمام الطاولة وضع السراج على مقربة منه فتح الشباك الذي ما أنفك ان يكون نافذته على الحياة بمرور نسمات ليل رغم قضبان صدئت فحالت نفسها أوتار عود كثيرا ما مرر أصابع يديه عليها ليدندن حزنا من ورائها، سحب رقعة الشطرنج التي قسم حياته فيها الى خانات سطوة وسلطان، أو خانات تضحية ونزال، أدارها أكثر من مرة حتى تمازجت الألوان فيها فما عاد يتبين الأبيض من الأسود، فرك جبهته وكأنه يقتلع قرينا رافقه حياة بأكملها، سحبه من باطن عقله أجلسه على المقعد الذي أمامه وقال له... أتراك الليلة مستعدا للنزال، رفع حاجبيه المقطبين إلى محدثه وفرك شفاها كأنه يرتب المفردات لتلقي بأفراخها على لسان خاطبه صمتا في عزلة ووحدة، ثم أردف قائلا.. لا أدري فقد تشبعت منك وخسارتك في كل ليلة ولا أظن أنك قادرا لما جهزت لك من حركات نقل لبيادق عجزت طويلا أنت عن التفكير بمثل تحركاتها، قال له بعد ان ترفق بمن كانت هواجسه مرهما في أيام طوال، رحلت المسرات بلا وداع أو أملا بلقاء مع مستقبل قريب او بعيد... لا.. لا أعتقد انك اليوم يا قريني تستطيع هزيمتي بعد ان عرفت كل ما تفكر به فقد بحت لي بأساليب الكر والفر على هذا البساط وعلمت أيضا مساحاتك المظلمة التي سأدخلها لأخرج في النهاية منتصرا عليك...

قهقه قرينه حتى لاح لمحدثه لسان الموت فقال له ستكون معلقا تتدلى كلساني هذا لا تنفك تهتز لتتساقط كل صورك المضيئة في جوفي البعيد.
لا عليك يا قرين الزمن.. لنلعب..

افترش الاثنان رقعة الشطرنح وركب كل منهم سلطان بيادقه، فقام القرين بخطوته الاولى قافزا بالحصان الى المقدمة وقال أليك خطوتي الأولى وأحذر من أطماعي في التضحية لنيل الفوز.
قال له صاحبه.. لا عليك فقد لعبت مثلها من قبل.. ثم حرك الحصان بنفس اللعبة...
القرين.. ها.. أراك تعمل على تكرار خطوات لعبي والبيادق... لا يهم.. ثم حرك الجندي الذي أمام الوزير، وترك الأمر لصاحبه أن يلعب...

راق لصاحبه حين أغاضه وعمل على إثارته في كل حركة حتى اشتدت اللعبة بينهما قتلا وأكلا لمحرمات في نصب شرك وخداع لنيل فوز, غير مكترثين بتضحيات سرقت الأنانية فيها حياة من أحجار عزمت على بقاء رقعة ارض الشطرنج واحدة، يعيش عليها من سكنها دون تمزيق و قتل او تشريد، إلا أن طمع في نفوس سكنت غرف هزيلة وقرين شر وزع شياطينه وسوسة في قلوب لم تعرف معنى الأرض والتضحية.

كانت الملوك واقفة تتفرج على ساحة النزال شأنها شأن من توج بهرجة لينال هو التهليل بتضحيات الآخرين، كتب التأريخ خلاصة الأمر, إن التيجان لا تركب إلا رؤوس ملوك طواغيت لا يعرفون الرحمة... أما الوزراء فكانوا يجولون يمينا ويسارا مخترقين كاسحين كل من يقف في طريقهم لتحقيق فوز ونيل مكرمة الملك.. لاتهمه أحصنة تتساقط أو رخ يقتل أم قلاع تهدم أم جنود تتهاوى، المهم أن يبقى الملك واقفا لتصفق له الحاشية انه البيدق الذي انتصر رغم دهاء الآخرين...

لزم القرين خانته بعد أن تساقطت كل قطعه ولم يبقى معه سوى جندي لزم طريق الرقعة الشطرنجية المستقيم وبرزت القلعة صامدة في اختراق عمودي وأفقي علها تحظى بمكان تثبت أساس قاعدتها الجديدة، إلا أن وزيرا يحمل بيده معاول هدم أقترب ليكسر بوابة أغلقت زمنا طويلا، استغلها الجندي سيرا في خطوات بطيئة زحفا على بطن جائعة، حتى وصل إلى نهاية الرقعة فوجد انه لابد من الموت لحياة بيدق الوزير, رمى بنفسه بعد ان توثق من ركوب وزير رقعة الأرض ليتحرك بشموخ نحو من جرده الحياة، شاغلته القلعة حينما رأت ان الحياة قد دبت بأوصال الوزير فهمت تقترب من فكوك وطمع وزير سحق كل شيء لينال مأرب في نفسه، كانت الرقعة قد فرغت إلا من الوزيرين والملوك والقلعة ورخ

كان القرين قد شغف فرحا وقربه من فوز يحس أن لسانه قد أعد حروفا لتطلقها شفافة إن عبارة ( كش ملك ) باتت قريبة جدا... خفت نور السراج قليلا من طول وقت فارق الوقود عبوة كانت تزخر بخيرات النور، إلا إن طمع في تحقيق نصر على رقعة أرض شطرنجية أضاع وقود يمكن البقاء في ضياءه والعيش بهدوء، خانته عيناه بسبب ظلمة من نور، انتهزها صاحبه فرصة ليحرك وزيره اقتراب بإزاحة.. نال مراده وقف أمام الملك صارخا عليه (كش يا ملك) غاب النور عن الغرفة وجد نفسه يبحث عن نور ليهزأ بقرينه، بحث في جيوبه عن علبة كبريت أرتطم بالطاولة تساقطت الأحجار اختلطت لم يتذكر سوى عبارة كش ملك، تذكر قبس النور هرع لفتحة، إلا أن تصلب من كثرة انتظار أضاع فيها بعض وقت، شعر مقبس النور أن واجبه يحتم بذل جهد لكسر ظلام موحش، أطبق برجليه على زر النزول حتى أداره، ولكن... لم يسعفه الحظ فقد بقيت أقباس النور مجرد نقاط زينة لخداع الآخرين انه يمكن في يوم ما ان تترك السراج وتستخدم الأزرار الكهربائية لتدرك انك من البلدان المتطورة في زمن لبس الجهل عباءة يتباهى بها بين أقرانه ناسيا أن الحياة تدار بأزرار وبيادق بشرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى