الأربعاء ٤ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم خالد عبد الله

‎حكاية صراع

أتته وهو مُتكِئ على صخرة منبسطة في عرينه، تحمل في فمها ما اقتنصته من صيد سمين، ثم ألقت به، وهاج له، إلا أنها شاغلته حِينًا بمداعباتها المألوفة له وداعبها، ثم طفقا يأكلان حتى إذا انتهيا، انتفضا حول عرينهما الشارد في صلب الجبال، وأخذ السلطان يدللها ويبادلها ألوان الغزل والغرام، يغازل بذراعيه ذراعيها، وبعنقه عنقها، فيتعانقان، ويبتدران، يصطدمان، ويتمايلان، ويودان لو صح لسانهما، فيتبادلان أرق الكلام وأغزله، ويمرُّ بهما النسيم، فكأنما يَسْبَحان في موجات من الخيال الناعم، أو ينشطان بنازع نفسيهما، فيحاكيان عنفوانيَّة الحياة، هذا حالهما في صحن عرينهما، حتى يرتوي كل منهما من ودِّ صاحبه، ثم استكانا إلى عرينهما، واتَّكأت (رماحة) وأحاط بها السلطان، وأخذت (رماحة) الفكرة.

فسألها ضرغام: ما الأمر يا سيدتي؟ أَعْتَرضك اليوم عارض؟

فانبسطت بين ذراعيه وقالت: وأنا عائدة بصيدي الممتلئ، رأيت في وادي شهاب حيوانًا غريبًا ما عهدته قبل اليوم، فأثار ذلك الخبر ضرغامًا، أنَّ حيوانًا يدخل الغابة دون إذنه، وقرار منه،

فقال لها: وما صفته؟

فقالت: أغرب ما فيه أنَّا نسير والحيوانات التي عهدناها على أربع، أما هو فعلى قدمين ومبسوط القامة،

قال لها: كيف؟

قالت: إن كل حيوان منا يعتمد صدره وكتفاه على قدميه، أما هو فكتفاه وصدره محمولان على ظهره المنبسط، وله من كتفيه قدمان عجيبتان لا يستخدمهما في سيره، وليس لهما حافر ولا خف، يحركهما إلى الأمام، وإلى الخلف، وعن يمين، وشمال، ويقبضهما ويبسطهما، وبهما يمسك الأشياء لا بفمه، يشبه القرد في أشياء؛ فقدما القرد تشبه قدميه المنفتلتين من كتفيه، إلا أني ما عهدته في مشاهدتي أنه استخدمها في مسيره كالقرد، وظهره منبسط كل الانبساط، لا ينحني لمشي ولا لجري، وليس له ذيل، ويحيط جسمه شيء لا هو بشعر ولا ريش، وعهدته خفيف الحركة في مشيه وخطوه، إلا أنه لا يشبهنا في الجري؛ فلا يتجاوز جريه جري غزالة، ولا أرنب بري،

فقال لها: وما جرَّأه على الحلول بغابتنا دون إذنٍ منا؟ أضخم هو؟ أمخالبه أشد من مخالبنا؟ أأنيابه أحدُّ من أنيابنا؟ أهجمته وقبضته أفرس من هجمتنا وقبضتنا؟

فقالت له: أما ضخامته فلا؛ فإني كنت آتيك بأحدهم لولا الصيد الذي كان معي، وما عهدت له مخالب في قدميه اللتين يمشي عليهما، ولا اللتين يقبض بهما على الأشياء، وفمه المغلق الصغير لا ينبئ عن ضرس ولا ناب، وأما هجمته وقبضته فينبئ عنهما أشياء لا تتجاوز هذا الحجر القابع هناك، يستخدمها في صنع أشياء،

قال: وهل رأيت منه ما يخيفه؟

قالت: نعم، سقط ولد صغير لهم من على صخرة هينة، فسعوا إليه وتسارعوا، ورأى أحدهم ثعبانًا، فتهيَّبوه، وتنادوا، ثم رفعوا بأقدامهم حجارةً وضربوه بها حتى قتلوه، فاستغرب الأسد هذا الصنيع، وقال لها: كيف ذلك يا رماحة؟! - وركل بقدمه حجرًا؛ كي يعاين ما تقول - فقالت له: لا، إن في قدميه أعوادًا كالثعابين تتحرَّك وقدمه لتقبض على ما يشاء، ويدفعهما، فتصيب ما يشاء، قالت ذلك: وكأنما قد حاق به همٌّ فادح، وذهب في فكرته حينًا، حتى نبَّهته (رماحة) ماسحةً وجهه بوجهها،

وقالت: ما يهمك يا سيدي، قال لها وهو ذاهب في فكرته: وهل رأيت ما يخافه؟ قالت: نعم، ما من طيرٍ يسكن إلى شجر، أو أرض في صحنه، وغنم وحمار وأبقار وجمال تحت أمره، وله كلب أينما يسير في ظله، فنهض الأسد، ونادى وزيره في عسكره القاطن أفواه الجبال، فأتاه على فوره،

فقال له: تخيَّر من عسكرنا جندًا، ثم يَمِّمْ به وادي الشهاب وشعابه، تقول الأميرة رماحة أن به حيوانًا غريبًا دخل المملكة بدون إذنٍ مِنَّا، ارصدوا لي فعاله وطباعه، وقيسوا قواه وحِيَلِه، وَائتُوني بذلك في أمضى وقت؛ حتى نقضي عليه بحكم، ويكون عبرةً لكلِّ حيوان يَمَّم غابتنا.



فأسرع الوزير إلى المعسكر، فانتقى من الجند من يستعين به على قضاء المهمة على خير وجه، ثم أخبرهم بما أمر به السلطان، وتوجَّه إلى ضرغام،

فقال له: أما مهمتك فأن تترقَّب هذا الحيوان، حتى إذا ما اختلى فردٌ منهم بنفسه، أو قلَّ مجموعهم في أحد الشعاب، فاهجم عليهم، واختبر بذلك قواه وحِيَلِه في الهروب، أو الدفاع، أو الهجوم، وسأعاين صنيعك من رأس جبل؛ حتى أُعينك إن داهمك ما لا نتوقَّعه، ثم انتفض بهم من بكرة يومهم هذا يستطلعون الأمر، وضرغام واقف يترقَّب، حتى إذا ما رأى أن فردًا منهم قد ذهب وحدَه في أحد الشعاب، حتى نبَّه قائده، فأشار إليه بالهجوم، فانطلق كالريح يقضي مهمته، حتى فاجأه وحيدًا في الشِّعْب، وما كان في ديوان فطرة هذا الإنسان أن يخاف الأسد؛ لأنه ما عاهده قبل هذا اللقاء، فما كان من الإنسان إلا أن وقف واجمًا يتأمَّل الأسد، ويتطلَّعه، ويترقَّب صنيعه، ويتعجَّب من وقفته، ونظرته، ومراسم الحدَّة التي على وجهه، ودار بينهما صراع، كان الأسد هو الذي ابتدأه لداعي الشر الذي كان في نفسه، فانقض عليه بهجمة خاطفةٍ تفاداها الإنسان بخفة بارعةٍ، وقبض على خاصرة الأسد قبضةً جعلته يفزع فزعةً مليئةً بالذعر والاضطراب، ارتجَّت فيها أعضاء الأسد، وانتفض من بين يدي هذا الإنسان كي يلوذ بالهرب، إلا أن باعثًا دعاه لأن يعود عليه بالهجوم بعد أن كان قد اعتزم على نفسه الفرار والهرب، لعلَّ هذا؛ لأنه لما انتفض من بين يديه، تفلَّتتْ يداه القابضتان على خاصرته بيسر، فعلم ضرغام في التفاتته عنه مقدار القوة التي بينه وبينه، فعاد عن الفرار إلى الهجوم، وانقضَّ عليه وخنقه بمخالبه حتى قتله،

وهكذا لم يعهد ضرغام صراعًا يتأتى له بالنصر أيسر من هذا الصراع، فلم يرهقه الجري، كما تنقطع أنفاسه وراء الغزلان، ولا تعرَّض لحافر زرافة، ولا لناب فيل، ولا ضراوة ثعبان، وأطبق على عنقه بفمه، وتسلل به إلى قائده، والإنسانيَّة بين يديه لا تدري أي ذنب اقترفته آلَ بها إلى هذا المصير، وانتظر مع الجند؛ كي يتموا مهمة الاستطلاع حتى صباح اليوم التالي، ويقفلوا جميعًا إلى السلطان.

كان راشد يشاهد الصراع الذي بدأ وانتهى في برهة يسيرة من الزمن، وكان قد توقَّع (لواقد) أن ينتصر، إلا أنه فوجئ بقانون الحياة الجديد، وأن البقاء للأقوى، وانتفض (لواقد) يعينه، إلا أن الأسد قد أنهى المهمة كما ينبغي، وانطلق بواقد متسللاً به، منفلتًا من مدار راشد - أيضًا - كما ينبغي،

وأسرع راشد إلى أميره (يسار) يحكي له ما جرى، ويداه ترتجفان، وقلبه يرتعد، وابتدر (يسار) قومه، ونادى فيهم؛ ليخبرهم ما حلَّ بصديقهم، ولما أن احتشدوا للأمر، وعلموا من راشد مدى قوة هذا الحيوان وبطشه، وما كانوا أعدوا لهذا الأمر عدة، وكان المساء قد خيَّم على الوادي، فأمر بفريق من قومه أن يحملوا المشاعل، ويصعدوا بها رؤوس الجبال المحيطة بالوادي وشعابه، يستطلعوا هذا العدو؛ ليأمنوا خطره، ويُنَبِّهوا البقية إذا أظلهم الخطر.



ورأى الوزير نفرة الفريق إلى رؤوس الجبال، وكان قد اعتزم البقاء إلى الصباح، إلا أنه فضَّل أن ينسحب مكتفيًا بما أحرزه، ونادى في الجند يؤذنهم بالقفول إلى السلطان، عادوا يجر (ضرغام) (واقدًا)، وتجر (رزان) صيدًا سمينًا حيًّا في شبكة قد أعدَّها الإنسان للصيد، وأما بقية الجند، فقد عادوا محمَّلين بالأخبار عن هذا المخلوق الطارئ على غابتهم.

وكان السلطان نافرًا حول عرينه لم يخالط النوم عينه، يخالط غضبه خوفه، ويتأمَّل فيما حكته (رماحة) بالأمس، ولما رأى الجند قد أقبلوا هنالك يقتربون من سفح الجبل، عاد إلى عرشه وانتظر على طلعةٍ منه، حتى وصلوا صحن العرين، فاستأذنوا بالدخول، فأذن لهم، فدخل الوزير وحاشيته، وألقى ضرغام بواقد، وألقت رزان بالصيد في شباكه، فنهض لذلك السلطان يقلب هذا الحيوان بقدمه ويتأمَّله، وتعجَّب لحاله وضعفه ورقة بدنه؛ فهذا الحيوان يخالف ما عاهده في الحيوانات من رصانة وشدة وخشونة، ولما جرَّبه بأنيابه، علم أنَّ هذا ما خُلِقَ ليؤكل، وتأمل الثياب التي عليه وتعجَّب منها؛ لما علم أنها ليست من جسده، وجرَّب فيها مخالبه؛ ليمزقها فأجهدته،

فعلم أن هذا صنيع له ما وراءه، وأنه حين صنع هذا الرداء الواقي، كان يستطيع أن يصنع لنفسه ما هو أقوى وأشد، وتأمَّل ذراعيه فوجدهما على غير طبيعة أقدام الحيوانات، وتعجَّب من خلقة يديه، وعلم أن لها شأنًا، والتفت إلى الصيد الحي الملتف بالشباك، ونظر إلى (رزان)،

فقالت له: سيدي حصلت عليه من فخ صنعه هذا الحيوان، فتأمَّل الصيد وهو يحاول استطاعته أن ينفلت من هذه الخيوط المتشابكة، فلا يستطيع ولا تزيد محاولاته في الانفلات حاله إلا سوءًا، ففزع لذلك وانتفضت فيه رعشة صاحت في عمق باطنه، إلا أنه تكاتم الأمر، وأراد أن يختبر الشبكة بمخالبه فاشتبكت بها، ففزع لذلك واستعان بقدمه الثانية، فاشتبكت هي الأخرى، وأخذ يعالج المأزق تحت عيون جنده، وما استطاع حتى خلَّصه وزيره الصالح الأمين، حدث ذلك وكأنما صاح نذير الشر بأوتاد قلبه، ثم تصنَّع الثبات واستقام وعاد إلى عرشه، وأمر الجند بالانصراف على أن يعودوا بالغداة يقصون عليه ما رأوا من حال هذا الحيوان، واستأذن الوزير بالانصراف، وقد قرأ من عيني الأسد ما لا يخفى، وعلم من حال الشبكة أن لهذا الحيوان شوكة لا يسلمون إن استهانوا بها.



و(يسار) حين صعد الجبل، لم يرَ إلا سربًا من أشباح مُوَلِّية، لم يتحقق من معالمها، إلا أنه حيوان قوي يزنه مرات، وأنه بمجموع قواه لا يثبت لبطشة ذراع من أذرعه، إلا أنه أصر بمجموع عقله أن يهزمه، انصرف إلى واديه، وأمر بأن تشد الخيام من جديد، وأن يزاد في سربالها، وأن يحيطوها من جوانبها بالرمال؛ حتى تقيهم من قبضة هذا الشبح المخيف، ثم تشاور مع خاصته ورجاله:

فقال (مراد): هل تذكرون حين حللنا بالوادي؟ وكان بكل درب فيه أرانب بريَّة، ثم لما رأوا بأسنا وعلموا خطرنا، هجروا الوادي، وسكنوا غيره، فأمنوا شرَّنا، وإنا نواجه اليوم ما واجهوه أمس، وإن أسلم الأمور أن نخلي لهم الوادي، ونرحل فيكتفوا ونسلم،

فقال (يسار): أتشبِّه يا أخي (مراد) حالنا بحال الأرنب، أما تعلم أنه قد طُبع على الفرار؟ وأنه خالٍ إلا من سرعة تعينه أو جحرٍ يصنعه، إن أغلق عليه باب، خرج من آخر؟ هل له من أعدائه إلا ذلك؟ أمَّا نحن فإن لنا لكل حادثة فكرًا، وعن كل خطرٍ مذهبًا، ومن كل نازلة مخرجًا، أوَما فاجأنا يومًا شبحًا ندرك أثره وتضرب أمتعتنا قواه، وتثير يداه الغبار العاصف، ثم لا نراه؟ أوَما صنعنا خيامًا؛ لنتقي شره إذا صاح بنا؟ ثم تصفر الخيام بتصاريفه وتباريحه ونحن بها آمنون؟ هل هربنا؟ هل هجرنا الوادي؟

فقال آخر: نجمع من الزاد والمؤنة ما يكفينا شهرًا، ثم نسكن الخيام ونغلقها علينا، فنأمن الطلب، فإذا ما عادوا ووجدوا الوادي خاليًا منا، لا حراك فيه، ولا صوت لنا، ينسون أمرنا ويطلبون الحاجة في غيرنا، فقال (يسار): وتهلك إبلنا وغنمنا وزرعنا، وتتحول الحياة في الوادي إلى موت، والعمار الرائد إلى قوض، يا أهل مودتي وخاصتي، علمنا حين هزمنا الشبح الخفي بالخيام المضروبة، والنار الشاردة في جوف البساط الأزرق بمظلات كأغصان الشجر، والحيَّات الوافزة بالحجارة - أن لكل خطرٍ أداةً تصدُّه وحيلةً تردُّه، وخطر هذا الحيوان الحديث، أمره وغاية صده حِيلة تناسبه، فما بالكم؟ فقال قائل لراشد: ما حاله؟ هل جسده من صخر؟ أم من طبيعة أجسامنا؟

فقال (راشد): ما عالجته، ولكن لما قبض عليه (واقد)، كان بجسمه طراوة كأجسامنا، إلا أن به قوةً لا تعادلها قوة أفراد مِنَّا مجتمعة، قال: إذًا نستطيع هزيمته بفكرة قد صنعناها سابقًا، نعلم أن الآلة الحادة التي نبريها بالحجارة؛ حتى نعالج بها الحيوان الذي نأكله مناسبةً لأن تخترق جسم هذا الحيوان وتقتله، فتبسَّم لذلك (يسار) والجالسون، وتمعض وجه (مراد)، وقال يسار: هذا حسن لولا أنا لا نأمن بطش هذا الحيوان، ولعلَّ سرعته لا تسعفنا لتوجيه الآلة إليه إذا اقترب منا، فقال آخر: لكنا لو صنعنا الآلة على وجه جديد، طويلة مؤخرتها في اليد، ومقدمتها الحادة على بعد، فنستطيع أن نجهز عليه وهو على بعد أذرع منا، فَسُرَّ بذلك الجالسون، واتفقوا عليه، وانبروا يعدون العدة للقاء مجهولةٍ معالمه.

ثم إنه لما شارفت الشمس الشروق بادرها السلطان بصيحة قَضَّت مضاجع الجند، فأقبلوا مسرعين، وانتظرهم في صحن العرين، فلما حضروا توجَّه السلطان إلى (ضرغام)، فسأله عن شأن هذا الحيوان،

فقال: سيدي السلطان، لما فاجأته وحيدًا في الوادي، ما اضطرب، ولا فزع، ولا لاذ بالهرب، وقف واجمًا، فغاظني أمره، فهجمت عليه هجمةً فاتته، ثم إنه اكتمل حمقه في عقلي، حين قبض بيديه الهشتين على خاصرتي، وكنا نقول: إن النعامة أحمقهم، ثم فزعت خشية مكروه، فانفلتت يده دون أن تمسني بسوء، فعاودته الهجمة، وخنقته بمخالبي وها هو بين يديك، فزئر السلطان في وجهه وغضب، وقال: يا أحمقهم، أما وليناك أن تقيس لنا حِيَله في الهجوم والمدافعة عن نفسه والهرب؟! لِمَ لَمْ تتركه حين تمكنت منه؟! لتعرف أي حيلة يتخذها في حربه لنا، وأي قوى يستثمرها للهرب؟ وكان على رأس الجبال جند يترقبونك؛ ليوافوك إن داهمك ما نكره، هل بعثناك لقتله وحسب؟! وأبدى له السلطان بوادر الشر،

فقال (ضرغام) ليتَّقيها: سيدي السلطان، إني لما وقف واجمًا يترقَّب، تهيَّبْته وظننت أن وجومه قوة وثقة بإمكانه مني، وحين وثبت عليه، فتفادى الوثبة وقبض على خاصرتي، تمكَّن ذلك الظن بي، ففزعت لذلك وهبته، وقفزت من بين يديه، وما علمت ضعفه إلا في حال اضطرابي، ورجفة هزت كياني كله فخنقته، يصرف مخالبي فيه خوفي والذي أحل بي، ولما سمع السلطان كلمات الخوف والاضطراب - التي لم يعهدها في طباع الأسود - يفوه بها ضرغام، صاح به فقاطعه وأمر به، فأزيلت عنه شارات الحكم والولاية، وصاح بهم: هل عهدنا هذه الطباع إلا من الغزلان والأرانب؟! هل هاب الأسد يومًا حيوانًا والكل يهابه؟!

نحن ملوك هذه الوديان والغابات وأمراؤها؛ نأكل ما نشاء ونأتي على القوي والضعيف من الأرنب إلى الفيل، لا يملكون سرعةً تضاهي سرعتنا، ولا نابًا ولا مخلبًا يقارب نابنا أو مخلبنا، ولا قوةً حاطمة كقوتنا، ثم إنا لو صادفنا يومًا من هو أشد منا قوةً، فلن تتغيَّر طباعنا، وستبقى الشجاعة التي أورثتنا ملك الغابة، وكل ما أوتينا من سرعة خاطفة، وقوة بالغة، وإقدام لا يعرف الإدبار، وحِدَّة وإرادة لا تعرف الانكسار، سيبقى كل ذلك متوِّجًا لنا تيجان العزة والشرف، سنبقى ذلك حياتَنا، أو نموت من أجله، إن كل ذلك فينا فطرة، ومن عكسها في ذاته لا يستحق الحياة، وأمر بضرغام فأخرج من مملكته يرعى وحيدًا ببيداء فانية نائية عن فردوسه.



ثم توجَّه إلى (رزان)، فقال: ما شأنه؟ فقالت: سيدي السلطان، إني صادفت أمس من هذا الحيوان عجبًا، فهو وإن لم يشبه العنكبوت، إلا أنه يفعل فعله، فينسج بيده خيوطًا تداخل بعضها بعضًا، والخيوط سيدي ليست منه ولا يصنعها كالعنكبوت بفمه، وإنما يصنع كل ذلك بيده، ثم يفعل فعل الحيوان الحافر، كالذئاب والأرانب في الأرض والسناجب في الشجر، فيصنع حفرةً، لكن ليس بحافرٍ منه، وإنما بقدم ذات حافرٍ حُرَّة مستقلة عنه، يمسكها بقدمين له ذات أعواد قصار، ثم يرفعها ويضرب بها الأرض، فيستفز ثراها وحصاها،
وصدقني إن قلت لك: صخورها، ثم يبسط الشبكة على الحفرة التي يصنعها، وأواخرها موصولة بخيوط مرفوعة إلى فرع شجرة، وموصولة أطرافها بصخرة مرفوعة على قضيب، فإذا مرَّ على الشبكة حيوان، أخذته إلى الحفرة، فيهتز القضيب، وتسقط الصخرة بسقوطه إلى الأرض، فيرتفع الصيد إلى الفرع وتجتمع عليه خيوط الشبكة من كل جانب، ثم إني أتيت الصيد أعالجه، وأحاول، وأحاول حتى انقطعت خيوط كثيرة، ورأيت الصيد قد سقط إلى الأرض مرةً أخرى، فجذبته بخيوطه حتى أتيت به، فقال السلطان وقد غشيه ما غشيه: والقدم المستقلة يا رزان، قالت: كما قلت لك يا سيدي، لا يقوم لها شيء،

قال: والحفرة المكيدة، قالت تستطيعه وتستطيعنا، فالتفت وطبيعة فيه عينان تحترقان وأنف فارعة دالة على استعلاء ووجه ممتلئ بشارات الحكمة والحكم، مع مسحة من هم وحزن حارت فيه أصناف الكائنات؛ لما للأسد من قوة وجرأة، وما عرف عنه من مكنة وشراسة، ثم ذهب وجاء وذهب، واستكان وعم الصمت أجواء المكان،

فقالت: رماحة متوجهةً إلى بقية الجند حتى تذهب عن السلطان عيونهم: وأنت يا روان؟ قالت: هو أشبه بالسُّلْحُفَاء، يسكن الأرض، ويسبح في الماء، رأيته كذلك، إلا أنه لا يتجاوز فيه مسافة كالتي بين جبلي (رافود، وثبات)،

وقالت سهام: يشبه القرود في كثير، فله قدمان كقدمي القرد، ويتسلق الشجر، ويجمع ما عليه من ثمر، ثم قال الوزير: نعم سيدي السلطان، قد جمع من كل حيوان صفة وقد صادفنا فيه البارحة ذلك، وله حركة غير منقطعة بطعام ولا شراب، وإنما ظل ناشطًا من بكرة اليوم حتى أقبل المساء، وله تصرف عجيب، يصنع ما تصنعه الحيوانات، يثقب الأرض ويتسلَّق الأشجار، ويسبح في الماء، حتى إني خلته أنه يومًا سيطير في السماء، ولو جردته مما يستعين به من خشب وأحجار، وما يعتمد عليه من أعوان الطبيعة، لما استطاع ما تستطيعه بقية الحيوانات.

فقالت رماحة: سيدي السلطان، علمنا أن هذا الحيوان على ضعفه له قوة من ملحقات مستقلة يعتمد عليها، وأن له بذلك خطرًا وشوكةً، إلا أنه ليس أول الشائكين؛

أما تذكر الفيل الذي صارعه (شاور)، فشجه بنابه شجةً ظل بها بعد الواقعة حتى مات؟ وما تركناه، ظلنا به نكيد له حتى صرعناه في المساء، وإن لكل حيوان شوكةً تفاديناها لما أصبنا بها وعلمناها، وإن هذا الحيوان الذي اجتمعنا من أجله ما لحمه ولا شحمه شهي، كالأبقار والغزلان، فما الرأي إذًا لو تركناه لضرورة الجدب وهجرة آكلات العشب؟ فقال الوزير: نعم، وإنه ظاهر له في الوادي مكث واستقرار، فهو يعيش في مكان تتسع فيه رقعة النبات والأعشاب، وله فيها بحيرة ماء تكفيه من الشتاء إلى الشتاء، وقد صنع فيها بيوتًا كبيوت الطير والدود، لكنها ضخمة تروع ناظرها إذا قاسها ببيوت الحيوانات، فقال السلطان: لكن غاظني ما غاظ (ضرغام) وحتى يهابنا هذا الحيوان كما يهابنا الجمهور، سنهجم عليه هجمةً، كالتي نهجمها على أولاد الفهد، والنمر، وعلى الضباع، ثم اجتمعوا في حلقاتهم المألوفة، واتفقوا في سرية مكتومة لا يسمع حديثهم، حجر، ولا شجر، ولا كائن ما كان حتى قُضي الأمر واتُّخِذ القرار.



و(يسار) والقوم في عمل دائب يصنعون آلة الحرب؛ حتى يتقون شرَّ هذا الحيوان العاتي، ويصنعون من الحيلة ما يبلغ قوته ويزيد، وصنعوا حرابًا طوالاً قاسيةً تشبه فيما تشبه أنيابه القاطعة، صنعوها وهاج فيهم ما هاج، فتأذى بتجربتهم الأشجار المسالمة، والحيوانات؛ وذلك لأن (يسار) لما بعث فرقةً قويةً ذات بال ومعهم الرماح الباطشة التي صنعوها بعد أن جرَّبوها في النسيج الممدود، فاخترقت، وفي الأرض فغاصت، لما بعثهم وفي طريقهم إلى الأسود، أخذهم الذي أخذهم، فخالفوا فطرةً كانت فيهم إلى نازع جديدٍ عليهم، فجرَّبوا الحراب في سيقان الشجر، وكل حيوانٍ مسالمٍ يرعى عشبًا، أو ساكنًا إلى مأوى، وما تدري هذا الكائنات أي ذنب اقترفته آل بها إلى أن تجرح أو تثكل حتى نزعت نزوعها إلى السماء؟ ولولا رحمة تدخّلت، لحاق بهذا الحيوان من العقاب ما لا يحتمل، ساروا تتابعهم وتلاحقهم أمارات الفساد حتى صاحت فيهم طائفة منهم بنازع الرحمة الساكنة دخائلهم: قتل منا أمس (واقد)، فانتفضنا لثأره ولا استقر بنا ليلٌ، ولا بشت بأعيننا أسارير النهار، واليوم تمكنون مخلبًا كالذي تمكن منكم في أممٍ أمثالكم، وتخلفونها باكيًا عليها الآباء والأمهات، فانتبهوا لذلك واعلموا أنها كسابقيها يوم لكم ويوم عليكم، ولكن بغاة الثأر أخذهم آخذ تفسره الأحداث،

نعم، فما هي إلا لحظات فارقة، حتى وصلت الأسود طاوين الأرض طيًّا إلى سطح التل الذي يصعده الآثمون.

وما أن رأت الأسود الفرقة مبتلاةً بصعود التل معتمدين على أقدامهم تارةً، ومتشبثين بأيديهم وعلى قضبانٍ طوال في أيديهم مرةً أخرى، حتى صاحوا صيحتهم وانبروا إليهم، وانتبه إليهم الفريق فانقسموا، فمنهم من فرَّ ولاذ بالهرب، ومن استعد على غير أهبة، ومن اضطرته سرعة الأسود، فصارع بحربته القلقة بين يديه، وأبدت فيهم الأسود ما راع الكائنات الشاهدات، وما مكَّن فيهم حرابه إلا الزمرة الصالحة التي نادت فيهم من قبل أن الأيام دُوَل، وكانت الزمرة على دربة صالحة بالحراب، وإخلاص لمعالجة ساعة اللقاء، فمكَّنوا حِرابهم فيهم فتمكَّنت، والتفت (سام) - بعد أن أثكلت حربته - الأسود (رماحة)، فوجد (حام)، وأنياب لبؤة أخرى تريده وتطلبه و(حام) يتفلَّت منها، وينتفض بين يديها، فشدَّ إليه (سام)، ووثب عليها وثبةً أبعدها عنه، لكنها استدارت زائرةً عليه، وكادت تتمكَّن منه، لولا أن (حام) نهض نهوضه، وأمسك حربته، وطعنها طعنةً أودت بحياتها، ونجَّى أخاه الذي كان قد نجَّاه، وأوحى لهما باعث مودتهما أن يتعانقا في صدر الخطر، وأفواه الهلاك لما أخذ كليهما من آخذ الشفقة، وخشية الفراق، فغاب بياض (سام) في سواد أخيه (حام)، وامتزجت دموعهما، وتماست روحاهما، وتضاما.

وناجاهما حسيس العذاب: أيا كونان توحَّدا، وَيْحَكُمَا، ناب الأسود عليكما، فتجشما، زرفت صخور الحي دمعًا قد أذاب التل من نجواكما، وتصدعت أصلاب رافود الذي ثقب السحاب لحبكم فتنبَّها، فانتبها ثم كان ما كان، فلقد كان إخلاص الزمرة الصالحة باعث الثأر القريب منهم، فحين نظروا حولهم، وكانوا يظنون أن كل حربة برجل، وجدوا أصحابهم بين مصروع ومأسور، أسره خوفه، فلا يستطيع نهوضًا بين مخالب الأسود، ولا حركة، ولما التفتت الأسود إلى أخواتها مصروعةً بحراب هذه الزمرة، التفوا حولهم وأروهم من الشراسة ما لو حكاه البيان لشاب، ومالوا إلى قتلاهم يمسحونهم بأعناقهم، وتجري عيونهم بدموع محبة تحاكي فيهم مظاهر الرحمة، وتنفطر دخائلهم، وتهتزُّ من أعماقها بصيحات الفقدان والأسف، وتناجوا فيما بينهم بأنينٍ باكٍ، وزيرهم الراشد، وأميرتهم الأمينة (رماحة) وبقية الشهداء المجاهدين، ثم اجتمعوا على كلمة (رزان)؛ لينصرفوا إلى سلطانهم المنتظر تعصف به أجواء القلق تاركين أناسًا أحياءً منهم على مراد وعمد.

عادوا إلى السلطان يجرُّون أقدامهم من الخطب الذي أحاط بهم، ويعتصرون ألمًا وحزنًا على فقدانهم وزيرهم، وأميرتهم، وجُنْدًا من خيرة الجند، ولما شارفوا على ساحتهم، قدَّموا قدمًا، وأخَّروا أخرى، تتقطع قلوبهم بما ألَمَّ بهم، ولا يدرون كيف يقصون على سلطانهم الفاجعة والخطب، وكان السلطان قد بعث عيونًا يترقَّبون العودة ويزأرون زئير البشرى، إذا أهلَّ بساحتهم هلال الجند،

ولما سمعوا تجاوب الأهل، أسرعوا السير إلى سلطانهم، فما بقي في جعبة التردُّد سهم، ولما أتوا السلطان، ساءلتهم عيناه (رماحة)، وبقية الجند، وساءلهم، وقد رأى في عيونهم ما لا يَرضى، فتمتموا بالزئير، وما أجابوا، فحالت هيئة السلطان من شموخ وكبر، إلى طباع فريسة تلتمس ألا تُقتل، فساءت (رزان) حال سلطانها المبارك، فأوحت له، وأومأت بالذي أصاب (رماحة) وأنها قتلت بناب الحيوان عند التل، ففزع السلطان، وارتعد وكاد أن يسقط على الأرض في رعشة صاحت بأوصاله، لولا أن تماسك، وسار بين حاشيته والجند يصطدم وتتمايل به أقدامه، ولا يعي ما يفعل من هول ما نزل به وحاق بخاطره، ثم أخذه نازع المحبة، والذي كاد يطوي الأرض طيًّا؛ ليودع الأميرة المعشوقة، والنبيلة الوفيَّة، وصديقه، وبقية الجند، وناشده الجمع في توليه يلتمسون أن يظلَّ بينهم، أو أن يرافقه منهم من أراد؛ لما رأوا من خطر الحيوان وكيده، إلا أنه أَبَى في شموخ منكسر، وعزة شاخت وهرمت، وانبرى بما تبقَّى فيه من نوازع القوة التي وهنت، يطلب الأميرة عند التل.

وأفاق مَن تبقَّى عند التل من مخالب الأسود، فنهشتهم مخالب ضمائرهم، ولاموا أنفسهم بما أوقعوا بأصحابهم، لما تمادوا في العي والتقصير، وقاموا يجرون أقدامهم، وقد راعهم ما حل برفقائهم، فانكبوا عليهم يقبلون وجناتهم، وأيديهم، وأقدامهم، ويعتذرون لهم، ويلتمسون بالحديث إليهم في سكينة الموت الصفح والغفران، ويضمونهم إلى صدورهم ضمةً توقد في صدورهم نيران اللوعة والفراق، وتزفر صدورهم آهات يكاد وهجها يلهب الهواء،

فأبكى نحيبهم ما شهد من طير وشجر وحجر، وحملت الريح صيحات البكاء، وناحت فسمعها الفارون، وكانوا قد اختبؤوا من قدر كقدر (واقد)، إلا أنهم صعقوا؛ لما سمعوا نحيب أصحابهم وأفاقوا، وعادوا يجتذبهم النحيب، ويردهم شيطان الخوف الذي وكل بهم، حتى وصلوا التل وأصابهم ما أصابهم، وكأنما فرُّوا من القتل مرةً؛ ليموتوا في المشهد الذي راعهم مرات ومرات، فجثوا على ركبهم، وأذهب الكمد عقولهم، فهم أصحابهم الذين كم زرعوا وحصدوا، وكانت أيديهم بأيديهم، وكم ألَمَّ بهم "وكاسات" الحب التي كانت تداويهم، وكم فرحوا وسروا، وغنت شفاه الوصل ما أحيا الهنا فيهم، وكم وهنت قواهم، واستقام العون يحييها ويحييهم، وأمسوا في جبين التل ذكرى تسوم الروح تكويها وتكويهم، ونهضوا جميعًا يحملون أصحابهم، وتسيل أرواحهم المجروحة على جسمانهم الطاهرة، وتختلط دموعهم المنسكبة بدمائهم الزكية، تسير بهم أقدامهم إلى (يسار)، أما أرواحهم فشاردة معذَّبة بين تخوم الذكريات.

حملوهم وتوجهوا إلى يسار، وكأنما تملك الحزن من دخائلهم وتلوَّى عليها، حتى ساروا وكأنما تكسَّرت فيهم عظامهم ذاهبة عقولهم في الفكرة، وتابعة إياها عيونهم، فيتعثرون تارةً، ويسقطون أخرى، وتلثم الصخور الحادة أقدامهم، فتدميها وهم لا يشعرون، فعلى أكتافهم حملوا الأصدقاء الخلصاء الذين كم شاركوهم فرحهم وحزنهم وكان منهم السَّنَد والعون، حملوهم شهداء، وكانوا يتمنون أن يعودوا رافعين رايات العزة والنصر، وشعورهم أنهم غدروا بهم يعود عليهم وكأنه سهام كاوية تغوص بأبدانهم؛ حتى تتلاعب بالأكباد،

وصمود الأبطال الذين دافعوا وقاتلوا وقتلوا يصليهم بنيران الندم واللوم، فتزفر صدورهم بآهات ليس لها في قاموس الإنسانيَّة ترجمة إلى اليوم، ساروا يجرون أقدامهم جرًّا حتى وصلوا إلى (يسار)، وكان قد قام يترقب القوم، فلما رآهم وقف ساهمًا، ووافته رعدة غزت جسده كله، واعتقلت الفاجعة لسانه، وترجمت الحادثةُ فيه رعشته وعينيه الباكيتين، وفمه الذي يتردد بكلام لا يُفهم، وانتبه الأهل فسالوا إليهم، وتساقط القادمون على الأرض، وعاجلتهم إغماءة شابهت سكينة الموت، وظل الأهل ذُهْلى من مشهد أخذهم بالفقدان المخضب بالدم، يحركون شهداءهم، ويلتمسون منهم العودة والرُّجْعَى، ولكن القضاء تحتم ومخلب الموت كان قد استقرَّ، والتزموهم يبكونهم، وكأنما أظلت الفدائيين سحائب منهلة برهام الدمع.

وكان مشهدًا أبكى الدهر حين أقبلت (أم راشد) تنظر الأمر، وقد ذهب بصرها إلا قدرًا يكشف لها أنحاء الطريق، وذهبت قواها، فلا تستطيع أن تسير إلا متكئةً على ولدها راشد،

وكانت قد صاح بها الوارد حين أصاب (راشدًا) مخالب لبؤة شرسة عند التل، ولكنها كذبت ما همز خاطرها، حتى وثقته ضجة القوم، ففزعت من مستقرها، واتكأت على فرع شجرة، وانتفضت ناحية البكاء لا قدماها يناصرانها على سير، ولا عيناها يخبرانها ما الخطب، ولا الأهل يلتفتون إليها، وهم فيما هم فيه من بكاء الأحبة الكرماء، وهي في طريقها تتعثَّر فيما ارتفع وانخفض من الأرض، وتصيبها في كل عثرة ارتباكة السقوط، إلا أنها كانت تتحامل في عزيمة وصبر، وما سقطت إلا حين رأت راشدًا صريعًا على الأرض، وكأنما ذاب بنيانها وانهارت حول ولدها تضمه إليها في ذهول أخذ بنفسها وعقلها وخاطرها، ماسحةً وجهه وعنقه ويديه، وظلت به تستنطقه وتستعطفه؛ ألا يغدر بها ويرحل؛ فلقد كان عينيها اللتين ترى بهما، وعونها وسندها وقاضي حوائجها، ووريدًا ممتدًا إلى قلبها، وخاطرًا لا يعمل إلا به عقلها، وبغيةً لا تحيا إلا لها، وكم كان يحكي لها صراع (واقد) مع هذا الشبح الملعون،

وكانت تناشده بحقها ألا يتعرض له، ولكن البطل لا يستكين لضعف، ولا يطمئن إلا في ساحة المنافسة، فخارت قواها عن أن تفوه بكلمة بعدها، وظلت أمارة محبة، هامزة كل مَن رآها بسهام الشفقة والحزن.

وهنالك إذا نظرت في الآفاق، هالك السلطان مقبلاً في طريقه يطوي الأرض طيًّا، ولو اعتليت جبلاً من الجبال التي بين رافود والتل، لخلته صدر سيل طغى لا يقوم له شيء، انطلق بكل ما لديه من طاقة وقوة، لا يدري إذا بلغ مراده أي قوة تسعفه، إذا أراد العودة، لكنها - وليس إلا - نظرة الوداع لمحبوبته الوفية (رماحة)، ووصل السلطان قمة التل، وافترسته النظرة، وخانته قدماه، فسقط حتى أدمت الصخور جسده، وغزاه الألم حتى أثَّر في عظامه، لكن الألم الذي سيطر على نفسه كان آلم وأشد، فزحف حتى أحاط (برماحة)، وحارت روحه في أوجاع تتردد بين أن ينزع الناب الناشب في جسد ممتدة روحه إلى جسده، وأن يتركه خشية أن تتألم في سكينة الموت، لائمًا بزئيره الذي حال إلى أنين نفسه التي دعا تكبُّرها إلى أن يحل بهم ما حل، ومتوجهًا إلى (رماحة) بالتماس الصفح والغفران، ودموع بعيني الوحش يعبِّر بها ما جاش بصدره إلى واقع الوجود، إنها أبلغ دمعة تحاكي الرحمة في الموجودات كلها، لما طغى في صدره ما طغى، وعض الحزن صدره، ولما طوى وقصر عن التعبير لسانه، بكى قلبه ووجدانه، وحاكته دموع عزيز على السبع أن يُرى عليها، وظل يبكيها ليلته في ظلام ناغاه ضوء القمر، حتى تحوَّل التل إلى لوحة باكية، لا يستطيعها يَراعُ كاتب ولا عبقرية رسام.



ولَمَّا أذنت الشمس بالقدوم، لثم السلطان الأميرة، وانتفض فيه مراد الثأر، وعزم على أن يداهم الحيوان المفسد في عقر داره، فانبرى إلى وادي الشهاب، والألم ينمو إلى كل بدنه ويستوطنه، حتى إذا وصل مقدمات الوادي، لمحه (يسار) ومن معه في عودتهم الحزينة من دفن الأحبة ووداعهم، فنادى (يسار) بصوت عضه الألم والشفقة بالقوم أن يلجئوا للخيام، ويغلقوها عليهم، ولا يخرجون منها، حتى يكون هو الطارق عليهم أبوابها، ووصل السلطان في سرعة خاطفة إلى الوادي، لكن أولاد آدم كانوا قد لجئوا إلى خيامهم، واختبئوا فيها، وغلَّقوا أبوابها، ولما رأى الجموع وقد التهمتها الخيام وغُلِّقت عليهم، تخاصمت فيه بواعث الانتقام، وخيفة المنعة، وأن يعود دون أن يأخذ بثأر المحبوبة التي قتلت بأيدي الآثمين، فهجم على الخيام وكأنها فريسته، وحاول أن يمزقها بمخالبه الباطشة، إلا أنها امتنعت عليه، وباءت كل محاولاته المتكرِّرة بالفشل، وحينها استفاقت فيه شياطين الأوجاع، وتضامنت معها شياطين اليأس والخيبة، فاستدار السلطان في حركات متمايلة لا تحمله أقدامه، ولا تعينه عزيمته على التماسك، وما تبقَّى فيه إلا زئير تردد منه، لا يدري السامعون هل هي صيحات انتقام؟ أم صرخات ألم؟ واضطره اليأس أن يعود إلى التل، فاستقبل طريقه وركض في عنائه المتلوي على كل دقيقة فيه، حتى اضطر الألم قدميه أن تغدرا به من فوق تلٍّ عالٍ بين الوادي ومثوى محبوبته الوفيَّة، فسقط السلطان النبيل إلى الأرض، فتلوى على نفسه من جد ما وجد، وطغت على عينيه دموع الألم، وفي حركات بطيئة أخيرة استقبل بعينيه الذاهبتين مثوى أميرته الوفيَّة، وهمس بأصوات متقطعة لفظ معها أنفاسه الأخيرة، ترجمتها الرياح بعدها أنها كانت حروف رماحة.



وصادف هروب (يسار) هروب أخيه مراد، فجمعتهما خيمة واحدة، ودار بينهما حوار أشبه بالصراع، فقال مراد وقد تزملت عقله سَوْرة الغضب: أخطأت يا يسار، وأصاب كل منا سهم من ضريبة حكمتك، فاحتبس لسان يسار بكاء مكتومًا منعه الجواب، واستمر مراد في حديثه: ناشدناك النصح، وأبيت إلا أن تستأثر برأيك، وما يوصف أمرك إلا بالتهوُّر، هل طاوعك خاطرك أن تقذف الصحبة بحرابهم؛ ليصارعوا هذا الحيوان الكاسر؟ أو هل تصح التجربة في هذا الخطر الداهم؟! تعست وتعست أيامك، فقال يسار: رحماك يا مراد، فقال: وهل رحمت أهلك وذويك؟! بعثتهم ليموتوا ولا خلاص، وإنها لشاذة أن يعود منهم أناس أحياء، فقال يسار: إنها حادثة تعلمنا منها، وضغمنا خطؤنا، ولن نكرره، وسنورِّث اجتنابه الأبناء والأحفاد، فقال مراد: كيف ذلك، وأنت لم تتعلم منه بعد، ونحن الآن في قبضة هذا الحيوان الموتور بسبب السفاهة التي أبديتها أمس، فلقد ظننا أنك ستأمر بجمع الزاد واسترفاد دواب السفر، وكنا هجرنا الوادي المرصود إلى وادٍ نأمن فيه على أنفسنا وذرياتنا، ولكنك مكثت وكأنك ما كفاك قتلى أمس، قال يسار: وإلى أي الوديان وددت أن نهرب؟ قال: إلى وادي فرقة، نسكنه حتى ينتهي الطلب، ونعود إلى هذا الوادي إن عاد إليه أمنه،

قال يسار: وما أدراك أنه آمن؟ قال: يوم قتل (واقد) اختطف فرد منهم صيدًا من غزال في شباك كنت قد نشرتها له؛ فعلمت بذلك أن عداوتهم للغزلان كعداوتهم لنا، وأنهم والغزلان لا يجتمعون في وادٍ واحد، وإني ما رصدت وادي فرقة إلا ورأيته مليئًا بقطعان من الغزلان الكثيفة، يحيون في أمان، ولا يفزعون إلا بمروري، فقرأت في أمانهم السلام، قال يسار: وهكذا كان وادينا، قال مراد: دعنا من "كان"، قال يسار: وما يدريك؟ لعلك يدهمك يومًا خطر أفتك من هذا الخطر، ولعلك لا تجد إن لاحقك ملاذًا للهرب، قال مراد: دعنا من "لعلَّ"، إن الوديان كُثُر، وأرض الله واسعة، ولو كنت أطعت نصحي، لكنا قد سلمنا مما حاق بالصحبة والأحبة، فَصَمَت يسار عن قول أخيه، وتاهت عيناه في أسراب من الهمِّ لاحقت عقله ووجدانه، وأصبح في الخيمة الواحدة خصمان بعدما كانوا على قلب رجل واحد.

وخرج الناس بعد أيام من خيامهم بأمر يسار بعدما نفث الطمأنينة في صدره صمت المكان، وأصر على موقفه الراشد، ولم يغادر زرعه ولا مواشيه، و ضافره في ذلك الفلاحون الأبرار الذين فكروا مرارًا وتكرارًا في الهروب، ولكن نازعتهم إلى بساتينهم فطرة كفطرة بِرِّ الوالد بولده، وأما مراد فأصر على رأيه الراشد، فهجر الوادي بإبله وغنمه، وطاوعه في ذلك زمرة مباركة ممن هزَّت الفاجعة صدورهم، واضطرتهم رهافة أحاسيسهم أن يحافظوا على بنيهم وأحبتهم، وحملوا متاعهم، والتزموا ركابهم، واعتمدوا طريقًا مشؤومًا حين كان الطريق بادرة الفراق، ووقف يسار يشاهد رحيل الركب الذي خاصمه بعينيه المغمورتين بالدموع، وبرجفة في قلبه أجثته على قدميه، يناشد الركب بالمكوث، ويتوسَّل لمراد ألا يغادره، ويسائله: من أي سبيل أصابت صدره كل هذه القسوة؟ ويناشده ألا تأخذه حادثات الزمان إلى الافتراق؛ فإن هذا الهجران له ما بعده، ولكن مراد أصر على ما نوى، ويمَّم الطريق الفارق إلى الوادي، وكانت النهاية بداية.

وقد كان على جبل من الجبال المحيطة بوادي الشهاب ملَكٌ نزل إلى الأرض في مهمة سماوية ، وكانت له في عبادته مدة يقضيها في تأمل كون الله الشاسع قبل أن يعود إلى السماء ، وكان قد شهد الصراع بين الأسود وبني الإنسان ورأى مدى الشراسة التي بلغته من الطرفين ، وعلم أن للإنسان خطراً لا تبلغه أخطار الحيوانات مجتمعة ، وأن مرجع ذلك إلى قوة تعينه على أن يتحايل لكل موقف بما يناسبه ، وأن جوارحه تتحرك بطلاقة ومرونة بأمر هذه القوة لتشكل ما أرادت في دقة متناهية ، وأدرك أن لهذا المخلوق مشاعر تتجاوز مشاعر الحيوانات جميعاً ، وأنها لا تتغير إلى نقائضها بتغاير العمر كما رأى في الحيوانات فقد تصارع الأبناء إذا بلغت مبلغها آباءها ، أما هذا المخلوق فإنما تزداد مشاعره في أعماره رهافة ، وشاهد طفلاً لم يدرك بعد شيئاً حطم صندوقاً من ألياف النخيل وعلم أن ذلك إنما لباعث التطلع الذي فطر عليه ؛ وأن طابع تطلعه يأبى أن يترك شيئاً مغلقاً ، وراعه الفساد الذي صنعه الإنسان فيما أحاطه من كائنات ؛

فلقد حاق فساده بالكائنات المسالمات حين صنع من الآلات ما سد عجزاً كان فيه وأدرك أن سبب ذلك ليس لأن الفساد فطرة فيه أو نازع به حين خرج من فريق المجاهدين زمرة ناشدتهم الرفق والرحمة وتأكد ذلك لديه حين علم أن فساد الآثمين كان مرجعه ضعفاً كان فيهم فالذين تمكنوا من الآلة التي صنعوها وكانوا على تقنة ودربة صالحة بالمحاربة بها كانوا ينتظرون أن يستعملوها في عدوهم ليأمنوا خطره وحسب، أما الآثمين فلضعفهم وعدم مكنتهم بها زاد شعور الضعف في قلوبهم فحاولوا أن يخفوه بتمكينهم الحراب المسخرة في ضعفاء أمثالهم ، وثبت ذلك لديه لما فوجئوا بالأسود فثبت الأبرار ذوو المكنة وفر الضعفاء، وعلم الملك أن صراع المشاعر في دخيلة هذا المخلوق أشد عليه من صراع الكائنات المحيطة به ولو اجتمعت، فإن استطاع أن ينتصر عليها أصبح رسول رحمة وخير، وإن انتصرت عليه أصبح شيطان إفساد وضير، وأدرك الملك أن هذا المخلوق بمشاعره التي شبهها للملائكة حين قص ما شاهده لهم أنها كأشد ريح تتلاعب بأشرعة السفن أنه كون عميق بعيد الأغوار وآل على نفسه إن كان الإنسان نفسه يدرك هذه الأعماق، ونفض الملك في مشهد الفراق بجناحيه وطار إلى السماء مسبحاً لله الذي خلق في الأكوان أكواناً.

وعاد الملك إلى الأرض بعد ثلاثة آلاف عام يقضي مهمة سماوية أخرى وكان له مدة كالسابقة يتأمل فيها الكون فأنهى مهمته وطار إلى وادي الشهاب فهاله ما رأى وسمع فلقد صادف أول ما صادف أسوداً محبوسة في أقفاص علم جيداً أنها من صنع الإنسان فتعجب من قوة هذا المخلوق وبطشه الذي تجاوز بطش أعتى الحيوانات في الغابة ، ونظر وقد امتلئ وادي الشهاب ووادي فرقة الذي يبعد عنه بأميال وأميال بأناس من نسل الأخوين يسار ومراد ، وصادف الملك حرباً ضروساً شاهدها بين أحفاد الأخوين ، ففزع لما رأى ، وعلم أن كيد هذا المخلوق الذي سجن أشرس حيوانات الغابة في قفص من صنع يده كفيل إذا تحول عليهم بأن يحييهم في ظلمة تعصف بها أسلحة الموت ، ولو كانوا كادوا لأنفسهم لا بها لانتصروا على كل حزن وصعب وعاشوا حياة النعيم ، وتعجب حين سمع عن سبب الحرب وأنه لنازع في النفس أسموه التعصب للجنس والعقيدة واللون وتذكر حينها مشهد سام وحام الذي أبكى الصخور الجوامد، وما استطاع الملك أن يشاهد كوناً تتصارع عناصره وكان قد عهد في الكون من حوله التكامل فنوى العروج إلى السماء ونفض بجناحيه آملاً أن يعود الآثمون إلى حكمة سمعها من داعٍ يقرأ من كتاب سماوي مقدس تاه صوته في غوغاء الصراع :

«إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي»

وآية أخرى تخبرهم بحكمة الخلق :

« يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم»

ودعا لهم أن يهتدوا إلى التحاب لا التباغض وإلى السلام لا الحرب وإلى التكامل ، ثم أكمل عروجه إلى السماء وقد بعث برسالة أقصها عليكم: اعلموا أنكم لآدم ومهما افترقت بكم الوديان فما أنتم إلا أولاد أعمام أو أولاد أخوال ، أبيضكم وأسودكم وأحمركم كرماء ، ومؤمنوكم رسل الرحمة ، وملحدوكم ضعفاء ، وما بدت لكم منهم براسن الشر إلا لأنهم جهلوا أن لهم رب هو أرحم بهم من آباءهم وأمهاتهم ، فهم بذلك أضعف الخلائق أجمعين ، وسيقص عليكم يوماً كاتب يدعى خالد ما جرى من الضعفاء الذين طلبوا الأسود عند التل فساموا الكائنات المسالمات ألوان العذاب ، فارشدوهم إلى سبيل ربهم حتى لا تكون فتنة ويصيروا وقد افتقدوا ملاذ الرحمة أعتى ما حملت الأرض ، وإنكم وإن اختلفت ألوانكم وأشكالكم وطباعكم وأخلاقكم وعقائدكم إلا أن دمكم واحد ، وفيكم روح مكرمة طاهرة من نفخة الله عز وجل ، فزكوا أبدانكم التي تحويها بطاعته ، وأفيقوا .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى