السبت ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

جنون الحزن

تصدر من أمي صرخة مدّوية كالتي تطلقها المرأة في حالة الولادة، تهزُ أركان شقة خالتي أم سامر من جذورها، تنتحب وتبكي وترثي أختها الملقاة كسجادة على الأرض بعد أن فارقت الحياة قبلَ لحظات، فتقفزُ أمي صارخة وكأنها تريد تمرير الحبل من تحتها كي لا تقع، وتهزُ رأسها ذات الشمال وذات اليمين كالبندول وتنفشُ شعرها الفضي بعدَ أن مزقت ثوبها وتقول، أختاه لماذا ذهبتِ وتركتني هنا وحيدة في هذه الغربة القاتلة القاسية، سأشعر بالتعاسة من بعدكِ، ها ....... أجيبيني بالله عليك ولا تجعليني أتحدثُ مع نفسي كالمجنونة، فلم يبقى لي أحد من بعدكِ، لماذا ذهبت ؟، فتصرخ مجدداً فتحدثُ دويه عارمة في الشقة تماماً كالصفارة التي تطلقها باخرة حينَ تستعد بمغادرة الميناء .

تجرحُ أمي خدودها بأظافر يدها دونَ وعي أو إدراك وهي في حالة إعياء شديد فتنزف، فتسقط الدموع على الجروح الملتهبة ليزداد المنظر هولاً ورعباً، فتنزلق الدماء والدموع الحارة على صدرها العاري المكشوف، وأبقى أنا أنظر إلى هذه المأساة كما تنظر الغزال إلى النمر في لحظة صيدها، كانت نظراتي شاردة، ساكنة لا تمثلني، ولا تنتمي إلى هذا العالم وتكاد تنطق بمليون سؤال وسؤال دون أن أجد لها أي جواب .

يرتعشُ جسدي ويهتز كقصبة في مهب الريح، من الخوف والفزع والمنظر المرعب الذي أشاهدهُ أمامي، فيعتصر قلبي حرقة لم أألفها فيكاد ينفجر، عندها لم أشعر بأنَ ساقيي تستطيع حملي أو كأنهما ليسا موجودان، فأخرُ ساقطاً على الأرض بينَ الوعي وإلا شعور، وفي هذه اللحظة بالذات يدخلُ أبنَ خالتي سامر مرعوباً، راكضاً كمنَ شاهدَ حريقاً هائلاً شريراً وهو يدمدم، أمي حبيبتي، لا تتركيني لوحدي هنا، أرجوكِ ثم يقول كلمات لم أفهم لها معنى ويحاول أن ينتشلني من الأرض ولكن المنظر جعلهُ أكثراً بروداً كالمصدوم لا يتحرك، فأمي أصبحت تبكي بهستيريا أكبر وتدقُ صدرها العاري بقوة براحة يدها، حتى باتَ لي بأنَ قفصها الصدري الهرم سيتحطم لا محال كعيدان ثقاب، تحت تأثير ضرباتها القاسية تلك، وتنتحبُ وكأنها تعاني أو تقاوم لحظة الموت المفاجئ .

أنتبه سامر على نفسه فدفعني إلى خارج الشقة وهناك حضرَ المدير الفني لصيانة البناية النمساوي الأصل هلعاً وهو يقول ما ..... هذا وما الذي يحصل هنا ؟، فينزع نظارته ذات الإطارات الفضية والعدسات الدائرية وكأنها نظارات المقاتل الليبي عمر المختار، فأردفَ سكان البناية فزعوا من تلك الأصوات فاتصلوا بالبوليس وهم في طريقهم إلينا الآن، أرجوكم قولوا لي ما الذي يحدث ؟.

وما أن استعدت قوتي وبدأت في الوقوف مجدداً، حاولت النطق وكأنني عشتُ طوال حياتي أخرس، وها أنا أحاول التكلم لأول مرة، فقلت خالتي ........ خالتي قد توفيت، وأمي ........ أمي في حالة يائسة تعزي أختها بطريقتها الشرقية، وأنا ........ أنا وأبنَ خالتي كما ترى لا نقوى على الوقوف، أرجوك قدر ظرفنا وحالنا البائس، ودعنا نتدارك الموقف لنفعل شيئاً ...... لم أكمل كلامي، ليحضر البوليس، وهيئتهم وحدها كانت كافية لإدخال الرعب في قلوبنا المحطمة، ليبدو وكأنهم حضروا ليلقوا القبض علينا، فأشارَ سامر بيده وهي ترتعش، كانت ناقصة وستكمل على أيدهم .....................

ظهرَ ضابط البوليس معَ زميلته الجميلة التي تبدو وكأنها قادمة لتوها من حفلة، تعلو الابتسامة محياها، لتقف أمامي كما يقف الجنرال في ميدان الحرب بساقين مبتعدتان عن بعضهما البعض ليكونا كرقم ثمانية، فيبادر الضابط بسؤالي ببرود حاد وكأنه يطلب من النادل أن يحضر له نبيذه المفضل، فقال ما الذي يحدث هنا ؟، قلت وأنا أفرك رأسي كالقرد عندما يفكر، في الحقيقة ...........، كل ما في الأمر .......، ثم شرعت مسرعاً كالطلقة فقلت له، من الأفضل أن تفتح باب الشقة لتلقي نظرة لما يحدث في الداخل بنفسك، فأنا أعجزُ عن التعبير، وكما ترى منهار جداً والشيطان وحدة يعلم ما أعانيه في هذه اللحظات الحرجة القاسية، عندها تقربت مني زميلته لأشم فيها رائحة زكية لعطرٍ فرنسي، أجهل نوعه، لكنه ساحر، فأنتفضُ مجدداً وكأني ولدت من جديد، فتسألني بعيونها الزرقاء بلون السماء حتى كدتُ أصدق بأن عيونها هي التي كانت تنطق، من هذا الذي بجانبك ؟، قلتُ منتعشاً، أنه سامر أبن خالتي، وأمه هي التي توفيت منذ قليل، وهذا الصراخ والعويل الذي تسمعينه، فهو صادر من حنجرة أمي التي ترثي أختها، بطريقتها الشرقية، تفضلي قلت لها، يمكن لكِ أن تتأكدين بنفسك، كما أن المنظر أراه استثنائي للغاية لكم، ولن يحدث عندكم إلا مرة في كل ألف عام، وقد لا يحدث أبداً، تفضلي وألقي نظرة.

استغربت من طريقة حديثي ووصفي للأشياء ومن عدم اكتراثي وحتى لاستعادة نشاطي بشكل مفاجئ ومن ينظر لي في تلك اللحظة، يعتقد جازماً، بأنني قد ربحت للتو بطاقة يا نصيب، فالنشوة التي كنتُ فيها لم اعهدها في طبعي من قبل، وأنا استغرب من تصرفاتي معها ومن طريقة كلامي ووصفي للموقف، وأنا الذي كنت قبل لحظات لا أستطيع النطق أو الوقوف، سبحان مغير الأحوال قلت ذلك وأنا أضحك في داخلي كالطفل، بصوت لم يسمعه سامر .

رجعَ الضابط إلى الوراء مصعوقاً وهو يشهر مسدسه عالياً كالسيف ويقول آمراً : قفوا ولا تتحركوا، ويطلب من زميلته الاتصال بزملائهم لمساعدهم، ويردف صارخاً بعدَ أن فقدَ توازنه، قولي لهم محاولة انتحار، واطلبي سيارة إسعاف حالاً، فالموقف خطير جداً وحساس للغاية ...........

ثم يتقدم نحوي ويبادرني بالسؤال، بحذر شديد وعن بعد مترين تقريباً، وهو شاهر سيفه ( اقصد مسدسه )، وكأنه يحملُ بيرقاً في يده، كيفَ توافق على تصرفات أمك وأنت تنظر لها وهي تشرع بقتل نفسها، أنها محاولة انتحار واضحة يعاقب عليها القانون المدني، ثم يشرع بالشرح، محاولة قتل النفس جريمة إلا تعلم ذلك ؟، وأردف متقهقراً كما أن الجريمة الأخرى التي أراها أمامي ماثلة والتي لا تحتاج إلى شهود عيان، أنكم تقومون بتلويث قدسية الميت بتصرفاتكم هذه، فللميت قدسية يجب أن تحترم وتقدر كما هي للإنسان الحي تماماً، وقد تكون أكثر قدسية وإجلال، فالشخص الحي يستطيع أن يدافع على حقوقه وحريته متى تسلب منه، لكن الميت لا يستطيع فعل ذلك، ولو كان الميت حياً لأقام الدعوة القضائية عليكم بنفسه، وتحت هذه الظروف الماثلة أمامي، أرى من واجبي أن نقيم الدعوة نحن بدلاً من المرحومة، فيردفُ متململاً، أعوذُ بالله، أي نوع من البشر أنتم، فللميت هيبة آدمية لم تراعوها، فأزعجتم المرحومة وهي في نومها الهادئ القدسي الجليل، كما أنكم، وبدت من بين أسنانه ضحكة خبيثة وكأنه يستشفُ فينا، فقال الجريمة الثالثة هي أنكم قد أزعجتم سكان البناية كلها وأرهبتموهم بأصواتكم العالية هذه التي تشبه صراخ الفيلة، ثم فجأة غلى الدم في وجه وبدأ يتكلم كالقاضي بعدَ أن بانت شرايين رقبته واضحة لي وكأنها تريد أن تنفجر فقال : هناك ثلاث جرائم حدثت، سأكتبُ فيها محضراً حالاً وستنالون عقابكم عليها بأذن الله ....... وهو ينظر لي بحقد وكأنني كنت قد قتلت أباه منذ أسبوع فقط.

بهتَ سامر وكأنه نائم، فلم ينبس ببنت شفة، أما أنا فبقيت جامداً في مكاني أهذي معَ نفسي كالمجنون وأقول : أنه جنون الحزن في عرفنا نحنُ الشرقيون يا سيدي، كيفَ أستطيع أن أشرح لكم، وحتى لو فعلت فسوفَ لن تفهموا علينا شيئاً، وكأنني سأرطن معكم بلغة لا تجيدونها، فالشرقي منا عندما يحب يقتل نفسه حباً، وعندما يكره، يكره بكل ما يحمل من حقد دفين وما جمعه لسنواتٍ طوال، فيظهره على دفعة واحدة إلى ضحيته، أما ما نؤمن ونعتقد به سواء بدين أو فكر أو عقيدة معينة ترانا سرعان ما نتعصب لها دونَ رؤية واضحة أو مبدأ عام، وحتى الموت عندنا مختلف ولم يبرئ من هذا السيل الجارف من الغرابة والتناقض، وكما ترى يا سيدي أمي لا تريد إلا أن تعبر عن حزنها في أختها .....، إننا نأخذ أمور الحياة هكذا على علىتها دونَ تفسير أو تحليل، ألم تسمع يا سيدي بأنَ معدل عمر الإنسان الشرقي يضربُ فيه المثل لقصره، أستغفر الله، ماذا أقول لكَ، نحنُ نعيش كزهرة الكتان تماماً، ففي الليل تستيقظ وعند النهار تنهار وتنام، وأما الإنتاج فهو آخر ما نفكر به، وأما التغيير والتجديد فهي قد محت من قاموسنا منذُ زمنٍ بعيد وانقرضت.

رفعتُ رأسي إلى سامر بعطف وقلت له بصوت رائق هذه المرة، أرجوك أجلب لي ورقتين وقلم سريعاً، دخلَ شقتهم مذهولاً من طلبي الغريب، وأتى بهم، فوضعت الورقتين أمامي وافترشت الأرض وكأنني أنوي الصلاة، لأكون وجهاً لوجه مع الضابط وهو يدون محضره الرسمي : هناك ثلاث جرائم .... أولاً ......، بينما أهمُ أنا بكتابة هذا المنظر قصة، قبلَ أن يبتعد فينا الزمن فتختفي الأفكار كالدخان، فأكتب : تصدر من أمي صرخة مدّوية كالتي تطلقها المرأة في حالة الولادة.

نرجو من الكاتب عدم كتابة النقط في النص بدون مبرر

فالنقط لها وظيفة لغوية وليست فراغيا بين جملة وأخرى


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى