الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠١١

دراسة في النثر الإيراني الساخر

منذ عهد الثورة الدستورية إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية

بقلم كمال شفيعي

شاعر وباحث

تعريب: حيدر نجف

لو أخذنا بنظر الاعتبار مقولة الروائي الانجليزي دانيل دوفو (القرن الثامن عشر الميلادي) بأن الغاية من الأدب الساخر هي الإصلاح، لتحتّم علينا الاعتراف بأن من أهم الأدوات التي اختارها الكتّاب والشعراء لإثارة نقودهم و التنبيه إلى آلام المجتمع هو استخدام الأدب الساخر في آثارهم. كان للأدب الساخر في إيران القديمة وحتى في عهود ما قبل الإسلام موقعه في الأدب الفارسي، حيث كان الكتّاب الإيرانيون القدماء‌ يستخدمون هذا الأسلوب من الحديث في کلامهم. ففي الآثار الإيرانية‌ المتبقية عن عهد ما قبل الإسلام، و منها (درخت آسوريك)أي(الشجرة الآثورية)، (يادگار زريران)أي(ذكرى زريران)، و أناشيد زرادشت في كتاب (افيستا) قسم (گاتها)، نلاحظ أنماطاً معينة من السخرية. فمثلاً هناك في (الشجرة الآثورية) مفاخرة و مناظرة يحاول الكاتب من خلالها ترجيح بطل القصة على الشخصية السلبية فيها باستخدام عنصر السخرية، و الأخذ بيد القارئ إلى الغاية التي يتوخاها. ينطوي (الشجرة الآثورية) على أسلوب رمزي يتجسد في مناظرة بين نخلة و معزة تحاول كل منهما إظهار تفوقها على الأخرى بالسب و التفاخر واستهزاء الآخر والتباهي بالنفس. و يبدو في هذه المناظرة نظراً لمستوى تفاخر و تباهي المعزة بنفسها و الذي يشكل نحو ثلاثة أرباع النص، يبدو أنها هي التي ستنتصر على منافستها، لكن مقارنة و تقييم الأقوال و التهديدات و السخرية تدل كلها على أن المعزة ‌ليست المنتصر الحقيقي في هذه المناظرة. المهم في‌ هذه المناظرة‌ هو رمزية المعزة و النخلة، و حينما نعالج هذه الرموز نستنتج أن المعزة ترمز للدين الزرادشتي، و شجرة آسوريك ترمز لدين عبادة الإله(آيور).

لو ألقينا نظرة فاحصة ‌على التاريخ الإيراني لوجدنا كتّاباً و شعراء ألفوا آثاراً قيمة‌ في مجال السخرية، و لا ريبة أن استعراض كل واحد من هذه الآثار يستدعي بحثاً واسعاً، لذلك آثرنا ‌أن نحدد البحث في هذه الدراسة بتسليط الأضواء‌ على السخرية في الأعمال النثرية الإيرانية منذ بداية عهد الثورة الدستورية إلى الفترة‌ التي سبقت انتصار الثورة‌ الإسلامية بقليل.

من الأحداث التي كان لها تأثير بارز في المجالات الاجتماعية و السياسية و الثقافية‌ و الأدبية الإيرانية هو دخول الطباعة لإيران، و إيفاد الطلبة الجامعيين للخارج من قبل الأمير القاجاري عباس ميرزا بغية نقل العلوم الحديثة لإيران، و بعد ذلك وقوع الثورة‌ الدستورية في مطلع القرن العشرين. قرون طوال من الاحتقان و العسف كانت قد ملأت قلوب الإيرانيين بالكثير من الهموم و الكلام، و قد توفرت في إطار الثورة الدستورية الفرصة لأول مرة لكتاب البلاد و شعرائها كي يسلطوا أضواء ‌النقد على قضايا البلاد المختلفة، و يكون لهم و لسائر أبناء الشعب دورهم في تقرير مصيرهم. كان معظم الكتاب في ذلك العهد يشعرون بمسؤولية كبيرة تجاه شعبهم فكانت معظم كتاباتهم صابّة لصالح الكفاح و النضال و شؤون الإصلاح السياسي و الاجتماعي، حتى أن الأعمال الأدبية في تلك الحقبة اتخذت فجأة و على نحو غير مسبوق طابعاً سياسياً و اجتماعياً بارزاً، فكانت ألسن العامة‌ تتداولها في الأزقة و الأسواق. اكتسبت الأعمال و المقالات التي كانت تنشر يومياً في مختلف الصحف أشكالاً و صنوفاً متنوعة حسب الأجواء و النقود التي يحاول الكتاب لفت أنظار القراء إليها. و من حيث القالب توزعت أعمال تلك الحقبة إلى المسرحية و المقالة و القصة و الحكاية ‌و الشعر و النثر و...، و من حيث الموضوع فإن الأنماط الأهم التي طرقها الكتّاب آنذاك في أعمالهم الساخرة هي من نوع: السخرية الدينية‌ (العقائدية)،والسخرية الأخلاقية و الاجتماعية، والسخرية السياسية (السخرية الصحفية).

السخرية ‌الدينية (العقائدية):

من المفترض أن يبقى الدين بعيداً عن السخرية و الاستهزاء، فالإستهزاء بمعتقدات الناس الدينية أمر مذموم و معاب، لكننا حين نعالج النصوص الأدبية على مدى التاريخ فی الفترات المختلفة نجد أناساً أساءوا استغلال الدين و معتقدات الناس وصولاً إلى مطامحهم المادية و الدنيوية التي أضفوا عليها الصبغة الدينية. بحيث مهّد مثل هذا التحايل و التزمت و التقليد الأعمى الذي انتهجه بعض السذج، الأرضية المناسبة لممارسة الدجالين استغلالهم، الأمر الذي وفر الأفكار و المواضيع للأدباء الساخرين كي يرشقوا بسهام النقد الخرافات و الاستغلال الذي يمارسه البعض بالتحايل بغية نهب الناس و التسلط عليهم منتهزين سذاجة الناس و أمّيتهم و خفة عقولهم.

يمكن تصنيف السخرية الدينية إلى ثلاثة أنواع، بمعنى أنها قد تتخذ ثلاثة قوالب من الممارسة‌ النقدية ينبغي التمييز بينها:

1 – السخرية‌ التي يطلقها شخص غير متدين، أو مشكك ضد الدين نفسه.

2 – النقد الذي قد يطلقه شخص متعصب ينتسب لفرقة ضد المذاهب، أو الأديان الأخرى.

3 – النقد الذي يوجهه المرء‌ داخل إطار الفرقة‌ أو الدين الواحد لأبناء‌ دينه و مذهبه و أساليبهم و ممارساتهم فيتخذهم بذلك مادة‌ لسخريته.

في ضوء ذلك ينبغي الاذعان بأن كافة الاختلافات الدينية و العقائدية التي حدثت في إيران في الحقيقة بسبب الاستغلال الواسع للناس أدت إلى ظهور عدد كبير من الكتابات الساخرة التي لم تعبر عن جانب من المناخ الأدبي و حسب، بل كانت مرآة تعكس الواقع السياسي و الاجتماعي و الثقافي و المعيشي المتردي للناس الذين تعرضوا للنهب و الاستغلال و الإهانة‌ على مرّ التاريخ.

سبق أن ذكرنا أن تصاعد أحداث الثورة ‌الدستورية و دخول الطباعة إلى إيران أدى إلى تحول فجائي في الأعمال الأدبية و تغير غير مسبوق في الكتابات و الأشعار التي اتخذت منحى سياسياً بارزاً إلى درجة أن صابر طاهر زاده(1948-2010) الشاعر و الأديب الساخر الكبير في بلاد القوقاز، و بسبب ميله و حبه الشديد لإيران، كتب بدوره حول الحرية و الدستور في إيران، و ترأس إصدارات و صحفاً ظهرت على غرارها في إيران لاحقاً بعض الصحف.

لصابر طاهر زاده بشهادة التاريخ سهم ملحوظ في التوعية‌ الفكرية و الثورة الدستورية في إيران.

و فيما يلي نموذج من نثره نشر في العدد الأول من مطبوعة «ملا نصر الدين»:

«أيها الإخوة المسلمون، حينما تسمعون مني كلاماً مضحكاً، و تفتحون أفواهكم، و تغمضون أعينكم، و تضحكون و تضحكون إلى أن تتقطع أمعاؤكم، و تمسحون عيونكم بأكمامكم بدل المناديل، و تقولون (لعنة ‌الله على الشيطان)، لا تظنوا أنكم تضحكون على الملا نصر الدين ....

أيها الإخوة المسلمون، إذا أردتم أن تعلموا على من تضحكون أمسكوا المرآة بأيديكم و تفرّجوا على وجوهكم الجميلة».

و من النماذج البارزة للسخرية في تلك الفترة صحيفة «چرند و پرند»‌ التي أصدرها المرحوم العلامة علي أكبر دهخدا (1878-1956) صاحب النثر الجذاب و البسيط و المنقطع النظير الذي جعل صحيفته من الآثار المتألقة في النثر الأيراني الساخر.

من أبرز الموضوعات التي طرقها العلامة دهخدا نقد الخرافات و المتظاهرين بالعبادة الدجالين الذين لا يقصدون من ممارساتهم تلك سوى استغلال معتقدات الناس و عواطفهم الدينية.

مقالات «چرند و پرند» عموماً من حيث الأسلوب و السياق الفني أدب ساخر ينزع نحو بناء شخصيات و اختيار مجالات و مناخات مناسبة، مضافاً إلى تمتين بنية القصة و تنضيج الفكرة و الاستنتاج، و هي من هذه الناحية‌ ذات شبه كبير بكتابات جليل محمد قلي زاده مدير مطبوعة «ملا نصر الدين».

و لمزيد من المقارنة و الإيضاح نذكر نموذجين من النصوص القصصية الساخرة أحدهما من مطبوعة‌ «ملا نصر الدين»و الثاني من «چرند و پرند» أوردهما الكاتب يحيى أرين پور في أحد كتبه القيمة:

يصوِّر محمد قلي زاده في مقال بعنوان «الحرية في إيران» عاملاً إيرانياً يتوجه إلى باكو من أجل العمل، و حينما يصدر مظفر الدين شاه القاجاري أمره التاريخي بالدستورية يجمع القنصل الإيراني كل الإيرانيين و يبلغهم هذه البشارة‌ الكبيرة.

العامل المسكين و اسمه محمد علي يسمع أن القنصل دعا كافة المواطنين الإيرانيين، و سوف يعطي غداً كل واحد منهم حصته من الحرية، فيفرح محمد علي و يتصور أن عهد بؤسه و أمثاله قد ولى إلى الأبد فيكتب رسالة ‌إلى إيران يطلب فيها أن يبعثوا له فوراً حصته من الدستورية!

بطل القصة في «چرند و پرند» لدهخدا نموذج بارز للأميين المغفلين المظلومين في تلك الآونة و غير المطلعين على الأوضاع في العالم، و الكاتب يعرض شخصيته على أنها مختلة بغية أن ينتقد ظاهرة الرياء لدى رجال الدين المزيفين.

«آزاد خان كرندي» صبي كردي جاء ‌إلى المدينة تواً و شاهد أحداثاً مختلفة يقول الناس في جميعها «ذهب الدين»، و يبقى في نهاية‌ المطاف حائراً ما هو الدين؟!

الشيء الذي ينتقده دهخدا في «چرند و پرند» له أساساً ثلاثة جوانب:

1 – نقد جهل الناس و أمّيتهم و عدم اطلاعهم حتى على القضايا المهمة جداً كالدين.

2 – الرياء الذي ينتهجه بعض رجال الدين في ذلك العصر.

3 – الوضع الاجتماعي و السياسي السيئ، و نظام الحكم، و المعتقدات المتحجرة عند الناس.

إلى جانب «چرند و پرند» و «ملا نصر الدين» كانت هناك صحف و مطبوعات، و حتى بيانات و منشورات سرية، تنتشر و تنمو بسرعة. على أن غالبية ‌الصحف التي ظهرت في عصر الدستور، مع أنها لم تهدف إلى غير الخدمة لكن كل واحدة منها قاست الدستورية بمعاييرها و مقاييسها. و بسبب عدم معرفة ‌الكتّاب بالأساليب الصحفية فقد ظهرت فيها مقالات و كتابات بلغة فجة و غير منقحة و معقّدة و مليئة بالصناعات الأدبية الزائدة و الحكم و الأشعار و غير ذلك. لكن هذه الأساليب و طرق الكتابة تغيرت شيئاً فشيئاً فتبلور نوع من لغة الكتابة ‌الصحفية الرصينة و شاعت. و تدريجياً بدأت تنشر في المطبوعات و الصحف مسرحيات و قصص قصيرة ساخرة أيضاً فضلا عن المقالات الساخرة. و كان من الأساليب الدارجة للأدب الساخر في ذلك الحين أسلوب يتظاهر فيه بطل القصة بالغباء و عدم الفهم ليقول كل ما يجب أن لا يقوله و ... .

و الأسلوب الآخر هو انتقال‌ الكاتب بطريقة ساخرة إلى المشكلات الاجتماعية و هو يتناول الموضوع الرئيس، كي يعبّر بذلك عن غايته.

من الصحف العديدة التي صدرت في تلك الفترة يمكن الإشارة إلى«ملا نصر الدين»، «چرند و پرند»، «مجله هفتگى آذربايجان»، «حشرات الأرض»، «بهلول»، «آيينه غيب نما»، «نسيم صبا»، «نسيم شمال»، «قاسم الأخبار»، «بوقلمون»، «زشت و زيبا»، «مهدي حمّال»، «جارچي ملت»، «گل زرد»، «جنگل مولا»، «چنته­ى پا برهنه»، «توفيق» و... .

في أيام الحرب العالمية‌ الأولى، و حتى بدايات عهد سلطنة رضا شاه، و قبل أن يحطّم رضا شاه جميع الأقلام، كانت صفحات الجرائد تشهد نقوداً و مقالات سياسية ساخرة ‌طريفة. و لكن مع انقراض الدولة‌ القاجارية و تولي رضا شاه مقاليد الحكم انحسر عدد الصحف و المجلات بشكل ملحوظ، و بدل ذلك تحسنت جودة الطباعة و عدد النسخ. و من الواضح في مثل هذه الظروف أن يتضائل عدد الكتابات السياسية و النقدية الساخرة نسبياً، لذلك ترك بعض الكتّاب و الشعراء الشأن السياسي، و اتجهوا نحو الموضوعات الفلسفية و الأخلاقية.

إلا أن احتلال إيران من قبل الحلفاء و عزلهم رضا شاه في مطلع الحرب العالمية‌ الثانية أحيى الأقلام و رفع الرقابة مجدداً، و مع أن صحفاً ساخرة ‌عديدة صدرت خلال هذه الفترة،‌ أي فترة انقلاب «28 مرداد، سنة1332 ش»، أي سنة 1953 م لكن النقد السياسي المباشر آنذاك كان قد شاع إلى درجة أن الكتّاب لم تعد بهم حاجة للكنايات و التلميحات، و بالتالي فقد كانت السخرية السياسية و الكاريكاتيرات في هذه الفترة شجاعة جريئة. يكتب ألول ساتن في مقال بعنوان «الصحافة الإيرانية‌ من 1941 إلى 1948» إنه إلى ما قبل شهريور سنة 1320 (أيلول 1941 م عزل الشاه رضا پهلوي و تنصيب ابنه محمد رضا پهلوي من قبل الحلفاء) كان في إيران نحو خمسين مطبوعة، و بعد احتلال إيران من قبل الحلفاء قفز هذا الرقم دفعة واحدة إلى 464 نشرية، لكن عمر أغلبها كان قصيراً.

ظهور هذه المطبوعات في إيران و تماشي الكتاب مع الثقافة الغربية و تعرفهم على عناصرها و نتاجاتها و خصوصاً الرواية، و القصة القصيرة، و المسرحية، و الأعمال المترجمة، خلق في الأدب الإيراني تحولاً هائلاً في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، و قلص الغموض و الكلام الفارغ إلى حد كبير. التعرف على الأدب الأوربي و ترجمة بعض الأعمال الأوربية مهّد السبيل لظهور القصة القصيرة و الرواية و المسرحية في إيران رغم وجود أنواع مختلفة ‌من السرد و القصص في الأدب الفارسي القديم.

من الكتابات و الروايات الإيرانية الأولى التي تركت تأثيراً كبيراً على الأجيال اللاحقة «سياحت نامه إبراهيم بيگ» أو «رحلة إبراهيم بيگ» تأليف زين العابدين مراغه­اي، و ترجمة«سرگذشت حاج بابای اصفهانی»أو «سيرة الحاج بابا الأصفهاني» تأليف جيمز موريه. احتلت هذه السيرةبترجمة الميرزا حبيب الأصفهاني الجزلة مكانة‌ هامة‌ في الأدب الإيراني إلى درجة أن الكثيرين ظلوا يعتبرونها إلى فترة طويلة من كتابة ‌أحد الإيرانيين. يشكل نقد السياسة و الدين الركنين الرئيسيين لكتاب موريه. فهو يعتقد أن حال الإيرانيين لم يتغير كثيراً عما كان عليه في الأزمنة القديمة و قد أشاع نظام الحكم الظلم و الجور بين كل طبقات المجتمع. كل مأمور يعاني الظلم من رئيسه و يسمع منه السباب يكرر الأمر نفسه مع من يترأسهم و بقسوة أكبر فيتعسف ما استطاع و يجحف ما استطاع، و لأنه لا يوجد مرجع صالح يحمي المظلومين تنتشر صفات التملق و الكذب و غيرها من الصفات القبيحة الذميمة بين الناس على نطاق واسع. و كما مرّ بنا، فإن «سيرة‌ الحاج بابا الأصفهاني» و ترجمات أخرى أصبحت نماذج جيدة تحتذى بالنسبة للكتّاب الإيرانيين. كانت الأعمال الروائية الأولى في الغالب روايات تاريخية من قبيل نتاجات محمد باقر ميرزا خسروي، و شيخ موسى، و صنعتي زاده كرماني، و لم يكن فيها طابع ساخر ملموس. الطائفة الأخرى من القصص التي ظهرت بعد ذلك بفترة ‌وجيزة كانت روايات اجتماعية نظير طهران المرعبة لمشفق كاظمي و الزمن الأسود لعباس خليلي التي ركزت على تصوير الواقع الاجتماعي السيئ في إيران. و مع أننا يمكن أن نلاحظ فيها أحياناً بعض المشاهد الساخرة، بيد أن معظم الأعمال في هذه الفترة كانت ذات مسحة تراجيدية و محاطة بهالة من الحزن و الألم.

بعد هذه الطائفة من القصص -التي لم تكن في الغالب أعمالاً إبداعية مميزة، و سرعان ما علاها غبار النسيان- جاءت فترة جديدة من الكتابة القصصية بظهور مجموعة قصصية صغيرة لمحمد علي جمال زاده (1892 – 1997 م) بعنوان «يكي بود يكي نبود»‌ أو «كان يا ما كان» التي يمكن القول عنها بحق أنها بداية كتابة القصة القصيرة في إيران. كتب محمد علي جمال زاده قصص «كان يا ما كان» خلال الأعوام (1320-1333 هـ ق)، و نشرها تباعاً حتى العام 1921 م. و لکن صدورها على شكل كتاب تأخر الى عام1941 م، و مع ذلك و بسبب أهميتها و مكانتها في شق الكتابة القصصية الإيرانية طريقها يجب اعتبارها نقطة‌ انطلاق الكتابة‌ القصصية ‌في إيران. يقول جمال زاده في المقدمة المهمة لـ (كان يا ما كان 1921)‌:

«في بلدنا إيران يمكن أن نلاحظ لسوء الحظ جوهر الاستبداد السياسي الإيراني - الذائع الصيت عالمياً - في أدبنا أيضاً. بمعنى أن الكاتب حينما يمسك بالقلم ينظر فقط لجماعة الأدباء و الفضلاء، و لا يلتفت للآخرين على الإطلاق، و لا يأبه حتى للكثير من المتعلمين ممن يقرأون و يكتبون و يستطيعون قراءة و فهم الكتابات البسيطة غير المتكلفة بصورة جيدة، و باختصار فإنه لا يكترث للديمقراطية الأدبية».

لذلك أدخل جمال زاده أسلوباً جديداً من الكتابة القصصية إلى الأدب الفارسي و قدم ست قصص استعرض فيها جوانب من الوضع في فترة الثورة الدستورية و طريقة عيش الناس في تلك الحقبة باستخدام لغة بسيطة و كأنه يرسم بالتعابير العامية. تتمتع هذه المجموعة القصصية بأهمية فائقة لا فقط بسبب السخرية الجذابة و المؤثرة فيها و إنما لمبادرتها التجديدية في الأدب الإيراني أيضاً.

من بين القصص الستة في مجموعة «كان يا ما كان» هناك ثلاث قصص ساخرة تماماً هي: «فارسي شكر است» أو «اللغة الفارسية سكّر»، و «بيله ديك بيله چغندر»، و «رجل سياسي» أو «شخصية سياسية». و القصص الثلاث الأخرى ساخرة إلى حدّ ما.

«رجل سياسي» سيرة رجل حلاج يبدأ بالتفكير بالعمل السياسي بسبب ملامات زوجته، و يذهب في مقدمة عدد من المعترضين إلى مجلس الشورى الوطني و يصبح هناك بالصدفة الناطق باسم هؤلاء الناس. و تتوالى أحداث عجيبة غريبة تدفعه إلى العمل السياسي تدريجياً، فالفساد في الأجهزة الحكومية في إيران كان قد بلغ درجة يستطيع معها رجل عامي جاهل تماماً أن يحتل مكانة لنفسه في الحياة السياسية و يصبح أخيراً بالنصب و الحيل شخصية سياسية مرموقة. من الأعمال الأخرى لجمال زاده يمكن الإشارة إلى «دار المجانين» و «قلتشن ديوان».

في «دار المجانين» يمارس الكاتب مهمة النقد بصراحة، فالأشخاص الحساسون الواعون يرجحون خلال أحداث القصة الجنون على العقل، و يطالبون بالعيش في دار المجانين بدل العيش بين ‌أوساط المجتمع. أما «قلتشن ديوان» و هو العمل الثالث لجمال زاده فهو عمل تراجيدي بمسحة ساخرة تعتمد النقد الاجتماعي. المضمون الرئيسي للكتاب هو الصراع بين الخير و الشر، و هو يصور بشكل عام ظروف إيران بعد الحرب العالمية الأولى. يبدأ «قلتشن ديوان» بوصف جميل و دقيق للزقاق الذي كان الكاتب يعيش فيه، حيث كان كل سكانه أناس متوسطو الحال، و فيه شخصيتان يرمز أحدهما للخير و الثاني للشر. الشخصية السلبية الشريرة في هذه القصة و اسمه قلتشن ديوان يكسب ثروة طائلة بشتى أنواع الحيل، و في حين يموت الناس جماعات جماعات بسبب الفقر و المجاعة، يقيم هذا الرجل كل ليلة ضيافات فاخرة للأعيان و الارستقراطيين و لكي يخدع العوام يقيم كل ليلة جمعة مجلس عزاء‌ ديني و يبني داراً للأيتام يكسب منه عائدات كبيرة. ثمة سخرية مريرة تسود هذه القصة، و تتجلى هذه الحالة أكثر عندما يجري تعريف قلتشن ديوان في الأوساط الطهرانية باعتباره رجلاً خيراً صالحاً على الرغم من كل سوابقه في الفساد و النصب. يصور جمال زاده بكل مهارة مشاهد من حياة الطبقة المتوسطة في المجتمع مضافاً إلى معتقدات شخوص القصة و آمالهم و خيباتهم.

يكتب المستشرق البولندي المعروف ميلوش بورسكي في مقال له بعنوان «النثر الفارسي منذ 1946 م فما بعد» قائلاً: «قلتشن ديوان الرواية الأكثر طبيعية لجمال زاده، حيث تموج فيها بموازنة جيدة السخرية و المزاح و النقد الاجتماعي و المحبة إلى جانب التواضع للناس المحرومين، و تكرّس لغتها التراجيدية حالة عدم الرضا من الحياة الأفضل التي يتمتع بها المجرمين بالمقارنة إلى سواهم».

و ما ينبغي الإشارة إليه فيما يتعلق بأسلوب الكتابة لدى جمال زاده هو أن آثاره الأولى تتمتع بانسجام جيد بينما نتاجاته المتأخرة تعاني غالباً من إطالة الكلام و التعقيد اللغوي و زحمة المصطلحات و الأمثلة التي تُفقِد السردَ جزالتَه.

من الكتّاب الآخرين في هذه الفترة صادق هدايت الذي ذهب كثير من النقاد إلى أنه أكبر كتّاب القصة في إيران، بينما يعتقد آخرون أن آثاره تفتقر للقيمة الأدبية.

ولد صادق هدايت لعائلة أرستقراطية تقليدية، و قد نقد مجتمعه في معظم آثاره بسخرية مريرة. يحلل حسن كامشاد آثار هدايت في كتابه «الأدب المنثور الحديث في إيران» فيقول: «السخرية من المميزات البارزة لهدايت، لا في آثاره الفكاهية و المازحة فحسب، بل و في آثاره الأخرى أيضاً يمكن تلمّس مسحة ساخرة و حزينة».

في بعض آثاره يمزج هدايت نمطاً من السخرية اللاذعة بقصته التي أراد لها أساساً أن تكون عملاً تراجيدياً. تقف قصص هدايت على حافة نمطين أدبيين هما السخرية و التراجيديا و قد ترجح كفّة التراجيديا على كفّة السخرية أحياناً.

في قصة «الطفيليون» ينتقد هدايت بأسلوب مازح أفراد عائلة «مشهدي رجب» الذين يبكون و يعولون لوفاته. و ينشب نزاع شديد بين زوجتي مشهدي رجب على إرثه، و حينما يعود زوجهما المصاب بالسكتة إلى الحياة و يرجع إلى البيت يتفجر الضجيج، و ترمي عليه إحدى زوجتيه مجموعة مفاتيحه التي سرقتها مع مائة‌ تومان من فراش موته و تقول: «لا، لا، لا تقترب مني». بينما ترمي الأخرى أسنانه الاصطناعية التي سرقتها، عليه بنفس الطريقة و تنتهي القصة بجملة لزوجته الأولى منيژه تشتكي فيها بعد كل ذاك البكاء و العويل و العزاء من أن الدفان لم يدفن الميت حيث تقول: «كل هذا.. كل هذا، ما أحسن ما قام به الشيخ علي - ما شاء الله عليه - و لم يبقَ الميتُّ في الأرض إلا ثلاث ساعات؟!».

نقلاً عن قصة «الطفيليون» من مجموعة «الموؤود» (1930 م).

تعود «ثلاث قطرات دم» (1932 م) إلى الفترة الأولى من المشوار الأدبي لصادق هدايت. و القصص التي كتبت بعد أيلول 1941 م تمتاز بانفتاح سياسي أكبر، حيث يطرح فيها النقد الاجتماعي و السياسي بشكل أكثر صراحة و علانية.

من الآثار الأخرى لصادق هدايت «حاجي آقا» أي «السيد الحاج » (1945 م) التي يروي فيها خصوصيات رجل حديث العهد بالنعمة و الجاه، و مرائي و يخترع عنواناً و سوابق ارستقراطية لوالده المرحوم من أجل إقحام نفسه في الأوساط الارستقراطية بطهران. و لا يتورع عن أية‌ دسيسة لبلوغ مقاصده و مضاعفة ثروته و ماله. يتجسس حاجي آقا لصالح الشرطة، و يأكل أموال البؤساء و الفقراء، و الأهم من كل ذلك أنه يتوسط لمن يريدون تولي المناصب أو كراسي النيابة أو الوزارة.

حاجي آقا معجب بهتلر أشد الإعجاب، و حين يصل الحلفاء إلى طهران يتصور أنهم سوف يطاردونه بطبيعة الحال، فيهرب إلى إصفهان. و بعد استقالة الملك البهلوي رضا خان يعود حاجي آقا إلى طهران و يبدأ بالتهجم على رضا خان و ظلمه و دمويته و يقول إنه بدد كل ما كان للبلاد. و هكذا يتحول إلى أحد أشهر المنادين بالحرية و يبدأ بمناصرة الثورة الدستورية، و يعتبر نفسه أنه زعيم المطالبين بالحرية، و يروي الأكاذيب عن ذكريات نضاله، و لكن ما إن يجتمع بالمستبدين حتى يرفع صوته: «روحي الفداء ‌لعهد الملك الشهيد! روحي الفداء لعهدنا ذاك!».

من السمات البارزة لحاجي آقا خسّته، حتى أنه يجلس في باحة الدار و يرصد كل حركات أفراد عائلته، و حينما يشتري خادمه أقية من الإجاص للمرق يحسب حاجي آقا تعدادها و حينما تنقص أربعة نوايات إجاص عند أكل الطعام يحدث شجاراً و يثير بلاء و يقول في النهاية: «لأن الله يعرف عبيده كم هم سراق و لصوص و محتالون فقد وضع داخل حبات الإجاص نوايات ليمكن حسابها».

يغيّر حاجي آقا لونه كالحرباء، و يتحدث بما يروق كل طبقة يواجهها. و يعتقد عموماً أن الحياة تعني الحيلة و الكذب و التزوير و التلفيق و النصب، و أن المال هو الحلّال الوحيد للمشاكل، و كان يقول لابنه: «الناس في الدنيا صنفان: ناهب و منهوب، و إذا لم تشأ أن تكون من المنهوبين حاول أن تنهب الآخرين، و ليس من الضروري تحصيل الكثير من العلم و الثقافة، فالثقافة تصيب الإنسان بالجنون، و تصدّه عن الحياة، لكن دقق فقط في درس الحساب و التعديد، و يكفيك أن تتعلم العمليات الرياضية الأربع حتى تستطيع حساب أموالك و لا يستطيع أحد خداعك».

من الكتّاب الآخرين في هذه الحقبة بزرگ علوي الذي قضى شطراً من عمره في السجن خلال 1896-1904 م، و اشتغل لفترة‌ بالتدريس في جامعة هومبلت في برلين الشرقية، و من بين آثاره يمكن الإشارة إلى «الرجل الجيلاني » و «الجندي الرصاصي»، و روايات مثل «عيناها» (1952 م).

و من المسلم به أن بزرگ علوي لم يكن كاتباً ساخراً أساساً، و قلما يلاحظ على نتاجاته الطابع الساخر، و لكن في قصتين له هما: «الأنيق» و «خمسة دقائق بعد الثانية عشرة» يعرض نمطاً معيناً من النقد الساخر. في «خمسة دقائق بعد الثانية عشرة» ينتقد بزرگ علوي البيروقراطية الإدارية في إيران. موظف يمتنع عن أصدار هوية الأحوال المدنية لوليد يرزقه الله لأحد الكتّاب بذريعة انقضاء‌ خمس دقائق على انتهاء الدوام الرسمي في الدائرة. و تتعقد المسألة إلى درجة لا تنفع معها الشكوى لرئيس الدائرة و لا وساطة أحد الأصدقاء، و أخيراً حينما تصل القضية بنحو مضحك إلى طريق مسدود يدفع الكاتب بطريقة مفاجئة ‌رشوة للموظف، و يضع مبلغاً من المال في درجه طاولته، فتنتهي القضية و تصدر هوية الأحوال المدنية لوليده.

و من الكتّاب الآخرين في تلك الفترة‌ هو صادق چوبك، حيث ولد سنة 1916 م، و كانت رواياته و قصصه قد كتبت بمنتهى الدقّة و التمحيص و الاهتمام الخاص ببنية‌ العمل و لغته. و قد كان چوبك على معرفة كبيرة بشخوص قصصه و طباعهم و لغتهم و آرائهم و مميزاتهم و مناحيهم. و قد اختار أبطال قصصه غالباً من بين أبناء‌ الطبقات الفقيرة. يتحرك چوبك في نتاجاته على خلفيات الفقر و الشهوات و الجوع و الوحدة. ففي «سنگ صبور» (1966 م) يصور وحدة و بؤس جماعة يعيشون تحت وطأة الاستبداد الخانق لرضا شاه حياة ملؤها الفقر و التعاسة و الرعب و الوحشة و القمع و الإرهاب. في العالم المظلم و القذر الذي نطالعه في قصص چوبك تلوح أحياناً شخصيات فكاهية ساخرة، لكنها أعجز من أن تمحو ملامح الشقاء و الفساد التي تحفل بها أجواء‌ القصة.

يكتب رضا براهني حول لحظات السخرية في قصص چوبك:

«في هذا العالم الحافل بالمصائب، تبدو كل محطة ذات شبه بالمهرج في المسرحيات التراجيدية لشكسبير، و الذي يظهر على الخشبة ليلطف للحظات قصيرة السياق المأساوي للمسرحية، و يفشي فيها شيئاً من المزاح و الضحك. و لكن بعد أن يغادر المهرج خشبة المسرح تعود التراجيديا لتواصل فصولها بإيقاعات أشد».

في قصة «إساءة أدب» من مجموعته القصصية «خيال الظل» يروي چوبك بلغة ساخرة و بأسلوب السرد التاريخي القديم و بطبيعة الحال باسلوب ساخر، قصة تذريق الغربان على تمثال الملك بحيث أن الملك يغضب من الغربان و يأمر بقمعهم و إبادتهم. و لذلك يرتدي الغربان منذ ذلك اليوم لباس الحداد الأسود و تخشوشن أصواتها إثر كثرة البكاء و العويل. فضلاً عن السخرية السياسية التي يدرجها صادق چوبك في «إساءة أدب» نجده يستهزئ بأسلوب الكتابة‌ التاريخية لدى بعض المؤرخين الإيرانيين.

في «إساءة أدب» يشير چوبك إلى تمثال رضا شاه و هو يمتطي صهوة جواده في ساحة «راه آهن» ‌بالعاصمة طهران على النحو التالي:« فجأة وقعت عينه على تمثاله الضخم الذي أقامه أمناء سيادته السنة الماضية في المدينة، و أقاموا الأفراح و الاحتفالات لذلك. و هو في التمثال يجلس على صهوة جواد أصيل كأنه أبو الهول، و ينظر ببطولة و عناد إلى الأمام، و الرعية تجتازون برقاب معوجة و وجوه مصفرة كأنهم النمل الصغار التافه من تحت رمز القدرة ذلك».

و من الكتّاب الآخرين في تلك الحقبة جلال آل أحمد (1924 – 1969 م) الذي ولد في عائلة دينية، و كان له أسلوبه الحي المتحرك في قصصه، و قلما كان يهتم بالتفاصيل و المفردات. ينتقد جلال آل أحمد نزعة التغريب و يرى أنها تشوش التقاليد و الثقافة الإيرانية. و من قصصه اللافتة في هذا المضمار زواج فتاة إيرانية متأثرة بالغرب من رجل أمريكي. حينما تهاجر الفتاة بعد الزواج إلى أمريكا يتجلى للفتاة الوجه الحقيقي للرجل الأمريكي فتحاول الطلاق منه. الشيء الذي يصوره جلال آل أحمد في هذه القصة بأسلوب ساخر دقيق و ذكي هو الصورة الكاذبة للمنبهرين بالغرب التي يرسمونها لأنفسهم و للآخرين عن الاتحاد بالعالم الغربي.

و من الكتاب المبرزين الآخرين في تلك الآونة ينبغي الإشارة إلى الدكتورة سيمين دانشور التي تعدّ من أبرز القاصات الإيرانيات، لكنها قلما استخدمت السخرية في آثارها. و ربما أمكن تلمّس استثناء لهذه القاعدة في قصتها «الحادث» التي تنتقد فيها النساء عارضة صورة امرأة تجبر زوجها نتيجة تنافسها مع جاراتها على أن يشتري سيارة. و تخلق الكاتبة من تفاصيل شراء السيارة و امتحان قيادة السيارات الذي يخوضه الزوج أحداثاً مضحكة تنتهي بحادث. ربما كان ما رمت إليه دانشور هو نقد نساء الطبقات الثرية من المجتمع اللاتي يصررن على تقليد النسا‌ء ‌الأوروبيات. و فيما يلي نموذج من نثر سيمين دانشور في قصة «الحادث»:

«قالت: أدري يا عزيزي، أنا أعارض استمرار الحياة الزوجية، فالزواج من الحذلقات البرجوازية»

لم يكن هذا الكلام كلام زوجتي. و لا يمكن أن يكون كلام السيد العقيد. و لا هو إطلاقاً من كلام جارتنا السيدة‌ صديقة. كان كلام شخص مطلع على قضايا الاستهلاك و الأقساط و الشعوب المتأخرة و التكسيات و صباغي الأحذية و بهرجة الضباط و النساء. جازفت و سألت: هل تريدين أن تتطلقي مني؟

ابتسمت و قالت: نعم، فهمت الأمر جيداً، و أنت تدري أنك سوف تطلقني، إذن لا ترق ماء وجهك، و شمّر عن ساعديك بسرعة.

سألت:‌ تعرفينه منذ فترة طويلة؟

و راح الدم يغلي في عروقي..

قالت: لا، رأيته بضع مرات في بيت السيدة صديقة.

سألت: ماذا تريدين أن تفعلي بعد الطلاق؟ أستطيع أنا تدبير أمري، لكن الأطفال سوف يعيشون حياة تعيسة.

قالت: هذا شأني.

تشاجرنا، و ضربتها على المائدة بقوة، و كان الأطفال يبكون كأنهم طفلا مسلم بن عقيل.

قالت و قالت و كتبت إلى أن غضضت الطرف عن عدة ‌مأموريات، و عدت إلى طهران و طلقتها.

بعد ثلاث ثلاثة أشهر و أحد عشر يوماً ارتدت زوجتي بدلة بيضاء و تزوجت من السيد العقيد. صار الأطفال من نصيب أمهم، و بقيت أنا و دماغي المتحجر و أقساط البنك الإئتماني و لم يطالب حضرة العقيد بخسارة».

بهرام صادقي (1936 – 198 م) كاتب آخر من جيل الكتّاب الساخرين في تلك الفترة. بدأ ينشر قصصه تدريجياً في مجلة «سخن» منذ سنة 1958 م. و للسخرية في أعمال صادقي دوره الأساسي، مع ذلك فهو لا يستخذم تقنيات خاصة لأدبه الساخر، إنما يعبر عن رؤيته العالمية في ثنايا وصفه للشخوص و الحوارات التي تجري بينهم.

يسيئ صادقي الظن بالإنسان و يشكك في صلاح طبعه و طهر فطرته، و يعرض أبطال قصصه و شخصياتها على العموم ممتطية خيول الغرور و الجشع و الطمع و الشهوات و الأنانيات، و يستهزئ ببخلهم و دناءاتهم و تقاعسهم و جهلهم، و يحرق بناره الأخضر و اليابس.

نقرأ جانباً من أسلوبه الساخر في قصة «تأثيرات متبادلة» التي تروي فصولاً من تيه المثقفين في إيران و حيرتهم و يأسهم بعد انقلاب 28 مرداد:

«... مرّ أمامي شاب فتذكرت الساعة فجأة. كنت قد أضعت ساعتي الـ «ناوزر»‌، و نشل النشالون ساعتي الـ «تي يل» الرخيصة التي اشتريتها فور ضياع ساعتي الأولى. و كنت قد بعت ساعة زوجتي الـ «أورانوس» في إحدى الأزمات، و رهنت ساعة الـ «هيل اندروچستر» المتعلقة بإبني الكبير «سعاتمند افتخاري» الذي يدرس الآن في الصف الثالث بثانوية «المستقبل المشرق» في لحظات مأزومة أخرى. و في هذه الغمرة بقيت الساعة البلاستيكية المتعلقة بابنتي ذات العامين «ژينوس» سالمة في يدها، و لكن كان فيها عيب كبير.. تعلمون أن هذه الساعات لا تشير إلى الوقت.

و لكن ما الحل؟ يجب الحضور في الوقت المناسب في الدائرة و توقيع دفتر الحضور و الغياب، و من ثم تناول الشاي لفترة طويلة، و الانتظار إلى وقت الظهيرة حين يأتي السيد الرئيس غاضباً ناعساً، و عندها يجب القيام و تقديم السلام و إبداء الاحترام و الانحناء، و هذا كله بحاجة إلى ساعة، لذلك كانت ساعة الزنجيل من صناعة بومباي التي ورثتها عائلتنا السعيدة من جدي المرحوم حاجي ملا كاظم تتلطلط هذه الأيام بكل ثقلها و ضخامتها في جيبي...».

تتحول الساعة في قصة «تأثيرات متبادلة» لبهرام صادقي إلى رمز لمجتمع استهلاكي يعاني مرض البضائع الغربية، و أناس يعيشون بمثل هذه التسليات التافهة و يميلون أشد الميل للظواهر. و الطريف أنه من بين كل الساعات المتنوعة لم تبق إلا ساعتان إحداهما ساعة ژينوس ذات العامين التي لا تعمل أساساً، و الثانية ساعة من صناعة بومباي لجد العائلة لا تزال تعمل لحد الآن رغم ضخامتها و ثقلها. ثم إن هذه العائلة السعيدة اضطرت لبيع ساعة ربة البيت، و رهنت ساعة الأبن «سعادتمند افتخاري». و مضافاً إلى كل هذه الأسماء الخاوية، فإن اسم الثانوية «المستقبل المشرق»...! و هكذا يسرد الكاتب جميع أحداث القصة بطريقة ساخرة يرمي منها إلى نقد الواقع.

و من بين الأدباء الساخرين الآخرين في تلك الفترة يمكن الإشارة إلى غلام حسين ساعدي، و أبو القاسم پاينده، و سعيد نفيسي، و إيرج پزشك زاد، و إبراهيم گلستان، و رضا براهني، و الكثير غيرهم ممن لا يتسع المجال للتطرق لأعمالهم.

من أبرز أعمال أبو القاسم پاينده (1908 – 1984 م) يمكن الإشارة إلى «من عصر الإبل إلى عصر المحرك» ( 1978 م)، و «من المستشفى إلى المصحة» (1978 م)، و «النفايات و النخالات» ( 1978 م)، و «تقبيل الأقدام و التملق» و ... .

غلام حسين ساعدي (1935 – 1985 م) هو الآخر من كتاب هذه الحقبة، و قد تضمنت مسرحياته و قصصه أحياناً سخرية لاذعة.

من بين قصص ساعدي يمكن الإشارة إلى «أنا و الأقرع و كيكاوس» من مجموعته القصصية «دنديل» التي ينقد فيها الضوابط المثيرة للضحك في الدوائر الإيرانية، و أنانية بعض الموظفين و إعجابهم بأنفسهم.

«منتصف الطريق إلى الجنة» قصة لسعيد نفسي يحاول فيها تصوير فساد الطبقة الحاكمة‌ في إيران. الموضوع الرئيس للقصة محاكمة‌ و إدانة بائع مرطبات شاب اسمه عباس يجاور حانوته بيت أحد النواب المتنفذين في البرلمان. يجري في هذا البيت النقاش و البت في الكثير من الشؤون الداخلية والخارجية المهمة للبلاد، و الزبائن الذين يريدون الوصول لأهدافهم يدفعون أثماناً جيدة. و الذنب الوحيد لعباس و هو شاب أمّي لكنه ذكي هو أنه مراقب واع و متطلع ممحّص.

يشعر النائب في المجلس أن عباس يتدخل في شؤونه، فيأمر بسجنه و يحاكم محاكمة‌ زائفة تعبِّر عن نوعية «العدل» السائد في محاكم الزمن الشاهنشاهي.

«يسأل عباس: أين إذن المحاكمة و المدعي العام و المرافعة التي يدّعونها؟

فيجيبه الشرطي الذي جاء‌ به إلى النيابة العامة في طهران:‌ و ما شأنك بهذه الأمور؟ هذه الأمور تعني الذين يريدون أخذ حقهم، و استعادة أموالهم من الناس، و انتزاع أملاكهم من أيدي الناس، و الوقوف بوجه انتظارات نسائهم ليتخلصوا من شرهن بأسرع وقت. أما أنت المسكين فلا أحد يقيم لك محكمة. أين يأخذوك أنت المسكين المحروم؟ و هل المدعي العام و وكيل النيابة العامة و القاضي و المحقق مجانين، أو لديهم أوقات فراغ حتى يلتقوك؟ ألم تسمع أن السلطة القضائية في البلاد لها حرمتها و استقلالها و ليست تابعة لأي شخص و لا لأي صاحب منصب؟ أمرك واضح جداً. أنت من رعايا الحكومة‌ الشاهنشاهية في إيران. أنت عباس الأقرع بائع المرطبات في منطقة «سرگذر چشمه»، أوتطالب بإرث أبيك؟

ألا أحاكم بالتالي؟
إذا كان جلدك يحكك فلا مانع لدينا، سوف ندبِّر لك الأمر قريباً».

ما يلفت النظر في ختام هذا المطاف هو أن الأعمال الساخرة في النثر الفارسي خلال هذه الحقبة تشمل أنواعاً مختلفة من السخرية و النقد ابتداء من النقد المباشر إلى الكوميديا المصحوبة بالسخرية. و لكن، رغم أن جميع كتاب هذه الحقبة انتقدوا النواقص و العيوب التي عانى منها المجتمع الإيراني و أكدوا بأساليب مختلفة على الحاجة للتغيير، لكن أيّاً منهم لم يكن على علم بطرق الخروج من هذه المشاكل، و لم يطرح أية اقتراحات لمعالجتها في المستقبل.

منذ عهد الثورة الدستورية إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية

عن مجلة شيراز للأدب الإيراني


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى