السبت ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم حفيظة قاره بيبان

حكايـة الأسـوار

تراقصت أضواء الشموع والمصابيح وهفهفت الستائر المخملية على النوافذ الواسعة المفتوحة لليل الساكن. وبدت النباتات الخضراء الغضة من الخارج تداعب الجدران الصقيلة والأثاث الفاخر. وانبعثت موسيقى هازجة من الأركان.

ابتسم الأهالي وهم يشهدون من دورهم البعيدة الواطئة دار القاضي الجديدة الشامخة على الربوة تتلألأ أضواء وبهجة وأنسا، وتبعث إليهم بنغمات الفرح الراقصة. لقد انتهت أخيرا أشغال بناء بيت القاضي. وها هو يفتتح أيامه السعيدة به، وسيتفرغ الآن لهموم السكان ومشاكلهم، ويبسط على وجه مدينتهم راحة العدل والأمن والسلام.

طالت ليل الأنس، وتعب سكان المدينة من الفرجة المخطوفة من بعيد وأخذهم النوم، وظلت أضواء الحديقة المزهرة تلاعب ماء النافورة حتى الفجر، وتنير وجوه الضيوف الأعيان بألوان قوس قزح، وبريق العيون المعجبة يتلون مع كل طعام أو شراب شهي ونادر يحل.

حين اشتعلت الشمس في كبد السماء، غرق السكان في مشاغلهم ونسوا ليلتهم، ولكنهم في آخر النهار لاحظوا أن أضواء بيت قاضيهم ما زالت مطفأة، والقوم ما زالوا نياما. وبدا لهم السور عاليا شاهقا. وتساءلوا: كيف انسكبت عليهم منه الأضواء، الليلة الماضية، حتى بدا متلألئا كقصر من نار.

ومن جديد عادت الأيام تبتلعهم، والمدينة تضيق بهم. والمشاغل والخصومات تكسر عزمهم وتخنق أنفاسهم. وانضاف هم جديد يختطف كلما ناموا أو غفلوا أو انشغلوا دوابهم وحتى أطفالهم، يأكل لحمها ويترك العظام، وأحيانا يحلو له أن يمزقها ويترك أشلاءها المدماة وقد تخثر دمها، مهملة للكلاب السائبة، فتكمل تشريحها وتنهش بقاياها. وانتشر الخوف والتوجس، وتكاثر الضحايا، وهاجت المدينة وماجت، خاصة والقادم المجهول لا يلمس الديار، ولا يسرق ذهبا ولا فضة ولا مالا، ولا يأتي إلا على المنطلقين في الطرقات والأنهج والحقول من الضعاف. وتتالت الأحداث سريعة في الليل وفي وضح النهار. وساد الخوف والرعب، فاجتمع الأهالي وتعالت الأصوات واختلفت الآراء حول سبل الإنقاذ. وأخيرا، قرر السكان اللجوء إلى مركز قوتهم الوحيد وأملهم الفريد.

تجمّع الشيوخ والرجال والقلوب راجفة والعيون شاخصة. وارتفعت أنظار الرجاء إلى قلعة النور حيث انتصب القاضي للسكنى والقضاء. وومض الأمل، وكادت تشرق السماء.

ولكن، قطع فجأة الرجاء، وانكسر الأمل، فقد منعوا من الدخول إذ فوجئوا بالعمال والبنائين كالنمل، حول الدار ومعلقين على الأسوار، يزرعونها بقطع زجاج القوارير المهشمة، جمعوها في سرية تامة من داخل المدينة وأحوازها، واختاروها حادة، قاطعة، ذابحة، حتى لمن يحاول لمسها.

وظلوا أياما يمنعون الدخول حتى انتهاء الأشغال. وتساءل السكان مبهوتين: ماذا حدث لدار القضاء؟

لما أكمل البناءون عملهم، وتجدد رجاء السكان، وعادوا يجمعون كبارهم لتقديم شكواهم، تناهى إلى سمع المدينة نباح كلاب شرسة تبعث الوحشة والرعب في النفوس. فقد أمر القاضي بكلاب ضخمة الجثة، مدربة، سوداء، تحرس الدار المنعزلة البعيدة. يسيل لعابها ساما أسود كلما شاهدت غريبا، وتقدح عيونها شررا حارقا، وتثني ذيولها القوية السوداء كالثعابين حول من تريد فتعتصره وتزهق روحه في ثوان قليلة.

وجم القوم وأخذهم الذهول. ثم أيقظهم من ذهولهم ما هم فيه، فأخذوا يتساءلون عن الأسباب، وقد اعتادوا مقابلة قاضيهم يوم الجمعة من كل أسبوع، يقدمون الشكاوي، وتفض بينهم المشاكل والخصومات. فما الذي جرى؟.. وما الذي منع الاستماع إلى ما أصابهم؟ وماذا حلّ بالدار ليقام فيها ما يقام؟ وكثر الكلام والأقاويل.

"أيكون بلغه النبأ الخطير، فأخذ يعدّ له العدّة. وبدأ بالهضبة المشرفة على المدينة حتى يبعث الرهبة في القادم المجهول، فيخشى الهجوم ويبتعد عن مدينتهم، ويأمن الأهالي على أولادهم ودوابهم؟..."

وضجت المدينة، همسا أولا، ثم جهرا وعلانية، والأخبار تتواتر معلنة حقيقة الأسباب، والجماعات تتوقف في الشوارع، والأفواه تنفتح دهشة لآخر الأخبار، والمنفصلة تماما عما يحدث من هول بين الديار.

 لقد اقتحم بيت القاضي!

 بل سرق بيت قاضينا.

 ألا يكون الجاني هو المفترس المجهول؟

 غير ممكن! فهذا لم يأكل ولو دجاجة صغيرة، بل اكتفى بحفر الجدار.

واستنكر بعضهم:

 ومن الذي تجرأ على الكلاب الضخمة والأسوار العالية والزجاج المكسر الذابح المزروع على كل الأسوار؟

وابتسم بعضهم وهم يؤكدون:

 لقد تسلل بعض الأشرار إلى الحديقة. لم يسرقوا شيئا. فقط أحدثوا ثقبا في الجدار.

سادت حالة التوتر. وأرجئت كل المقابلات واعتزل القاضي مفكرا في مقتحم أسواره.

وفي المدينة، ظـلـل الخوف الديار، وعزف السكان عن أشغالهم ولجئوا إلى دورهم، مغلقين الأبواب، خشية المفترس المجهول، في غياب الحراس المسلحين المنشغلين بحال دار القضاء.
وتعالى بكاء الأطفال المحبوسين وصراخهم المكتوم.

وظللت الكآبة الشوارع الخالية. ونقصت الأغذية في الدكاكين. وجفت الخضر في الحقول والبساتين، وأجدبت المزارع وهزلت الأغنام والدواب واصفرت الوجوه.
وتتالت الأيام ثقيلة غائمة منقبضة. ونعق البوم مع الرياح على السطوح.
أما على الربوة، فقد ظل البناءون كلما سدوا ثقبا إلا ووجدوا في الأيام الموالية ثقبا آخر في أحد الأسوار يكاد ينفذ إلى دار القضاء.

ومازال قاضي المدينة يوقف الأشرار، ويسوطهم أقصى العقاب. أصبح يوقف حتى المجانين والزهاد والخائفين والأطفال الباقين، عله يظفر بمجرم واحد يعترف بالحادثة الخطيرة المتكررة للأسوار، دون جدوى. وتحول جلّ سكان المدينة متهمين.

ضاقت قاعة التحقيق عن احتوائهم. ضاق السجن. ضاقت المحكمة. فكر القاضي وفكر. ثم أمر بوضع الأبواق في شوارع المدينة. وأرسل المنادي معلنا:

"الأراضي المتروكة حول المدينة،
الخضراء والمجدبة
المهملة للكلاب السائبة والرعاع،
والمشردين القادمين من الآفاق المجهولة،
ستتحول لجلالة المحكمة،
للفائدة العامة،
ونشر العدل والطمأنينة،
وقطع دابر اللصوص والسراق".

وتساءل السكان، وبعض أمل يعود:

 أعلم قاضي المدينة بحكاية المفترس المجهول، بعد أن صدوا عن إبلاغه؟ وهل قصد ذلك في البلاغ؟

ورغم الأميال والأميال التي أضيفت لدار القضاء والتي أقيمت حولها الأسوار، لتجميع المناوئين والظلام واللصوص والمتهمين، لم يكفهم المكان.

ومرت الأيام، وتتالت الشهور، وتعبت الليالي، فرحل القمر والنجوم، واختفى تماما بكاء الأطفال، وبدا منزل القاضي المدجج بالحراس قلعة متوهجة تشتعل في ظلمة الليل. ولكن.. اختفت المدينة، وظلّ سور قلعة القاضي دوما.. مثقوبا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى