السبت ٧ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم أحمد حمادي

أنين الحواس

أبي: "هل تتذكّر ذلك اليوم الجاني ، هل تذكُر كيف كان وجهُه ؟ كانت أوراق الأشجار حينها تتساقطُ بتعب تماما كما فعلت دموعي ، الجميعُ كانوا يرتدون ثيابا سود ..كانوا كالغربان النّاحبة تخنق أنفاسي بصيحاتها الهلعة، كان صداها كدويّ القنابل تنفجر بين جدران قلبي ..أبي هل تذكُرها ؟ هل تذكرُ أمّي ؟ كانت جميلة كزهرة تتثاءب برقّة وقت الشروق ..لا أزال أشتم رائحة عطرها وهي تحجب عن عينيّ المناظر بضمّتها النّاعمة. كُنت أتساءل يومها لمَ تركت غرفتها الواسعة لتنام داخل ذلك الصندوق الخشبي الفقير! كُنت حينها في الرّابعة من العمر، لكنّي أدركت على نحو ما بأنّي لن أراها تفتح جفنيها مرّة أخرى، لن أسمعها تمدح منامتي البيضاء ببقعها الخضراء الداّكنة .كان قلبي حزينا ، مُحطّما ، كان مساحة مُهملة لحفظ ذكريات لطالما أجبرتني على البكاء، على الإحساس بالنقص . أبي ، كنتُ فقط أريد أن تمسك يدي ، فقط أن تقبض عليها بكلّ قوّتك كي أشعر بروحك تُواسيني ..لقد اقتربتُ منك لكنّك لم تلحظ وجودي ، قطيعٌ من الأجساد السوداء أحاط بك وأبعدني ..مددت يدي حتّى أحسست بمنبتها في ذراعي يكاد ينقطع . ذلك الغبار الطّائر أعماني ثمّ انجلى لأرى يدك مشغولة بغير أصابعي.أبي ، لقد أمسكت بها أناملُ امرأة ارتدت وشاحا ليليا ، سرقتك منّي ليظل كفّي شاغرا كقلبي ..أبي، لقد أردت فقط أن تُمسك يدي ، أن تهُزّها !!"

جفّ حبر قلمي عندما مرّت ظلال تلك المرأة بصفحته ، جفّ كما فعل التفاؤل بذاتي، توقّف حذرا ! أقفلت كرّاسة مذكراتي ، رميتها تحت الوسادة ثم تناولت صورة ما وحملقتُ بها. تمنيّت لجزء من الثانية أن يُصبح ذلك الوجه الرائعُ ثلاثيّ الأبعاد لأطبع فوق مُحيطه قبلات منفعلة ، حارة ..كشوقي ، كحنيني ، كولعي بالماضي ، بالصبا ، بها .." أمي! " صاحت كل خليّه بجسدي ثم انفجرت من فرط القهر لتسيل دموعي مُلتهبة تشوي الخدّ أنينا.

انفتح بابُ الغرفة في هذه الأثناء لتظهر من وراءه سيّدة معقوفة الأنف، قاسية الملامح . عطرها المُقرف هاجم الأجواء وكذلك فعل بأنفي. رائحتُها لطالما ذكّرتني بوشاحها وذلك اليوم الرّاثي! من دون أن أرفع نظري من على صورة والدتي ، ومن غير أن أعدّل جلستي على السرير قلت بملل : " ماذا تريدين ؟"
" وقحة كعادتك !"
" تكلّمي من دون مقدمات " أضفت وأنا أمسح بناظريّ مُحيط تذكار أمّي .
فتحت زوجة أبي فمها لتطلق العنان لسموم لسانها لكنّي قلت قاطعة عليها مُتعة نفثه بوجهي :" لن أحضُر حفلة اليوم ، لن ألعب مُجدّدا دور اليتيمة المحبّة لخالتها. (لويزة) كان عليك إنجاب واحدة ..أوه ، آسفة ، نسيت أنك لا تستطيعين ذلك !"
صدرت ضحكة ضامرة بعدها، كانت زوجة أبي تُخرج الهواء من أنفها وعيناها تُشعّان من فرط الغضب المكتوم ثمّ قالت ببرُودة :" ستظلّين يتيمة مهما طال لسانك ، عزيزتي ستحضرين الحفلة ، ستفعلين !" أكملت (لويزة) وهي تحرّك رأسها بالموافقة، كان وجهها الثعباني العنيد من دون ملامح. أخذت تقترب منّي شيئا فشيئا حتى صارت بجوار السّرير، حينها فقط قرّبت فمها المحشو بالأنياب من أذني وقالت بهمس :" ستظلّين في المرتبة الثانية بعدي وإن بلغت السّابعة عشرة من العمر ، صغيرتي استسلمي وسأجعل حياتك أكثر سلاما !"
 أحسست بنوبات الدّم الهستيرية تضرب غرف قلبي لتجعله يرتعش غضبا، إنّه نفس الشّعور الذي انتابني قبل ثلاثة عشر عاما! لم يتغيّر أيّ شيء منذ ذلك اليوم ، غضبٌ عارم مع مسحة غيظ مُر وسديم من القهر المؤلم .نظرتُ إليها بثقة ،نظرت إلى المرأة الحاسدة المُعقّدة التي ترى في حياتي ألمها . شحذت لساني ليكون قاطعا كالحُسام ثم قلت بتهكم:" جيد أنّك في المقدمة ، ستحترقين أوّلا بنار الجحيم أيتّها العاقر !"
علا صوت صفعة ما وشق الصمت نصفين، كانت وجنتي متورّدة. لم تكتفي (لويزة) بلسعي كعادتها بل خطفت صورة أمي بخفّة كمشعوذة تجيد تحريك أوراق اللّعب بين أظافرها المتّسخة.

" ستلبسين ثوبك الأبيض، ستكونين متأنّقة وسعيدة ..ابتسامتك ستقول بكل فرح : أحبّك يا خالتي "
" أعيدي الصورة " صرخت بحقد مُجلجل .

" الحفلة عند الثامنة والنصف . إليك الخيارات المُتاحة : صورة والدتك الميّتة مقابل تمثيل مُقنع ، حي ". غادرت زوجة أبي الغرفة حاملة الذكرى الغالية . غضبي بات هلعا متكلّما. " ماذا أفعل ؟" قلت في نفسي وقد أرعدت دواخلي وبدأ المطر يهوي من مقلتيّ. " هل ستُمزّقها ؟" .." لا ، لن تجرؤ".." بل ستفعل ، صورة أمي ..يا إلهي!" . استقمت واقفة، هرولتُ ناحية الباب لألحق بها. قبضتي على مزلاجه ارتخت دون أن أجرؤ على تحريكه. بُكائي صار صارخا، أنهكني ، أتعبني. اتّكأ جسدي على ذلك اللّوح الخشبي المُغلق ثم انساب هاويا نحو الأرضية الباردة . كان عقلي مُشوشا ، إطاعتها قتلٌ لكبريائي والغدر بها يحرمني حياتي ! احتضنت ذاتي بكل قوّة كي أشعر بالأمان ، بالعزاء . طأطأتُ رأسي ، أخفيته وجهي بين خصلات شعري كنعامة مٌتردّدة وسمحت للمياه المالحة إكمال طريقها نحو السطح المرمري، نحو الأسفل .
" توّقفي عن النحيب ، ( جنى)، انهضي ..أنت أقوى من أن تشعري بالضعف !" قال صوت بداخلي. شعرت بالعزيمة تخيط ذلك الألم ، تُشفيه. كانت نصف استقامة هويت بعدها مجددا:" أمّي ، لما تركتني ؟". "قُلت انهضي ، (جنى) فكّري في الخلاص. استخدمي عقلك " علا ذلك الصوت المُساند مجددا. مسحت دموعي بعدما لبس وجهي ذلك القناع الحقود المُتعجرف . " لن أبكي مجددا، لن أفعل ، أعدك " تكلّمت شفاهي مخاطبة نفسي. " لن أبكي ، لن أبكي " أضفت بتعب وعيناي تنزفان بغزارة لتشعراني بالخزي .

إنّها السابعة والنصف صباحا، كان يوما خريفيّا ضاحكا. الجميع سيستمتع به ولا شك ! وما دخلي أنا بغيري ؟ كنت على وشك مغادرة المنزل متجّهة نحو المدرسة الثانوية عندما استوقفتني الخادمة قائلة وقد امتلأ وجهها شفقة :" سيدّتي الصغيرة، من فضلك انزعي هذا الثوب الأسود ، لا تفعلي هذا بنفسك" .كانت سيدّة متوسطة الطول مكتنزة الجسم تملك من الأبناء ثلاث صبيّان وبنتا، وجهها كان حنونا يُشعرني بالارتباك .

" وما شأنك أنت بثيابي ، أوَ صار للخدم لسانٌ ينطق " قلت بسخط ثم صفقت الباب الخارجي في وجهها مغادرة . كان قلبي ينزف دما لما جاد به لساني السليط . " كُفّي عن هذا ، المشاعر ضُعف. القسوة هي من ستحجب عنك الأذى " قالت نفسي بعناد. كان كلامها مُقنعا على نحو ما مكنّني من تجاوز الموضوع بسرعة .

وصلتُ مدرستي متأخّرة، دخلت الفصل رافعة أنفي نحو السقف غير مبالية بتحية الأستاذ المُبتذلة ،لم يكن قطعا يحترمني بل خوفه من سلطة أبي الثري كان يأتي في المقام الأول! مقعدي الانفرادي احتضن جسدي بعدها ليعزلني كعادته عن المحيط ، عن زملائي و أستاذي. لم أكن أراهم أو هكذّا كان يُخيل إلي . ولم أفعل ؟ جميعهم سطحيون لا يُقدّرون حجم معاناتي، حجم الفجوة السحيقة داخل صدري. كُلُّ ما استطاعت عيونهم الحاسدة رصده هو مجوهراتي، كل ما استطاعت أفواههم المُغتصبة نثره هو وصفي بالمتعجرفة الثرية . أثوابي السود باتت حديث الثانوية لجودة حياكتها و غلاء قماشها. باتت موضة المراهقات ! أويظنون فعلا بأنّي اخترت اللّون الأسود لتماشيه مع شعري الفاحم أو لأنّه يجعل بشرتي البيضاء متألقة !!انتهت حصّة الأدب العربي دون أن يعلُق بذهني حرفٌ واحد ، السبب كان ابتعادي التام عن الأجواء بعد أن قرأ الأستاذ عبارة تقول :" الحنان سلسٌ رطب ونور الحياة دفء الفؤاد". " هل أنا قاسية مغرورة ؟" سألت نفسي ثم أجبت على عجل قاطعة طريق كل فرصة تجعلني أراجع أخطائي :" أجل ، أنا كذلك ..لا أحد يستحق أن أنظر إليه، لا أحد .. "

انتهت الفسحة الصباحية بانطوائي على نفسي ضمن حمّام الفتيات.إليكم ما حدث : كنت أسير ضمن الرواق مُسرعة ، كنت أريد الاختباء من ابن عمّي (بشّار) الذي رآني البارحة أنثر الدموع وحيدة في مختبر مادة الأحياء. كان لطيفا ولكن ما من شيء سيجعل قلبي يلين! ما من شيئ سيجعلني أتنازل وأكلّمه !اصطدمت بفتاتين كانتا تسيران في الاتّجاه معاكس. كان الخطأ خطئي لكنّي صرخت بهما مُفرغة كل ذلك التوتر. لم تجرُؤا على ردّ كلماتي فقد كنت الطالبة الأكثر غرورا وغطرسة، الأكثر خشية من طرف الجميع . تخطّيتهما بتعالِ لكنّ همساتهما الحاقدة تسلّلت لتدخل قلبي وتغمره بالدُسر الثاقبة. قالت إحداهن للأخرى :
" وكيف ستعرف الأخلاق فتاةٌ لا تملك أُمّا تُلقنها أساليب احترام الغير !". أخالني سمعت المّارة يضحكون بخفّة كالجبناء.
لم أستطع منع دموعي المُحبّة للانسياب. صمدت حتّى بوابة الحمّام حينها دفنت قناعي المُتكبر، أدرت الحنفية ليتدفّق سيل المياه كمعزوفة عازلة تُخفي صوتي الضعيف عن الأسماع ." امسحي دموعك ، (جنى) كم أنت بائسة!" قال ذلك الصوت الصلب بداخلي. كفكفتُ شجوني خجلة ثمّ غادرت غرفة الماء المُنهمر متّجهة نحو الفناء. كعادتي ، رُحت أسترق النظر إلى البناء المجاور ، إلى روضة الأطفال المُلاصقة لسور الثانوية. منظر الصّغار كان مشهدا مُسالما يجعل نفسي تهدأ وتسترخي. ربما لأنّ أجمل أيام عمري الحزين كانت تلك ، ربّما لأن قصار القامة محبوبون ، كما كنت أنا ..ربما لأنّي ماضوية ، أجل أرغب أن أعود طفلة ..أعود إلى أحضان أمي !
إنّهم رائعون ، أليس كذلك ؟" قال صوت ذكوري خشن . التفتّ بذعر لأرى (بشّار) ،حاملُ دليل إدانتي، يُخاطبني . لم أجبه بل رفعت رأسي بشموخ حينها أضاف قائلا :" البراءة شيء ثمين خاصّة عندما تتطاول أجسادنا، الدّموع ليست ضعف..الضعيف هو من تحجّرت مُقلتيه بعد أن توفّى فؤاده. الدموع براءة القلب يا (جنى) "
هل أثّر كلامه بي فعلا ! هل أبكاني ، هل دكّ حصون غروري منطق لسانه . شعرت بشيء ما يذوب ، ينحل كقطعة ثلج صارعت وهج شمس المصيف وتكبّدت هزيمة نكراء. من دون النطق بكلمة واحدة ،غادرت فزعة. ركبتُ سيّارتي المكشوفة وعدت إلى المنزل . أمضيت بقيّة سويعات ذلك اليوم أستمتع بتلك النغمات المنعشة التي أصدرتها كلماته العذبة. غفوت ، ولأوّل مرة ، بقلب سليم من آثار الصراعات الداخلية الفتّاكة ولم يوقظني سوى طنين أحاديث ضيوف (لويزة). إنّها الثامنة والنصف، الموعد المُحدّد لأتّخذ قراري .." هل سأخضع ؟". 

كُنت بعد دقائق أنزل الدّرج المؤدّي إلى قاعة المعيشة الضخمة. كانت خالتي المُتمّلقة تتنقّل بين جموع المدعُوّين كسيدة راقية مُهذّبة!! خطواتي كانت ساكنة لكنّ أذنيها المترهّلتين استطاعتا الشعور بوجودي، إحساسها العالي -الذي تستمده من كرهها لي- التقط موجاتي. تسمرّت عيناها الجاحظتان حينما لمحتني، وجهها كان يقول بكل وضوح :" ستندمين على هذا". من الواضح أن ثوبي الأبيض لم يعجبها. هل كانت تقصد ثوبا غيره حينما ألقت على مسامعي أوامرها! لقد كنُت أرتدي منامة بيضاء مكسوّة ببقع خضراء. شعري لم يكن سيئا لو استثنينا بضع تجعيدات بارزة خلفتّها وسادتي الحبيبة كتذكار للحفلة الرائعة ! كبقرة جائعة راقها لون لطخات منامتي ، تقدّمت (لويزة) نحوي ثم حاولت حصري نحو الخلف لكّن عزيمتي كانت الأقوى. لقد فضّلتُ التضحية بصورة أمّي على أن أجعل الذّل يتشرّب قطرات كبريائي.
" سأحرق الصورة ثم أنثر غبارها فوق قبر والدتك العتيق " قالت (لويزة) مهدّدة.

" أسلوب وضيع كالمعتاد !" أجبت بثقة ثمّ دفعتها محاولة المرور . رغبتي في ترسيخ الفضيحة داخل ذاكرتها كانت عارمة . خطوتين صغيرتين هو كلّ ما استطعت إنجازه فقد سدّ طريقي جسدٌ ما.كان أبي الذي بدا وكأنّه ظهر من العدم، والدي الذي ما عُدت أرى في وجهه ذرّات الفرح بل بذور التّعاسة. هل لزوجته الجديدة علاقة بهذا أم أنّ حزنه الدّفين لارتحال أمّي كان دوما السبب؟

 " ماذا تفعلين؟" قال سائلا. " أوه يا عزيزي ، أنت هنا ..أوه ، لقد رجوتُها أن تكفّ عن هذه التصرّفات الفظّة لكنّها تُصر على تعذيب قلبي المُنفطر " قالت (لويزة) بخبث ساكبة بعضاً من دموع التماسيح . لم أستطع كبح غيظي، لم أتمالك نفسي ..إفكها بلغ عندي حدّه فصحت بأعلا صوتي : " أيتها ، أيّتها المنافقة !".

صفعة ما طبعت توقيعها على خدّي الأيسر ، صفعني أبي ثم تدارك نفسه فحاول ضمّي. تراجعت خطوتين نحو الخلف وقد ملأت الدّموع مُقلتيّ حتىّ فاضت.كنت أنظر إليه سائلة وكفّي تنساب على وجنتي المحترقة :" لمَ ، لمَ تفعل بي هذا، لمَ تُصدّقها دوما ..لمَ !!"
دافعة كلّ من صادف طريقي من الضيوف، ركضت نحو الباب الخارجي غير آبهة لصيحات أبي المُعتذرة المُتوسّلة. كان قلبي يؤلمني، تماما كذلك اليوم الذي ترك فيه يدي ليلبس يدها ..يدها التي أرتني أنواع العذاب والأسى ، أرتني الأيام تطعن ذاتها بالقنى ثم تذرّ الملح على الجراح الحمراء العارية ..أرتني الجحيم !

" سيّدتي ، سيّدتي ..أرجوك لا تغادري! " صاحت الخادمة بي . سمعتها بوضوح رغم الأصوات الكثيرة المُتسائلة عمّا يجري . توّقفت ، أجل ..سرت نحوها . نظرت إلى وجهها الوديع ثم طبعت قبلة حارّة على جبهتها ..قبلة أسف نادم ، قبلة اعتذار عمّا صدر عنّي في حقها . لم يستطع لساني النُطق، أحسست به يحترق كقلبي. هرولت منصرفة فيما نشجت الخادمة وهي تضع يديها على فمها ذارفة الدّموع الصادقة . ركبت سيّارتي وهمت بلا هوادة .

كان شعري الحريري يتطاير إثر هبّات النسيم الليلي . تحوّلت دموعي إلى جمرات تكوي ، كنت أقف أمام قبر والدتي. كانت قطع اللّيل تُحيط بي تماما كما فعلت أجساد المُعزّين يوم وفاتها .أوراق الأشجار كانت تطلب الراحة على الأرض المعشوشبة. لم أكن أشعر بشيء سوى بنبض قلبي الفاتر يُصر على منحي الحياة. و أيّ حياة تلك ! رفعت يدي في الهواء ثم حملقت بها ..إنّها فارغة ، شاغرة ، لا تملك شيئا سوى الوحدة . صحت بألم:" أمــّي ، خُذيني إلى جوارك".

دفءٌ ما خالجني، شيء رطب لامس راحة كفّي المتوسّلة بل قبض عليها. تفرّست في وجه صاحبه وكم كانت دهشتي عظيمة عندما اتضح بأنّه لبشّار، قريبي الذي لم تشفع له طيبته عندي فحشرته عجرفتي ضمن خانة الازدراء. لقد كان يُحكم مسكته على كفّي ويهزّه بمتعة. لم يتسنّ لي إدراك ما يحدث لأن يدي الطليقة قد تم أسرها أيضا. كان أبي يقبض عليها هو الآخر والدموع المعتذرة تنفر منه تباعا . لا أستطيع وصف شعوري حينها ، ربما كانت دهشة مصحوبة برغبة مفرطة في إبداء السعادة . كانت تُشبه فرحة طفلة لاقت أخيرا حضنا حاني. صرت أقلّب ناظريّ بين الشاب وأبي. فكرة مجنونة روادتني ، شعرت بأنّ لي أبوين عطوفين الآن. كل واحد منهما يرسل عبر قبضته تيارا مسالما يبعث السكينة بي ."أمّي ، هل أنا أحلم !" تساءلت بسذاجة .

" أنا آسف " قال أبي . " لا تبكي " أضاف (بشّار)". نظرت إلى قبر والدتي بعيون تنضح بشرا. صرت أستنشق رائحة تلك اللحظّات بنهم ، أردت تخزينها داخل ذاكرتي. لم أكترث يوما لأحداث حياتي ولكنّي الآن أريد كتابة تاريخ جديد. تاريخ يبدأ بتلك اليدين الآمنتين ، بذلك الشعور الخافق. عقدة النقص عندي ارتخت حبالها، امتلأ فراغها الهش ثقتا وعزما . هل هذه هي محاسنُ قوة الشخصية !
رُحت أهزّ تلك القبضتين كطفلة في الرابعة من العمر . كان الرّجلان يسيران بمحاذاتي كنسرين يُحلّقان بي في الأعالي . تجهّمت ملامحي حينما اعترضت طريقنا ...(لويزة). كانت ترتدي وشاحها الأسود المُفعم بالذكريات المُوجعة . رمت بيدها نحو أبي ليمسكها لكنّه أحكم قبضته على كفّي و واصل المسير بعد أن رمقها بنظرات ضارية جعلت قناعها الباسم المُخادع يتشقق .في الخلف ، صارت زوجة أبي لأتقدّم أنا أخيرا ..أتقدّم مبتعدة عن اليُتم الموحش، عن غروري الموسوم بالأكاذيب ..عنك يا كياني المهزور ..عنك يا ، (لويزة).
 
 
تحياتي ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى