الاثنين ٩ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم عبد الله النصر

الأسلوب البسيط بين الجذب وانهيار القص

يلفت نظرك إلى قوة ملاحظته، وقدرته على التقاط الموضوعات المختلفة من كل شيء حوله.. فما تخرج من موضوع جميل رائع سجله في قطر من أقطار قصة قصيرة ما، حتى يفاجئك بموضوع آخر أجمل وأروع احتضنه وآواه بقصة أخرى.. بدءاً من قصته (بثغر باسم) حيث الصبي الذي نالت منه الحياة بقسوة الفقر والعوز حين أراد الحصول على لعبته المفضلة، وحين نالها محروماً من أبسط حاجات ترميم عظامه بين جدران المدرسة أسوة بزملائه الطلاب، اغتصبها منه صبي آخر، لتعود به المعاناة من جديد.. وانتهاء بقصة (نظرة) التي اقتنصت موضوع ذلك الشاب الباحث عن الزوجة التي تروقه فيجدها على حين غرة في الحافلة حين فجأة سقطت عيناه عليها فاختلس لها نظرة، آسرته، وراح ينسج الخيالات والآمال والطموحات فيها لتكون زوجة المستقبل، إلا أنه تفاجأ بأنها زوجة للعجوز الذي كان يعتقده أباً لها لكبر سنه وصغر سنها، العجوز الذي راح هو يساعده في الحافة أبان سفره لعله يظفر بابنته.. إلا أنه خاب، وأية خيبة كانت؟!

القاص الأحسائي/ أحمد العليو.. الذي بدأ مشواره خلسة، وحياء في ربوع الأحساء، كما هم قصاصها.. يصطاد لنا من بحر الحياة الاجتماعية مواضيعه، فيغمرنا بمآسي شخوصه، انتهج الأسلوب البسيط جداً في طرح أفكاره القصصية.. الأسلوب الذي يمكن لأي قارئ ذي ثقافة متوسطة يجعله يلتهم قصصه ويفهم مغزاها سريعاً وما يريده منها دون إنهاك أو تعب.. بل دون أن يحاول الزهو والتفخيم في عباراته ولغته، الأمر الذي يجعل من قارئه أيضاً لا يضيق ذراعاً به، فيهجره (استسلمَ عمي الحجي إلى النوم ورقبته تدلت على رأس الكرسي، والنوم بدأ يغمض جفوني، فأسندتُ رقبتي رافعاً جسدي قليلا لتعتدل رقبتي، فسقط بصري عليها وهي ترفع الغطوة قليلا لتنظر إلى أسفل، لمحتُ جمالا خارقا)..

أعتقد أنه من الكتاب الذين يهمهم جداً إيصال الفكرة للمتلقي الذي ينفعل ويرتب أثراً، ولم يكن من الكتاب الذين يهمهم أن يكون فخوراً على القارئ بأسلوبه من أجل أن يخاطب فئة معينة من المتلقين، كالناقد الذي يتعلل ويتذرع به البعض، ومحاولة الرقي إلى ذوقه، وكأننا بصدد نقاد حقاً لا يتوانون في اقتناء القصة القصيرة ويتسابقون إليها واقتناص مكامن التأويل فيها.. نعم يحاول العليو، أن يلامس ذوق الناقد ولكن ليس بالمستوى الذي يتركه في لحظات مطولة في التأويل والتشريح، ليثقل من في الجانب الآخر، متلقيه (القارئ) البسيط الذي يهدف إليه (اكتشفُ ملامح وسامة دثرها الزمن، يلقي شيطاني العباءة، وخيالي يبدأ بمحاولة رسم ملامحها)..

ورغم أن العليو في قصته نظرة، الذي حاول أن يجعل القارئ يحس بإصبعه التي توجهها إلى ملاحظة هذا أو ذاك من المعاني الواردة في الموضوع أو القصة، وقد أشعرنا بأن همه أن يقرأ له بقوة ويفهم مايرمي إليه (ما أجمل الصدفة أحيانا) بل أصبابته هفوة التدخل في قصته ببعض العبارات والإسهابات غير المطلوبة (وضعتُ حقيبتي على الكرسي المجاور لي عازما على السفر ولأستريح من أحاديث اختيار الزوجة التي رفضتُ الكثير ممن عرضتْ علي أمي وأختي الكبيرة، فكثيرا ما يُخنق اختيارهما على حبال أسئلتي عن ملامحها وأوصافها، وقد أصبحتا تعجزان عن إقناعي، المشكلة أن قتاعتي لم تكن كبيرة بأن أتزوج على ذائقة الآخرين في مجتمع يجعل الأنثى تسير والغطاء الأسود يغطي جسدها، تعبتْ أمي وتعبتْ أختي من استخدام الحيل والمراوغات للدخول للبيوت الأجنبية لرؤية فتياتهن، أظلُ في جدال معهما نهارا، وليلا استلقي بجسدي على السرير وأعانق تلك الصور المثيرة .) رغم ذلك كله، إلا أنه أتخذ في أسلوبه البسيط، صفة صاحب الصدر الرحب، والحديث الخفيف إلى الصديق المقرب له والمحبب منه، فجعل من القارئ يحس بأنه الصديق العزيز عليه والمتجاوب مع أسئلته وأفكاره وما يريد توضيحه وطرحه في سرده، فأعطاه متعاطفاً معه كل مبتغاه ومايدور في فلك فكره، وإن كان ذلك قد أتى على القصة، وأثقل عليها (أسئلة الناس كثيرة حول زواجي، يريدون أن أقدم لهم تقريرا لهم عن عدم دخولي للقفص الذهبي كما يزعمون، وللأسف الأغلب لا يرى إلا بنظارة الجنس!! .

منهم من رماني بأني عاجز جنسيا فيأخذ بوصف عقاقير وأدوية منشطة لي، وبعضهم يسألني هل لي رفيقات من بناتِ الهوى ؟ !، أتذكر أحدهم أخذ يلح عليّ بأن يصحبني لبنات الهوى المزعومات بالرغم زواجه بثلاث نساء، فأضحكُ من سخفه وهيجانه .) وما كان ينبغي له هذا التعاطف على حساب القصة.. نعم راقني العليو بعدم التعالي على القارئ، إلا أنه فقد خاصية عدم الإيجاز، فأهدى المتلقي مقدمة، كي يهيئه، والقصة القصيرة لا تقبل ذلك، ثم حاول التدخل فيما لا ينبغي التدخل فيه، والتعليق على بعض المفاصل في القصة، ووضح له الكثير كي يكون أكثر راحة ورخاء.. وأعلم بأن القاص العليو يعي تماماً قدر الإيجاز في القصة القصيرة وأنه يدرك بقوة أن هذه الهفوات تخل بالقصة، وقد وجدتُ ذلك ظاهراً في كثير من قصصه حتى خرج بحصيلة كثيرة من القراء المختلفين الذين انسجموا مع القصص وراحوا يؤولونها رغم وضوح وجهها في الظاهر، إلا أن ذلك يعد كبوة لفارس يمكنه ألا يكبو مرة أخرى...

أعتقد أن العليو برع في الإيجاز الذي تقوم عليه القصة بأقل عدد ممكن من الألفاظ.. وبمعنى أن تحذف كل كلمة لا تخدم المعنى أو تضفي عليه الجاذبية المطلوبة. في هذه القصة (نظرة) ولاسيما في نهايتها المفاجئة المخيبة للآمال بقوله : (سبقته إلى أسفل الباب .
ـ " عمي الحجي أعطني يدك " .

وعيناي تنظران زوجتي في المستقبل . وصوتٌ مخنوقٌ ينصب رمحه في قلبي :

ـ " وجع يوجعك، أزعجتنا يا عمي الحجي ... يا عمي الحجي ".

دور الأرضُ بي .

تلكزها المرأة الكبيرة وصوت خفيض :

ـ " عيب يا ابتني، عيب المرأة يطلع صوتها "

وبوجه يغزوه الخجل يعتذر العجوز لي من عبارات زوجته !!! .

فيزداد دوران الأشياء من حولي، وأوراق الأمل تتساقطُ من حولي)

ومن هنا أشد على يد القاص العليو، بهذا الأسلوب السردي الذي يعبر عن اهتمامه بإيصال أفكاره الخصبة المشحونة بقوة خياله وروعة تصويره للأشياء والمواقف التي يلتفت إليها وتشده فيقدمها على طبق من ذهب إلى قارئه.. وآمل أن يلقى هذا الأسلوب اهتمامه بالدرجة الأولى فيرتقي به ليكون ضمن السهل الممتنع، بل ويكون مميزاً به، خاصاً له، لتخرج قصصه إلى النور بكثافة، فيحصل على أكبر قدر من القراء الذين ينفعلون ويرتبون أثراً بعد القراءة.. وأعتقد أن العليو باجتهاده الذي بدا واضحاً في انجازه لمجموعته القصصية (الجسر) في فترة وجيزة قادر على أن يلهبنا بهذا الأمل.

كما يجدر بي إلى حث القارئ الكريم، إلى قراءة مجموعته، لإيماني بأنا ستجتذبه وتأسره، وسيخرج بحصيلة طيبة.

وفقه الله وأعانه في مسيرته القصصية، وأعتذر عن قصوري أو تقصيري,

نظرة

قصة قصيرة

أحمد طاهر العليو

وضعتُ حقيبتي على الكرسي المجاور لي عازما على السفر ولأستريح من أحاديث اختيار الزوجة التي رفضتُ الكثير ممن عرضتْ علي أمي وأختي الكبيرة، فكثيرا ما يُخنق اختيارهما على حبال أسئلتي عن ملامحها وأوصافها، وقد أصبحتا تعجزان عن إقناعي، المشكلة أن قتاعتي لم تكن كبيرة بأن أتزوج على ذائقة الآخرين في مجتمع يجعل الأنثى تسير والغطاء الأسود يغطي جسدها، تعبتْ أمي وتعبتْ أختي من استخدام الحيل والمراوغات للدخول للبيوت الأجنبية لرؤية فتياتهن، أظلُ في جدال معهما نهارا، وليلا استلقي بجسدي على السرير وأعانق تلك الصور المثيرة .

رأسي يطلُ من نافذة باص النقل الجماعي، وفي الجهة الأخرى من الباص عجوزٌ يوسدُ عصاه على الممر، وفي أحد أصابعه خاتم ومسبحة طويلة " تطقطق " بين أصابعه المرتعشة قليلاً، جيبهُ الأيمن يتدلى مخبئا محفظة منتفخة، وفتاة جنبه تغطي العباءةُ جسمها ماعدا الكفين اللتين تفتحان مجلة " زهرة الخليج "، يلتفتُ خلفه أحياناً ليحدث المرأةَ الكبيرة السن التي ما يفتأ لسانها عن الذكر .

سئمتُ النظر في هذه الصحراء ذات الرمال الذهبية والأعشاب اليابسة، تحسرتُ أني تباطأتُ في حجز تذاكر الطيران، الوجوه أجنبية ماعدا هذا العجوز وأسرته، أعودُ وأغرقُ في همومي وأسياخ حمراء في قلبي، أسئلة الناس كثيرة حول زواجي، يريدون أن أقدم لهم تقريرا لهم عن عدم دخولي للقفص الذهبي كما يزعمون، وللأسف الأغلب لا يرى إلا بنظارة الجنس !! .
منهم من رماني بأني عاجز جنسيا فيأخذ بوصف عقاقير وأدوية منشطة لي، وبعضهم يسألني هل لي رفيقات من بناتِ الهوى ؟ !، أتذكر أحدهم أخذ يلح عليّ بأن يصحبني لبنات الهوى المزعومات بالرغم زواجه بثلاث نساء، فأضحكُ من سخفه وهيجانه .

استخرجُ زجاجةَ ماء كي أمزق هذا الملل الذي يبس أحشائي، أقدمها للعجوز، لكنه يردني بدعاء لي .
هذه الزجاجة فتحت نافذة لحوار بدأ بكلمات بسيطة، ثم تطور إلى حكايات قطّعت ملل الطريق، فقد استأنستُ بأحاديثه، وأخذتُ أسردُ له بعض سيرتي الشخصية، و أساعده أثناء نزوله وصعوده و مشاعر الارتياح طافحة على وجهه، يرددُ دائما "يا وليدي" و أناديه "يا عمي الحجي" وكلما ناديتُه بهذا النداء تلتفتُ إليّ الفتاة !!.

استسلمَ عمي الحجي إلى النوم ورقبته تدلت على رأس الكرسي، والنوم بدأ يغمض جفوني، فأسندتُ رقبتي رافعاً جسدي قليلا لتعتدل رقبتي، فسقط بصري عليها وهي ترفع الغطوة قليلا لتنظر إلى أسفل، لمحتُ جمالا خارقا، شعرتُ شيء يسلبني اتزاني، سبحان الخالق، أخذتُ أعيد تفاصيل الوجه، لكن ذاكرتي لم تستطع الإلمام بتفاصيلها الفاتنة، أصابعي ترتب شعري المبعثر وشاربي، تمنيتُ لو احتضنتْ حقيبتي عطرا، وأخذت أداعبُ مخيلتي .

فتحت صحيفتي وبطرف عيني أسرقُ النظرات إليها، وأحيانا انظر إلى نافذة "الباص" فربما تنعكس صورتها على النافذة الزجاجية، أدققُ في ملامح عمي "الحجي"، اكتشفُ ملامح وسامة دثرها الزمن، يلقي شيطاني العباءة، وخيالي يبدأ بمحاولة رسم ملامحها، ما أجمل الصدفة أحيانا، أخذ عقلي يرتب تفاصيل الخطبة والزواج، وزغاريد أمي وأختي تدويان في أذني .

اقتلعُ العجوز من مقعده وأجلس مكانه، أضع أناملي بأناملها الرقيقة، وفي أذنيها أهمسُ كما يفعل العاشقون، و الأبيات الغزلية التي كنتُ أرددها أيام الثانوية تخرج من فمي، الباص يطير بجناحين، والرمال تحولتْ إلى مروجٍ خضراء تشقها المياهُ بنعومة وليونة، والطيور بألوانها المختلفة تطلق من أفواهها أناشيد الحب .

لا زال "الباص" يشقُ عبابَ الصحراء، وستائرُ الليل تزحفُ مغطيةً قرص الشمس المختفي شيئا فشيئا، وأنا لا زال في بحرٍ من الهيام والعشق، يتوقف الباص لأداء الصلاة، فيقوم عمي "الحجي" متكئا على عصاه، وظهره متقوس، والرجفة تمتلك يده، والمسافرون يتزاحمون خلفه، يقترب من درج "الباص" وأنا قد سبقته إلى أسفل الباب .
ـ عمي الحجي أعطني يدك .

وعيناي تنظران زوجتي في المستقبل .

صوتٌ مخنوقٌ ينصب رمحه في قلبي :

ـ " وجع يوجعك، أزعجتنا يا عمي الحجي ... يا عمي الحجي ".

تدور الأرضُ بي .

تلكزها المرأة الكبيرة وصوت خفيض :

ـ " عيب يا ابتني، عيب المرأة يطلع صوتها "

وبوجه يغزوه الخجل يعتذر العجوز لي من عبارات زوجته !!! .

فيزداد دوران الأشياء من حولي، وأوراق الأمل تتساقطُ من حولي .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى