الثلاثاء ١٠ أيار (مايو) ٢٠١١

ذكرى البدايات واستمرار النشيد الجميل

داعس أبو كشك

في لحظة وفاء وافتخار، ومن أجل تعريف طلاب مدارس كلية الروضة في نابلس على الشاعر الكبير محمد حلمي الريشة، ابن نابلس/ ابن فلسطين، لأنه واجب علينا كتربويين أن نقدم لطلابنا من أثروا المكتبة الفلسطينية بمؤلفات قيمة تكشف بما احتوته بين ثنايا أوراقها عن شاعر مبدع يشبه طائر الفينيق في تحديه وإرادته، لا يعرف المستحيل، وإنما دائم الإصرار نحو امتطاء صهوة الريح.

لقد سعد الطلاب في تعرفهم إلى هذه القامة الشاعرية، واستمعوا إليه بشغف واهتمام وهو يسرد عليهم قصته مع الشعر، وعاد بالذكريات إلى السنوات الخوالي؛ إلى العام (1980) عندما تعرف الشاعر محمد حلمي الريشة على الكاتب داعس أبو كشك صاحب دار منشورات الوحدة التي تأسست في نابلس، والتي كانت ملتقى للكتاب والأدباء أمثال الأديب الكبير علي الخليلي, الذي كتبت عنه في مقالة أدبية أنه مؤسس الحركة الثقافية في الأراضي المحتلة، والآن أقول عنه إنه يستحق لقب عميد الأدب الفلسطيني، وأنا عندما أقول ذلك فإنه ليس مجاملة لعلي الخليلي، إنما يأتي ذلك في الاعتراف بهذه الشخصية التي فرضت بصماتها وبقوة في مسيرة الحركة الأدبية، ومهما قدمنا من اعتراف بهذا الدور نبقى مقصرين تجاه من قدم الشيء الكثير لهذه الحركة, وهذا يسجل في سفر من نور للأديب الشمولي علي الخليلي؛ فهو الذي احتضننا، وأرشدنا، فكان المعلم والأخ والرفيق والأديب، تتلمذنا عليه، وخرجنا من معطفه الأدبي، وصار لنا صوت يسمع في الجهات الأربع، وكان من بين من نلتقي معه الناقد الكبير الدكتور عادل الأسطة الذي أسس لحركة نقدية فلسطينية في الأراضي المحتلة،, وكذلك الشاعر عبد الناصر صالح، ومحمد كمال جبر، والمرحوم الدكتور زكي العيلة ابن قطاع غزة الذي كان يحضر إلى نابلس، وكذلك الأديب غريب عسقلاني، وعبد الله تايه، والشاعر فاروق مواسي من باقة الغربية في أرض (1948)، ومازن دويكات، والأديب عفيف سالم، والأديب والمحلل السياسي أنطوان شلحت، والشاعرة سهام داود، والشاعر المرحوم الدكتور عبد اللطيف عقل، وغيرهم الكثير.

وقد تحدث الشاعر الريشة بإسهاب عن تلك الحقبة من الزمن الجميل على الرغم قمع سلطات الاحتلال للحركة الثقافية، إِلا أن مواجهة التحدي أوجدت إبداعاً في الحركة الثقافية، وكنا نعمل سوياً من أجل إصدار نشرة، أو كتاب على حساب قوتنا اليومي، لأننا كنا نؤمن بضرورة أن نسمع صوتنا بدون أن يكون في أنفسنا أي شيء له بعدٌ شخصي، أو منفعة ذاتية، بعكس اليوم؛ فهناك من يتسلق على أكتاف الحركة الثقافية في سبيل مصالح شخصية.

واستطرد الشاعر في لقائه عن تجربته الشعرية، وبمن تأثر من الشعراء، وبيّن للطلاب كيفية أن يصبح الإنسان شاعراً.

إن هذا اللقاء المتميز، ومع شاعر متميز، له مدلولاته في نفوس الطلبة الذين أعطوا اللقاء جواً بهيجاً من خلال ما طرحوه من أسئلة على الشاعر كانت في مضمونها تكشف عن ميولهم الأدبية، والمعيقات التي تعرقل تنمية مواهبهم. ولعلني أعود بالذاكرة إلى الثلث الأخير من القرن الماضي، وفي العام (1980)، عندما قام الشاعر الريشة بإصدار ديوانه الأول بعنوان "الخيل والأنثى"، والذي أهداني إياه، وقمت وقتها بالكتابة عنه في الملحق الأدبي لصحيفة (الشعب). وأتذكر كيف كنا نهّرب المقالة لكي ننشرها في مجلة (الجديد) وصحيفة (الاتحاد) اللتين تصدران في حيفا، لأنه لم تكن تتوفر وسيلة اتصال مثلما يحدث اليوم؛ فكنا نحمل ما نكتبه داخل معاطفنا إلى جريدة (الفجر الأدبي) بالقدس، أو إلى حيفا، كما ذكرت آنفاً. لقد كانت معركة إثبات الوجود، وكم صودرت مقالات ودراسات من قبل سلطات الاحتلال التي كانت وما زالت تحارب الكلمة وتحارب الحرف؛ فكم من أديب تعرض للاعتقال، والنفي، والإبعاد، ومنع من السفر والتنقل، وفرض الإقامة الجبرية، ولكن ذلك لم يفتت الحس الثقافي عند الأدباء والمثقفين.

إن من حق شعبنا أن يفتخر بأدبائه ومثقفيه أسوة بشعوب العالم الذين قدسوا الكلمة، واحترموا أدبائهم، واشتروا كتبهم، من أجل أن يبقى أديبهم في طليعة صفوفهم.
لقد استطاعت الحركة الأدبية في فلسطين أن تتوهج بنضالات شعبها، وأن تسجل الإبداع تلو الإبداع، وأن تربط الجيل بجذوره ورموزه الأدبية والثقافية التي ما زالت تعطي وتناضل، وإن أفقدنا الموت عدداً منهم، إلا أن بصماتهم خالدة في موروثنا الثقافي.

سيرة ذاتية- أدبية

* مواليد نابلس- فلسطين سنة (1958).

* نال درجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم الإدارية (محاسبة وإدارة أعمال) من جامعة النجاح الوطنية / نابلس سنة (1982)، ودرجة البكالوريوس في الأدب العربي، وعمل في عدة وظائف في مجال تخصصه حتى سنة (2000).

* عمل محرراً ثقافياً.

* شارك ويشارك في عديد من الندوات والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية.

* ترجمت له عديد من النصوص الشعرية والنثرية إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والبلغارية والإيطالية والإسبانية والفارسية.

* يعمل منذ العام (2000) مدير دائرة المطبوعات والنشر في بيت الشعر الفلسطيني.

(الْأَعْمَالُ الُمنْجَزَةُ)

الْأَعْمَالُ الشِّعْرِيَّةُ:

الْخَيْلُ وَالْأُنْثَى (1980).

حَالَاتٌ فِي اتِّسَاعِ الرُّوحِ (1992).

الْوَمِيضُ الْأَخِيرُ بَعْدَ الْتِقَاطِ الصُّورَةِ (1994).

أَنْتِ وَأَنَا وَالْأَبْيَضُ سَيِّءُ الذِّكْرِ (1995).

ثُلَاثِيَّةُ الْقَلَقِ 86-90 (1995).

لِظِلَالِهَا الْأَشْجَارُ تَرْفَعُ شَمْسَهَا (1996).

كَلَامُ مَرَايَا عَلَى شُرْفَتَينِ (1997).

كِتَابُ المُنَادَى (1998).

خَلْفَ قَمِيصٍ نَافِرٍ (1999).

هَاوِيَاتٌ مُخَصَّبَةٌ (2003).

أَطْلَسُ الْغُبَارِ (2004).

مُعْجَمٌ بِكِ (2007).

الْأَعْمَالُ الشِّعْرِيَّةُ- ثَلاَثَةُ مُجَلَّدَاتٍ (2008).

كَأَعْمَى تَقُودُنِي قَصَبَةُ النَّأْيِ (2008).

قَمَرٌ أَمْ حَبَّةُ أَسْبِيرِينٍ (2011).

الْأَعْمَالُ الْأُخْرَى:

زَفَرَاتُ الْهَوَامِشِ (2000).

مُعْجَمُ شُعَرَاءِ فِلَسْطِين (2003).

شُعَرَاءُ فِلَسْطِين فِي نِصْفِ قَرْنٍ (1950-2000) تَوْثِيقٌ أَنْطُولُوجِيٌّ/ بِالاشْتِرَاكِ (2004).
الإِشْرَاقَةُ المُجَنَّحَةُ- لَحْظَةُ الْبَيْتِ الأَوِّلِ مِنَ الْقَصِيدَةِ- شَهَادَاتٌ/ بِالاشْتِرَاكِ(2007).
إِيقَاعَاتٌ بَرِّيَّةٌ- شِعْرِيَّاتٌ فِلَسْطِينِيَّةٌ مُخْتَارَةٌ- جزْءَانِ/ بِالاشْتِرَاكِ (2007).

نَوَارِسٌ مِنَ الْبَحْرِ الْبَعِيدِ الْقَرِيبِ- الْمَشْهَدُ الشِّعْرِيُّ الْجَدِيدُ فِي فِلَسْطِين المُحْتَلِّةِ 1948/ بِالاشْتِرَاكِ (2008).

مَحْمُود دَرْوِيش- صُورَةُ الشَّاعِرِ بِعُيُونٍ فِلَسْطِينِيَّةٍ خَضْرَاءَ/ بِالاشْتِرَاكِ (2008).
مَرَايَا الصَّهِيلِ الأَزْرَق- رُؤيَةٌ. قِرَاءَاتٌ. حِوَارَاتٌ (2010)

الأَعْمَالُ المُتَرْجَمَةُ:

لِمَاذَا هَمَسَ الْعُشْبُ ثَانِيَةً؟ مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ مِنْ "مُشَاهَدَةُ النَّارِ" لِلشَّاعِرِ كِرِيسْتُوفَرْ مِيرِيلْ (2007).

بِمُحَاذَاةِ النَّهْرِ البَطِيءِ- مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ وَقَصَصِيَّةٌ (2010).

يقول الشاعر في القصيدة الآتية من مجموعته الأخيرة التي صدرت مؤخراً:

فَوْقَ ظِلِّ عَبَّادِ الأَمْسِ
هَايْكُو شُبِّهَ لِي فِي انْتِظَارِ أَحْفَادِ "غُودُو" وَأَيْتَامِ الـ"بَرَابِرَةِ"
 
أَشُمُّ - حَتَّى عُلْبَةَ لَفَائِفِهَا
أَلْحَسُ - حَتَّى إِنَاءَ قَهْوَتِهَا
أَشْعُرُ - قَصِيدَةً أَكَادُهَا.
 
1
أَنْهَضُ كُلَّ لَيْلَةٍ
بَحْثًا عَنْ صَبَاحٍ
بَيْنَ جَنَاحَيْ غُرَابٍ.
 
2
أَبْتَلِعُ الأَسَى
نَحْلَةً مَرِيضَةً،
وَأَصْرُخُ مِنْ شَبَعِي.
 
3
أَصْعَدُ شَجَرَةَ الحَيَاةِ
لِأَلْتَقِطَ ثَمَرَةً
سَقَطَتْ فِي القَبْرِ.
 
4
أَرَى بُومَةً لَا تَرَانِي؛
يَبْدُو أَنَّ عَيْنَيْهَا
مُعَارَةٌ لِلْعَتْمَةِ.
 
5
أَبْحَثُ عَنْ ظِلِّي
تَحْتَ شَمْسٍ عَمُودِيَّةٍ
عَلَى بُقْعَةِ اسْتِوَائِي.
 
6
أَزْرَعُ زَهْرَةَ أَمَلٍ
سَيُرْدِيهَا خَرِيفُ العُمْرِ
بَيْنَ فَكَّيْ دُودَةٍ.
 
7
أَحُطُّ عَلَى دُوَارِي
نَازِفًا عَرَقًا
فِي جَفَافِ سُكْرِي.
 
8
أُدَاوِلُ الحَنِينَ
بَيْنَ جَسَدٍ وَقَلْبٍ
لِآكُلَ الثَّمَرَةَ مَرَّتَيْنِ.
 
9
أَقْرَأُ الجَسَدَ العُضَالَ؛
قُوَّةُ الغَرِيزَةِ
أَقْوَى مِنَ الغَثَيَانِ.
 
10
أَنَا مَرِيضٌ بِهَا
حَتَّى اكْتِمَالِ العَافِيَةِ.
كَيْفَ صَدَّقْتُ طَبِيبَ العُقَابِ؟
 
11
أَبْكِي مِنْهَا
أَبْكِي عَلَيْهَا
خَشْيَةً مِنْ بُكَائِي.
 
12
أَرْتَجِفُ فِيهِ
حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَزَلْ بَعْدُ دَافِئًا
فَرَاغُ لَحْدِي.
 
13
أَعْمَى بِرُؤْيَةِ عَمْيَاءٍ
نَنِزُّ وَمِيضَ عَتْمٍ
عَمَايَ وَأَنَا.
 
14
أَثْدَاءُ نَحْلَةٍ؟
حَلَمَاتُ فَرَاشَةٍ؟
رَائِحَةُ حَلِيبٍ فِي فَمِ صَمْتِي.
 
15
أَظَلُّ أَشْتَهِيهَا
أَلَذُّ مِنْ ثِمَارِهَا التَنْتَهِي؛
نَبْتَةُ عَبَّادِ الأَمْسِ.
 
16
أُغَطِّي الثَّمَرَةَ المَرِيضَةَ
بِمِعْطَفِ شَفَقَتِي،
وَأَبْتَدِعُ مَذَاقًا آخَرَ.
 
17
أَخْطُو بِقَدَمَيْ قَشٍّ وَنَارٍ
لَا أُبَاعِدُ بَيْنَهُمَا
لِسُوءِ احْتِرَاسِي.
 
18
أَهُشُّ حَتَّى اخْتِبَاءَ خَيَالِي
لِتَكُونَ كُلُّ مَرَّةٍ
أَوَّلَ مَرَّةٍ.
 
19
أَصْنَعُ إِلهَ هَبَلٍ
إِنْ جَاعَ غَدًا
أَكَلْتُهُ أَمْسِ.
 
20
أَسْخَفُ مِنْ حَرْثِ بَحْرٍ
أَجَنُّ مِنْ زِرَاعَةِ ثَلْجٍ فِيهِ؛
تَاءُ تَذْكِيرِهَا.
 
21
أُطْلَقْتُ ذِئْبِي
فِي بَرِّيَّةِ اسْتِسْلَامِهَا؛
عَادَ عَاطِفَةً.
 
22
أَنْسَى؟
لِسَانُ زَهْرَةِ اللَّيْمُونِ
يَهْتَزُّ مِنْ لُعَابِي.
 
23
أُبْعِدُ حِصَانَ قُرْبِي
عَنْ يُنْبُوعِ أَرْبَعَتِهَا؛
وَيَشْرَبُ!
 
24
أَنْحَنِيهَا قَوْسَ قُزَحٍ
بِلَوْنٍ وَاحِدٍ؛
مَائِي.
 
25
أَقْطِفُ كَرَزَتَيْهَا
تَنْبِتُ ثَانِيَةً؛
شَفَتَايَ.
 
26
أَخْتَفِي فِي إِبْطِ ظِلِّي؛
شَيْطَانُ شَمْسِهَا
يَبْحَثُ عَنْ صُدَاعِي.
 
27
أَنْزَعُ قُبَّعَةَ الأَلَمِ
أَضْحَكُ عَلَى نَفْسِي كَحَاوٍ
مِنْ كَثْرَةِ قُبَّعَاتِهِ.
 
28
أَتَأَوَّهُ
تَتَصَارَخُ؛
رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ لِصَلَاةِ النَّرْجِسِ.
 
29
أَخُونُ قَلْبِي؛
أَجْعَلُ اسْمَهَا رَذَاذًا
بَيْنَ أَصَابِعِي.
 
30
أَحْسِدُهُ؛
دُورِيٌّ يَشِيخُ
فِي بَيْضَتِهِ.
 
31
أَعْزِفُ أَوْتَارَ قَهْرِي
مُوسِيقَى مَلَاكٍ
بِآلَةِ شَيْطَانٍ.
 
32
أُرِيدُكِ
لَيْسَ كَمَنْ يَعْتَنِقُنِي
بَلْ يَعْتِقُنِي.
 
33
أُعَانِقُ اللِّقَاءَ
وَالوَدَاعَ
بِصَدْرِي الوَاحِدِ نَفْسِهِ.
 
34
أَغِيظُنِي بِالغَيْرَةِ؛
بَيَاضُ القُبَّرَةِ
يَرْقُصُ بِعُرْيِي.
 
35
أَحْتَرِقُ؛
لَحْمُ المَسَاءِ وفَحْمُ اللَّيْلِ
فَوْقَ حُمَّى ذَاكِرَتِي.
 
36
أَخْدِشُ صُورَتِي لِعَيْنَيْهَا؛
أَزِيزُ رَحْمَتِي
أَصَابَ صَدَايَ.
 
37
أُرَاقِبُ أُمُومَةَ ظِلِّي
تَشُدُّنِي كَطِفْلٍ
إِلَى البَيْتِ.
 
38
أَخْفِقُ؛
كَنَارِي نِيسَانَ
يَخْتَفِي أَوَّلَ أَيَّارَ.
 
39
أَنْتَظِرُ أَحْفَادَ "غُودُو"،
وَأَيْتَامَ الـ"بَرَابِرَةِ"
لِأَطْرُدَ رُؤْيَايَ.
 
40
آخُذُهُ فَأَتْعَبُ
أَتْرُكُهَ فَيَتْعَبُ؛
الحُبُّ.
 
41
أَحْتَاجُهَا أَكْثَرَ
ثَمَرَةُ العُزْلَةِ؛
قَصِيدَتِي.
 
42
أَخْشَى انْتِهَائِي
رَغْمَ أَنَّهُ
لِي.
 
43
أُشْفِقُ عَلَيَّ؛
مَا لِهذِهِ القَصِيدَةِ
لَا تَنْتَهِي!

وفي حوار صحفي رد الشاعر على أسئلة الصحفي حول "القصيدة الضيف" قائلاً:

* من المحو نكتشف مجهول الكتابة، وعمق المخاطرة مع ضيافة القصيدة، من الذي يكون ضيفًا على الآخر القصيدة أم الشاعر؟ أم كلاهما في ضيافة متعة تفتك بتكهنات عرّافة؟

 هيَ مَن تأْتِي لِتحلَّ ضيفةً على الشَّاعرِ، وعليهِ أَن يكونَ حاضرًا وجاهزًا لها، لأَنَّها لا تحبُّ أَن تحضرَ دونَ أَن يكونَ شاعرُها في اسْتقبالِها، وعليهِ أَن يُحسنَ اسْتقبالَها، ويُتقِنَ ضيافتَها كي تقبلَ المكوثَ. بعدَ هذَا، يتماهيانِ معًا في حالةٍ منَ اللاَّشعورِ/ واللاَّوعي، حتَّى يَصِلا إِلى سؤالِ الشَّاعرِ (وليم بتلر ييتس) المُدهشِ/ المُذهلِ: "كيفَ نعرِفُ الرَّقصَ منَ الرَّاقصِ؟!"

* الكتابة الشعرية انخراط عنيف في الإنصات لعوالم الداخل المشبعة بالجرح والحلم، تعرية لتضاعيف الذاكرة بِشعلة القصيدة. هل تؤمن بأن الشعر قادر على تغيير العالم إلى ما هو أنقى وأصفى في ظل السلم والسلام بعيدًا عن الحروب وقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والأطفال؟

 لا شِعر دونَ فكرةٍ/ أَفكارٍ، حتَّى "الفانتازيا" الشِّعريَّةِ، أَو الشِّعرِ "الفانتازيِّ"، لا بدَّ وأَن يحملَ فكرةً ما، ذلكَ أَنَّ الشِّعرَ لا يولدُ من فراغٍ، أَو عدمٍ، ولا يَحيا في اللاَّشيءِ، أَو يكونُ لِلاَشيءٍ.
الوطنُ، مثلاً، فكرةٌ جماليَّةٌ عُليَا/ سماويَّةٌ، وهو غيرُ قابلٍ للقسمةِ إِلاَّ على واحدٍ، والاحتلالُ فكرةٌ دونيَّةٌ، لِما فيها من بشاعةٍ، وحقدٍ، ودمٍ مباحٍ دونَ وجهِ حقٍّ، وإِنسانيَّةٍ مهدورةٍ من لا إِنسانيَّةٍ حقيرةٍ، لذَا فهو إِلى زوالٍ، مهما عمَّرَ من خرابٍ. الشِّعرُ يحاولُ المرورَ بينَ متعاركاتِ الشَّيءِ وضدِّهِ منتصرًا للحريَّةِ والجمالِ والحبِّ وإِنسانيَّةِ الإِنسانِ، لهذا أَجدُني شاعرًا أَقسو على قصيدتِي بما أَستطيعهُ من حنانٍ، كي تُطلَّ من شرفةِ القلبِ بأَبهى ما يمكنُ، مهمَا كانت موضوعتُها. إِنَّني لا أَعتقدُ أَنَّ القصيدةَ تستطيعُ، وعمومَ الكتابةِ، مهما بلغتْ من بلاغةٍ، أَن تجمعَ أَشلاءَ طفلٍ تناثرتْ في حضنِ أُمِّهِ وهي تُرضِعهُ، ولا تستطيعُ حتَّى محوَ دمعةٍ حارقةٍ عن خدِّها المُتصدِّعِ. لستُ أَشكو عجزَ الشِّعرِ، لأَنَّ الحواسَّ، وهيَ الأَساسُ في الكتابةِ الإِبداعيَّةِ، لا تستطيعُ أَن تمسكَ قلمًا وهيَ تُشوَى في أَتونِ الحربِ. للأَسفِ الشَّديدِ، فإِنَّ الشِّعرَ لا يستطيعُ أَن يُرجعَ فوَّهةَ دبَّابةٍ مترًا واحدًا إِلى الخلفِ.

الأسرة التربوية في تربية نابلس

ومؤخراً احتفلت الأسرة التربوية في تربية نابلس بلقائها مع الشاعر وذلك "انطلاقاً من حرصها على الرقي باللغة العربية، ومتابعة الشعر الفلسطيني، ورغبتها في التواصل مع المؤسسات الثقافية في الوطن، عقدت لجنة مبحث اللغة العربية في مديرية التربية والتعليم في محافظة نابلس ندوة أدبية حول الشعر الفلسطيني الحديث، حيث استضافت الشاعر والباحث والمترجم محمد حلمي الريشة من وزارة الثقافة- بيت الشعر الفلسطيني، بحضور مشرفي اللغة العربية ومعلميها في المحافظة، إضافة إلى جمهور غفير من المدعوين والمهتمين باللغة العربية والشأن الأدبي- الشعري الفلسطيني.

بداية، تحدث مُسيِّر الندوة د. خليل قطناني عن أهمية هذا اللقاء الأدبي والثقافي في آن، من حيث أنه تواصل عن قرب مع شخصية أدبية تتابع مسيرة الشعر الفلسطيني على وجه الخصوص؛ شخصياً وبحكم عملها، وبحث فيما وصلت إليه الشعرية الفلسطينية الحديثة- المعاصرة، ثم قدم الشاعر المحاضر، ذاكراً مختصراً لسيرته ومنجزه الإبداعي في الشعر والبحث والترجمة، حيث وصل منجزه في الشعر والبحث والترجمة إلى أربعة وعشرين كتاباً.

استعرض الشاعر محمد حلمي الريشة في محاضرته مسيرة الشعر الفلسطيني، حيث قسمه، لضرورة الدراسة، إلى مراحل طبقاً للوضع السياسي الفلسطيني، بدءاً من العام (1917) وحتى الآن، مشيراً إلى أنه اكتشف أثناء بحثه عن الشعراء الفلسطينيين منذ ذلك العام وحتى ما قبل العام (1948)، وجود أكثر من ثلاثين شاعراً، لم نعرف منهم سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأنه بصدد دراسة أساب عدم ظهورهم وانتشارهم فلسطينياً وعربياً، ثم ركز على الفترات من العام (1967) حيث نكسة حزيران إلى العام (1987) حيث انتفاضة الحجر، ثم منها إلى العام (1993) حيث اتفاقية أوسلو، ثم منها إلى العام (2000) حيث انتفاضة الأقصى، وإلى الآن، مبرزاً بنقاط مكثفة أهم ما تميز به الشعر الفلسطيني من حيث المضمون والخصائص في كل مرحلة تاريخية تتعلق بالقضية الفلسطينية، إضافة إلى ذكر معظم الشعراء الذين ظهروا في كل مرحلة.

بعد ذلك، قرأ الشاعر عدداً من قصائده التي كانت أيضاً مثار نقاش ثوي ومتباين ضمن النقاش الذي دار حول محتوى المحاضرة، حيث طرح عدد من الحضور أسئلة ومداخلات لما للموضوع من أهمية كبيرة، وقد تباينت وجهات النظر والآراء بين الشاعر والحضور وبين الحضور أنفسهم ما جعل الندوة، والتي امتدت قرابة الساعتين، ثرية في مختلف جوانبها.

في نهاية الندوة، قام الشاعر محمد حلمي الريشة وأعضاء من اللجنة بتوزيع سبعين نسخة من كتابه (مرايا الصهيل الأزرق؛ رؤية. قراءات. حوارت) على الحضور هدية لهم.

الصحافة الأدبية في فلسطين اليوم

وحول رأيه في الصحافة الأدبية في فلسطين اليوم قال:

"سأَقذفُ بالماءِ الَّذي أَبقيتُ، بإِرادتي، فِي فَمي، بعدَ أَن صبرتُ صبرًا "جميلاً"، وسأُخرجُ لسَاني "حصَاني" مِن عزلتِنا الإِراديَّةِ معًا؛ فقدْ طالَ أَمدُ "الشَّيطانِ الأَخرس" فِيَّ، ولاَ أَلومُ إِلاَّ نَفْسي، ومَعي غَدي، ويَومي، وأَمسِي!

لَم يَعدْ مقبولاً، ولاَ معقولاً، أَن تظلَّ "حياتُنا الأَدبيَّةُ الفلسطينيَّةُ" عمياءَ، وصمَّاءَ، وبكماءَ، بإِرادتِنا، أَكثرَ ممَّا هيَ عليهِ الآنَ! أَليسَ كذلكَ؟ ومَن الَّذي، مِن الأُدباءِ ومَسؤولي "الأَبراجِ الأَدبيَّةِ"، علَى اختلافِ أَشكالِها وبُنيتِها، سوفَ يظلُّ راضيًا، بلْ وفاعلاً، بحَذقٍ، بِهذا "المواتِ/ التَّماوتِ الأَدبيِّ"، والَّذي كادَ أَن يكونَ طبعًا، وسلوكًا، ومنهجًا؟!

كيفَ كانتْ "فلسطينُ الأَدبيَّةُ"، فِي "عزِّ" أَزماتِها المختلفةِ القاسيةِ والمُستنزِفةِ لكلِّ شيءٍ، قادرةً علَى طباعةِ الكتبِ، وإِصدارِ الملاحقِ، وتَبنِّي المواهبِ، وعقدِ الأُمسياتِ والنَّدواتِ والحواراتِ، والكتاباتِ النَّقديَّة، والاحتفاءِ بظواهرِ الأَدبِ الإِبداعيِّ كلِّهِ؟! كانَ هذا أَواخرَ السَّبعينيَّاتِ مِن القرنِ الماضيِّ، واستمرَّ ردحًا لاَ بأْسَ بهِ مِن الزَّمنِ، إلى أَن وصَلْنا إِلى حالةِ التَّشتُّتِ الأَدبيِّ، بقَلقِها، ويأْسِها، ووأْدِها، وتماوتِها، وشبهِ موتِها، بِفعلِ فاعلينَ، وهمْ كثرٌ!
أَمِنَ المعقولِ، فِي "حياتِنا الأَدبيَّةِ الفلسطينيَّةِ" أَن لاَ يجدُ أَديبٌ مبدعٌ جهةً تصدرُ لهُ كتابًا؟ وإِن وجِدتْ، وهذهِ نادرةٌ جدًّا، فإِن لَها مَا لَها مِن المعاييرِ المشبوهةِ، والمضلِّلةِ، مَا يشوِّهُ روحَ الأَدبِ والأَديبٍ معًا!

أَمِنَ المعقولِ أَن لاَ تكونَ فِي "حياتِنا الأَدبيَّةِ الفلسطينيَّةِ" الآنيَّةُ مجلَّةٌ شهريَّةٌ علَى الأَقلِّ (والضَّرورةُ أُسبوعيَّةٌ)، كمَا كانَ لدَينا، وقدْ كانَ لدَينا أَكثرَ مِن مجلَّةٍ إِبداعيَّةٍ متميِّزةٍ؟! وكذلكَ صحيفةٌ أَدبيَّةٌ أُسبوعيَّةٌ؟!

أَمِنَ المعقولِ أَن لاَ تكونَ فِي صُحفِنا اليوميَّةِ صفحةٌ أَدبيَّةٌ وأَكثرُ يوميَّةٌ، علَى غرارِ الصَّفحاتِ الرِّياضيَّةِ، وغيرِها مِن الصَّفحاتِ الَّتي تملأُ الصُّحفَ ولاَ يقرؤها إِلاَّ أَقلَّ القليلِ؟!

إِنَّني، وغَيري مِن الغَيورينَ، حينَ أُلقي نظرةً خصوصيَّةً فاحصةً، أَو عموميَّةً عابرةً، علَى حياتِنا الأَدبيَّةِ، أَرى حالاتٍ أَدبيَّةً مشتَّتةً، تهيمُ علَى وجوهِها الإِبداعيَّةِ، والَّتي كثيرًا مَا تتوقَّفُ، فَتنكسرُ وهيَ أَعوادُ النِّدِّ الَّتي تعطِّرُ الحياةَ مَا استطاعتْ إِلى هذَا سبيلاً! فلماذَا وصلتْ تلكَ الحالاتُ الجميلةُ إِلى الحالةِ المقيتةِ/ المشبوهةِ/ المشوَّهةِ؟ وإِلى مَن تُحالُ الإِحالاتُ الأَعلى إِلى مَن هُم لاَ يزالونَ في الأَدنى؟!

إِنَّ المبدعَ الفلسطينيَّ لاَ يزالُ أَسيرَ حاجاتهِ الضَّرورية، ولاَ يزالُ غيرَ قادرٍ علَى امتلاكِ حقَّهِ مِن الحرِّيَّةِ الإِبداعيَّةِ، ولاَ يزالُ حيِّزُ الطِّباعةِ ضيِّقٌ جدًّا وهوَ في الأَغلبِ علَى حسابهِ الشَّخصيِّ، ولاَ يزالُ غيرَ قادرٍ على العيشِ مِن إِبداعهِ للتَّفرُّغِ لهُ، ولاَ يزالُ يُعاني منَ المؤسَّساتِ الرَّسميةِ وغيرِ الرَّسميَّةِ إِنْ لمْ يَقبلْ بِشروطِها المُهِينةِ، والَّتي يجلِسُ علَى (عروشِها) ذوو (الفكهِ) الَّذينَ لاَ يعرفونَ مِن واجباتهمْ/ أَدائهمْ سِوى الرَّاتبِ أَوَّلَ كلِّ شهرٍ، والسَّعيِ وراءَ الامتيازاتِ الشَّخصيَّةِ، ولاَ يزالُ المبدعُ يُذهِبُ ببصرهِ وصحَّتهِ وحصَّتهِ منَ الحياةِ (دونَ انتظارِ كلمةِ شكرٍ أَو تقديرٍ) من أَجلِ استمرارِ حركيَّةِ الإِبداعِ الفلسطينيِّ مُساهمًا فِيها، ولاَ يزالُ ...، ولاَ يزالُ ...، جاءَني وجعُ رأْسٍ الآنَ!

"لَم يَعدْ أَحدٌ يُنادي علَى أَحدٍ". هكذَا قالَ لِي، ذاتَ يومٍ، الصَّديقُ المفكِّرُ والأَديبُ د. أَفنان القاسم، خلالَ حوارٍ أَدبيِّ وثقافيٍّ، بعدَ أَنِ انهزمَ الجمعُ وولَّوا الأَدبارَ. ولكنْ؛ إِلى متَى ستظلُّ "حياتُنا الأَدبيَّةُ الفلسطينيَّةُ" مثلَ كثبانِ الصَّحراءِ في يومٍ عاصفٍ؛ مَا أَن تقفُ على واحدةٍ مِنها إِلاَّ وتجدُ قدميكَ معلَّقةً في الدُّوارِ، فيكونُ لزامًا عليكَ أَن تتحدَّى الجاذبيَّةَ، فطُوبى لمَن لمْ يزلْ ثابتًا/ نافخًا تحتَ جناحَيْهِ هواءَ إِبداعهِ."

ومن هنا، فإن تجربة الشاعر الريشة تجربة غنية بمآثرها الأدبية والفنية التي انتفضت من رحم الإبداع في مسيرة متواصلة حفرت اسم هذا الشاعر في مضامين الحركة الثقافية الفلسطينية ومفرداتها، وأي مؤرخ لتاريخ الحركة الأدبية الفلسطينية لا بد وأن يتطرق إلى دور هذا الشاعر.

داعس أبو كشك

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى