الأربعاء ١١ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم رندة زريق صباغ

كزهر اللوز...أو أبعد

محظوظ أنت لان لك صديقا مميزا يدرك قدر حبك للشعر وعلاقتك الخاصة بشعر درويش.. فلم يتردد للحظة بالسماح لك بمصادرة مجموعته الأخيرة الجديدة التي احضرها للتو من عمان.. حتى قبل أن ينهي هو نفسه قراءته الأولى للديوان يدرك هو انك غير متأن ٍ في هذا الموضوع ولن تنتظر أسبوعا لتبدأ القراءة.. فان مجرد تسرب خبر الإصدار الجديد اصابك بحالة من الفرح الصغير لاستمرار هذا الإبداع الدرويشي العظيم.

لم تشعر بالحرج منه ولا بقلة الذوق لما فعلت فسرعان ما تناولت الكتاب.. وضعته في حقيبتك واعدا بإعادته مع التذكير بجملة تقول: إن أغبى الناس من يقرض كتابا والأغبى من يعيده. ومتفقون على إن كلا منكما مستعد للفوز باللقب تغادر المكان مسرعا لتصل وتبدأ بالقراءة، تسافر بسيارتك وبسمة مرسومة على شفتيك بتأثير العنوان الذي يسمو بك إلى عوالم لطيفة، "كزهر اللوز أو ابعد".. يسمو بك من أفق اللا منتهى لكن إمكاناتك المحدودة لا تسمح بالارتفاع أعلى من زهر اللوز وحتى جرأتك المعهودة لا تجرؤ على منحك فرحة التحليق فوق زهرا للوز فهل يعقل أن تنظر إليه من الأعلى؟! بالطبع لا!! فهو الأعلى..

جرأتك لا تجرؤ على منحك راحة التمدد مفترشا زهر اللوز الأبيض.. ملتحفا العنان الأبيض أيضا كما تتمنى لتطهر ذاتك بين الأبيضين..!

وطبعا فان جرأتك اضعف من أن تسمح لك بالوقوف خفيفا عليه كي لا تدنسه بقدميك..!
وهكذا تضطر لقمع جرأة خيالك، بل قل، خيال جرأتك... فتنزل مطأطئا رأسك إلى حيث يجب أن تكون.. فلتتمتع بزهر اللوز لا بد وان ترفع عينيك إلى الأعلى فيتراءى لك حلما حلوا تخشى أن يكون سرابا..

وبما انك ديمقراطي! تسمح لخيالك أن يهرب.. جاعلا إياك تتخيل بدلا عنه أن زهر اللوز يرنو إليك!! نعم.. انه يتدلى بلطف نحوك.. فقدرته ليست محدودة مثلك – يفهم ضعفك.. يشعر بلهفتك فيرنو ويلامس خدك.. يمنحك بعضا من عطره الموشح بالشجن.. علك تحتفظ به في قارورة ذاتك البلورية الخاوية!!

لم تطل الرؤيا وإذا بزهر اللوز يرتفع من جديد.. عائدا الى حيث يجب ان يكون.. إلى حيث يرمقك بنظرة خاطفة يملؤها الشمم والكبرياء... فيرى بعضا منك.. دون أن يسمح لك حتى بلمسه.. يتعبك الارتفاع إلى أعلى دون ارتقاء.. يرهقك النظر المتواصل إلى أعلى.. فتفعل ذلك على مستوى نظرك.. وسرعان ما ترى بستانا من النرجس يحيط بك من الاتجاهات كلها.. قادر أنت على لمس هذه الأزهار .. وشمها.. وحتى قطفها ووضعها في زهرية على مكتبك.. تمتع نفسك بها كلما أردت ذلك دون معارضة تذكر!!

أما زهر اللوز فيبقى هناك.. في مكانه.. وفي برجه.. ينثر عليك كل ما هو جميل.. بشممه الذكي المعهود.. وبعض بخل ودلال..!

فشتان ما بين زهر اللوز والنرجس!!

كل هذا الزخم في المشاعر ينتابك من تصفح الديوان والفهرس.. ومن وقع العنوان على نفسك.. عنوان الديوان الذي أعطيت له مساحة ثلثي الثلث المتبقي من مساحة الغلاف، حيث احتلت صورة الشاعر ثلثي مساحة الغلاف، أما ثلث الثلث المتبقي رأس الصفحة فقد زينه اسم محمود درويش..!!

تتراكض من جديد بعينيك بين عناوين القصائد.. باحثا عن أقربها لعنوان الديوان .. كما عن أكثرها بعدا منه.. لتبدأ القراءة من هناك أولا.. وتنتقل من عنوان لآخر حسبما ترغب وترتئي متمردا على الترتيب الذي ارتآه لك الشاعر.. تتذوق من كل مجموعة قصيدة.. فواثق آنت من إعادتك القراءة مرة أخرى كما يحدث دائما.. فلمحاولة فهم درويش لا بد من القراءة المفتوحة من أكثر من زاوية.. وأكثر من مرة، تعيد الجملة مرتين وأحيانا الكلمة الواحدة مرتين وطبعا تفضل أن تعيد القصيدة كلها أكثر من مرة، وبالتالي تقرأ الديوان مرتين على الأقل، فحتى تلك القصائد التي أكفتك قراءة واحدة لفهمها ترى نفسك مجبرا للإعادة ظنا منك بان شيئا ما قد فاتك.. وان بعض كلام مكتوب أولا مكتوب قد تسرب من بين عينيك.. تصاب بالخيبة آذ تكتشف أن ذلك لم يحدث وان بعض القصائد جاءتك بسيطة لدرجة استراقك النظر تكرارا للغلاف للتأكد من اسم المؤلف!!

تقول في نفسك ألا اظلم هذا الشاعر العظيم؟! وتسمعه يردد ارحموني من هذا التفخيم القاتل.. من منطلق ارحمونا من هذا الحب القاتل.. التي قالها على لسان قلب الشعب الفلسطيني!

الا تظلم درويشا اذ تتوقعه دائما فوق الطبيعي؟ أعمق من خلجات الذات؟! أفلا يسمح له أن يكون أحيانا اضعف من نبض القلب؟!

ألا تدرك أن قصائده تجسيد حالة فكرية، عاطفية، ذاتية إنسانية مر بها؟! وهذه الحالات عنده كما نحن جميعا تترنح درجاتها ثابتة الجذور كشجرة الحور، تختلف الانفعالات.. يخبو الالق أحيانا.. ليضيء من جديد".

تعلو اللوعة حينا.. الشوق للوطن والأم أحيانا.. تسيطر الغربة الداخلية على الخارجية! أو العكس في أحيان أخرى!!

تخاف الموت أحيانا .. وتقف له إجلالا في أحيان أخرى..!

ألا تصل بك الحال أوقات الوجع فلا تعرف نفسك ولا تفهمها.. تفرغ من ذاتك.. كما يفرغ بيتك منك في كثير من الأوقات..!!

تتذكر صديقا أو رفيق درب حمل وطنه على كفه مثلك.. فيسمو بك الحنين والإبداع..!
تدرك آنت أن هذا هو درويش .. لكنه يتميز بمقدرته العظيمة على التجسيد اللغوي فترى ذاتك من خلال كلماته مشرعا مفضوحا أمرك!!

وما دامت قصائده تجسيدا للحالات الإنسانية فلماذا تفاجأ إذن من تباين الرسم البياني للديوان الجديد صعودا ونزولا.. ليكون خطا أفقيا أحيانا؟!

كيف ولماذا تسمح لنفسك بتعليق كل الشعر الفلسطيني المعاصر على درويش؟؟ فحتى هو لم يعطك هذا الحق!!

لماذا تريده دائما كزهر اللوز أو ابعد؟ بأي حق تطالبه بأن يرمقك دوما من الأعلى؟ لتحاول مرارا حتى تنجح بالوصول إليه فتبوء بعض محاولاتك بالفشل، هذا إن نجح بعضها الآخر..! لم تقمع نفسك وتحرمها متعة دنو شعره إليك آنت المتلقي العادي، فتعيشه وتفهمه مباشرة بسلاسة وبساطة ذكية!

ماذا يفعل هو؟ كيف يتصرف؟ بأية لغة وأي أسلوب يكتب لينال رضاك الكامل اللامعقول؟! فلتسمح له أن يكون هو.. ولتسمح لنفسك أن تكون آنت.

لا تحرم نفسك متع دغدغة مشاعرك ولا تطالب دائما بأن تصيبك فقط بعد عصف دماغي .. لا سيما وأنت تدرك انه يبتعد عن الجمل البلاغية المعقدة بقصد منذ مجموعة سابقة.. حيث يكتب بأسلوب مركب مزخرفا كلامه محملا إياه بلاغات لغوية تتهمه بالحديث من برج عاجي لا يقدر المتلقي العادي على فهمه وان حدث فبعد جهد جهيد.. تتهمه بالرمزية المفرطة حد التعقيد وانه شاعر تحبه النخبة فقط..

والآن حين يقلل من ذلك وتأتيك قصيدته سردا شعريا مليئا بالحوار الغنائي والموسيقى الذي يشعرك بالنشوة، تراك لا تتقبل ذلك منه بسلاسة بل تعود آنت نفسك لتعقيد الحالة.. وإلباس الكلام عباءة بلاغية مزركشة رافضا هذه الحلة الجديدة القادرة على اختراق المألوف..
أحسن الكلام ما .. قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم"..

* أبو حيان التوحيدي

الإمتاع والمؤانسة – الليلة الخامسة والعشرون

بهذا الأسلوب قدم درويش ل;كزهر اللوز أو أبعد، أسلوب الدفاع قبل الهجوم، مدرك هو تماما للحالة الجدلية التي ستظهر بين النقاد والمتلقين حول إبداعه الجديد الذي وصفه الحديدي بمحاولة لجسر الهوة.. إن وجدت.. بين وزن الشعر ونثر الشعر، فكما لو أن درويش يقول للمتلقين هدئوا من روعكم فان التوحيدي أكد على ذلك قبلي بكثير ومن يرغب بالتأكد فها كم المصدر بالتفصيل.

كما لو انك أمام باحث مبتدئ يقلقه رد فعل القراء على بحثه الجديد فيقدم له بجملة مأثورة لأحد الفلاسفة القدامى الكبار لتكون مرجعا لمن لن يروقه الأمر... ولتكون رادعا للمتطاولين على الإبداع الحر

أو كمن يضطر لاقتباس مقولة احد الأنبياء آو الدعاة لإعطاء الشرعية لنهج سلوكي يقترحه على المجتمع، مذكرا بأنه ليس استحداثه الفردي وان التصديق عليه موجودة، فإذن لا بأس من تقبله على الأقل! ولا حاجة للهجوم على المبدع مهما كانت الدوافع والأسباب!!

تشعر بالضيق متسائلا: هل فعلا يحتاج درويش لهذه المؤازرة..؟! بعد هذا المشوار الإبداعي الطويل العريض؟! ألا تكفي هذه الأصالة والمصداقية لمنحه الحق في الحرية المطلقة.. ليعرض عليك أشعاره بالأسلوب الذي يرتئيه مناسبا؟!

أتراه يدرك سطحيتنا فيتعامل معها بما يتلاءم؟! لهذه الدرجة ثقته بنا مزعزعة؟ أم لهذه الدرجة لا يثق بثقتنا به..؟! أم ماذا بالضبط"؟!

وهكذا تتنبه من جديد أن هذا هو درويش، يتركك دائما في حالة من الحوار المغنّى والمغني للفكر والمشاعر في آن معا، تنهي قراءته لتبدأ الأسئلة بالتوارد والأفكار والمشاعر بأخذ شرعيتها في حق الموقف الرد، إنها ميزة درويش.. يتركك محاولا الوصول إليه.. ظانا انك نجحت لتكتشف أن لا.. وانه ابعد عنك من زهر اللوز الذي تتمنى رؤيته صيفا، انه محمود درويش الحقيقي القادر على جعلك تجلد نفسك بسوط الحب الحقيقي الذي يطهرك ويسمو بك فتصل زهر اللوز.. أو ابعد، بالخيال فقط..

ورغم الم الجلد تشعر بالمتعة حيث تلتقي بذاتك تدرك كنهها.. فيبقى الأمل رغم الألم.. حتى لو كان الأول أبعد من زهر اللوز.. حيث الأمنيات، انه درويش.. الوحيد القادر على أن يسمو بك ابعد من زهر اللوز، وفي قمة النشوة ينزل بك إلى الأرض من جديد مترنحا.. لكن.. واقفا على قدميك.. قادرا على التمييز بين الممكن واللاممكن...

انه درويش الذي لا تملك آلا أن تشكره إذ ذكرك بان لك أبا عاشقا لزهر اللوز.. يصر كل موسم على قطفه وإهدائه لامك.. يصنعه لأجل عينيها الخضراوات كلوز الربيع في زهرية ملأها بماء الروح ونبض القلب.. تُمتع نظرها به.. هنا في البيت.. أما هي فتنقل زهر اللوز محولة إياه إلى إبداع كفستان عروس ملائكي وكلوحة تعلقها في بيتك الدافئ، تذكرك من خلالها انك قادر على التمتع بزهر اللوز طيلة ايام السنة.

يذكرك بان لك أبا جُبل بحب الطبيعة.. مصر على إحضارها إليك... إذ لا وقت لديك لترافقه في جولة في أحضانها.. يستعيد من خلالها انتماءه الوطني.. وحب قريته.. جبالها.. وسهولها.. والاهم دنوه من روح والده الشهيد الذي لا يزال هناك قرب زهر اللوز.. بل قل.. انه ابعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى