الأربعاء ١١ أيار (مايو) ٢٠١١
رسالة إلى د. عماد أبو غازي
بقلم أحمد الخميسي

عن كنيسة إمبابة وحكاية الثور والبقرة

د. العزيز عماد الدين أبو غازي. لم يسبق لي أن خاطبت مسئولا في الدولة لا بشكل مباشر ولا برسالة مفتوحة. لكن الظرف الاجتماعي العام الذي يعيشه المجتمع يجعلني أتصور أن المسئولين أصبحوا الآن أكثر إنصاتا لصوت الإعلام والمجتمع. من ناحية أخرى فإن احتدام الأزمة الطائفية وتفجراتها يلزمني تقريبا بكتابة هذه الرسالة، هكذا أكتب لك، فلا شك أنك تابعت مع الناس كلهم ما جرى في إمبابة وما ينذر به من إندلاع حريق كبير. ولا داعي هنا لأن أكرر ما يعرفه الجميع عن أسباب الطائفية – وإن كنت أضع في مقدمة أسبابها – الفقر وغياب العدالة الاجتماعية. وقد كتب الكثيرون ونبهوا وحذروا، ولي شخصيا في ذلك الموضوع كتاب بعنوان «الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين»، بل وبادر البعض بتكوين جماعات ومنظمات أهلية للتصدي للطائفية، وكثرت بيانات المثقفين المنددة، وبياناتهم الداعية للحفاظ على وحدة الوطن. ولكن تلك الجهود الفردية المتناثرة المستمرة منذ عشرة أعوام تقريبا تكاد تفضي فعليا إلي لاشيء، أو إلي تلاحم النخبة المستنيرة فيما بينها في أفضل الأحوال. لهذا أجدني أميل الآن شيئا فشيئا إلي الاعتقاد بأن كل ذلك عديم الجدوى، سواء أكانت المقالات التى لا تحصى، أوالبيانات، أو حتى أشكال الاحتجاج، أو التصالح المؤقت على أساس شعارات عامة كالقول بالنسيج الوطني الواحد الذي نقتحم في ظله دور العبادة المقدسة بلا خفقة من ضمير حي بل ونضرب بعضنا البعض حتى الموت.

ماعدا جهود المثقفين المستنيرين المتناثرة، فقد حصرت وزارة الثقافة المصرية دورها في مواجهة الطائفية في ندوات متناثرة للتنوير يحضرها عادة المتنورون أنفسهم داخل قاعات مغلقة مكيفة، أو في لقاءات داخل قاعات المجلس الأعلى، أو مطبوعات وكتب، بينما ظل الجمهور الواسع الحقيقي من الشعب المصري والذي تعرضت أفكاره للتشويه بعيدا كل البعد عن المطبوعات (الأمية الأبجدية وغلاء أسعار الكتب) كما ظل أبعد ما يكون عن ارتداء البذلات والتوجه عصرا لحضور ندوات التنوير. ولاشك أن هذا الجمهور المصري العريض هو موضع صراع فكري بين الفكر الوطني المستنير، والفكر السفي الرجعي الأخواني. ولو أن الذين هاجموا كنيسة إمبابة لم يجدوا حولهم تأييدا جاهلا عدوانيا في الشارع، أو لو أنهم وجدوا مقاومة لهم في الشارع، ما استطاعوا أن يتهجموا على دور العبادة. فالمشكلة ليست في الغيلان، المشكلة في الليل الذي تحتمي به الغيلان وهي تمشي، أي أن المشكلة هي في الوسط الاجتماعي الذي نحاول أن ننتزعه من قبضة الفكر الرجعي، وأن نكسبه للصالح العام.

على مدى عشرة أعوام لم تثمر الجهود الفردية النبيلة عن شيء كثير. وأصبحت المسألة الآن، والوضع الطائفي، بحاجة لتدخل الدولة، ليس بتغليظ قوانين العقوبات (وإن كان ذلك مطلوبا) وليس بالمحاكمات العسكرية، ولا بقوة القانون، بل بخلق قانون داخل الوعي الشعبي يتصدى بنفسه لتلك الفتنة، بخلق وعي آخر. والدولة هنا – خلافا للمبادرات الفردية – تتمتع بإمكانيات تنظيمية ومالية ومقرات هائلة تمكنها من القيام بذلك الدور، وأعنى تحديدا : وزارة الثقافة. وإن لم يكن دور الوزارة هو التصدي للفتنة الطائفية وتغيير الوعي، فما هو دورها إذن ؟

أكتب لك وأنا أتصور أن مشكلات الوزارة التي توليتها كثيرة، بيروقراطية، ومشكلات كوادر، ومتاحف، ومجلات، ونشر، وغير ذلك، لكني أقول لك أيضا إنك في نهاية المطاف لن تتمكن بعصا سحرية من حل كل تلك القضايا مهما فعلت، لأن ما بين يديك هو في واقع الأمر جهاز ضخم ينتسب في معظمه لحكم الرئيس مبارك، لكن بوسعك أن تقدم للمجتمع، ولنا، عملا كبيرا، وأعني أن تطرح كوزير للثقافة منهجا آخر في مواجهة الطائفية.

ولكي لا أطيل عليك، فإنني أتصور ضرورة تشكيل هيئة داخل وزارة الثقافة لمكافحة الطائفية. على أن تكون الهيئة بعيدة كل البعد عن المراتبية والبيروقراطية وأن تتألف من مجموعة من الأدباء والفنانين والكتاب والمخرجين والموسيقيين والمؤرخين والممثلين وصناع مسرح العرائس والسينمائيين وباحثين في الفولكلور، وأن يكون العامل المحدد الأول لنشاط الهيئة هو: كيف نتوجه إلي المناطق الشعبية في المدن ؟ وإلي القرى في المحافظات ؟. وكيف نتوجه للفئات التي تسكن تلك المناطق بطريقة شعبية وبسيطة وسهلة تقوم على فن المسرح المباشر البسيط، والنكتة، والأمثال، والأغنيات، والمشاهد السينمائية ؟. كيف ننشيء فرقا مسرحية صغيرة كل فرقة من ثلاثة أفراد يتحركون بنصوص قصيرة ومسرح يسهل إقامته وتفكيكه، نصوص يكتبها لهم خصيصا كبار أدبائنا، بروح شعبية، ويتحركون بها في الأحياء المعتمة فكريا، في شبرا، وباب اللوق، والسيدة زينب، والمرج، وفي قرى الصعيد. فرق صغيرة، وربما سيارات، بمشاهد سينمائية وشاشات عرض، وأغنيات تمجد الوحدة الوطنية كأغاني درويش وبديع خيري، واحصائيات تاريخية عن عدد الشهداء في الحروب المصرية من أقباط ومسلمين، وصورالتضحيات المشتركة التي جمعت المسلمين والأقباط وصنعت تاريخ مصر، وشرائط كاسيت بأغاني الوطن، كتائب ثقافية مقاتلة تقريبا، تغزو الأزقة، والميادين، وهناك على حد علمي مئات من الممثلين الشباب الذين يتلقون رواتب من هيئة المسرح وبلا عمل. وهنك عشرات المخرجين، والكتاب، والموسيقيين. ويمكن أن نبدأ بعرض واحد، مكتمل، وتجوب بالعرض نفسه فرق عديدة المحافظات الأخرى. كل ذلك يا دكتور عماد يحتاج إلي قرار جريء، وخيال، وميزانية، أكثر مما يحتاج إلي غبار العقول البيروقراطية. وما قد تتكلفه حركة كتلك، قد يقل بكثير عن تكلفة مهرجان ثقافي صاخب. لقد تحركت وزارة الثقافة من قبل – فعليا – كأنما لا علاقة لها بالأزمة الطائفية، مع أن التصدي لتلك الأزمة هو العمل الأول للوزارة التي يفترض بها تغيير الوعي. وإلا فما هو دور الوزارة إن لم يكن إنقاذ الوطن من أزمة الوعي المتخلف؟

أخيرا، لعلك قرأت أن بعض زملائنا من المثقفين قد أصدروا بيانات يستنكرون فيها ما جرى من عدوان على كنيسة إمبابة. بالطبع أنا أتضامن مع تلك البيانات، لكنها أصبحت تذكرني بحكاية " الثور والبقرة "، وذلك حين دخلت البقرة في آلام الولادة، فأخذ الثور يخور بمقربة منها. فسألوه : البقرة تلد، وأنت لماذا تخور؟. فقال لهم : تحميل جمايل. وقد بت أعتقد أن هذه البيانات والمبادرات الفردية المتناثرة التي يقوم بها زملاء صادقون، كلها صارت تشبه تحميل جمايل قرب البقرة التي تتألم أمامنا ونحن عاجزين عن إسعافها.

د.عماد أبو غازي، لن يتذكر أحد بعد عشرة أعوام أنك عينت فلانا في محل فلان، أو أنك رفعت أجور موظفين، أو أنك أقمت مؤتمرا، هذا كله يحدث كل يوم، وسيحدث كل يوم، لكني أتمنى أن يتذكرك الناس بعمل كبير، وحتى لو لم تنجح فيه مئة بالمئة فإنك ستكون قد وضعت طريقة مغايرة لمواجهة ما يحدث وحينئذ سيقول الناس لأنفسهم إنك بذلت كل ما في وسعك من جهد لتطوق الحريق. وأن الوزارة انتقلت من استقبال الناس إلي التوجه إليهم بلغتهم وتصوراتهم عبر وسائل مفهومة لهم ومؤثرة.

أخيرا، فإنني أعتبر رسالتي هذه بيانا موجها لوزارة الثقافة ومفتوحا لتوقيع الجميع، ربما نتمكن من العثور على مخرج، عملي، فنندفع نحوه، أو أن ما يجرى هو قدرنا الذي نستحقه.

خالص التقدير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى