الأربعاء ١٨ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم فؤاد وجاني

الحاجي باخشو ومستعمرة النساء

ركبتان مقهورتان وعكاز أعوج، هذا كل ما تبقى من دهور الركض وراء الخبز وبناء الجدران وأوراق تملأ الجيب والمصرف وعيون النساء. ساخرا من نفسه، ابتسم الحاجي باخشو، هراء هذا العمر، أنا من كنت السحابَ أجاري ومع الطيور أطير، على هذه الحال أجدني! إلى الوراء رجع بذهنه وتمنى أن يعيد لقاء كل النساء، كان لا بد له أن يستقر على حال، هذا الدهر يقص الأجنحة ريشة ريشة، أول ريشة ينتفها بالزواج، ثم تتوالى الانتقامات، وكأنه يؤنبك: لماذا تكبر؟ لماذا تكبر؟ لماذا تكبر؟

لعل الزمن طفل لا يجد من يلعب معه بعد أن نكبر، ونكبر ويظل صغيرا فيعبث بنا بعد أن نخذله، ينزع شعورنا شعرة شعرة، وإن لم يجد إلى الصلع سبيلا سكب عليها البياض... اللعنة! لو كنت أعلم عن الموت لطلبت من أمي أن تئدني قبل الولادة، ليس خشية من موت وإنما راحة من رحلة لاتنبت للرؤوس قرونا.

هذا الولد الوقح، في عرف المدينة التي تتدثر بالحياء في العلن لتنزع ملابسها خلف الحيطان، لم يخش نورا ومازال على عتيه يعشق نساء الأرض الجميلات. هل يسميها مغامرات أم اكتشافات؟ تبا لكولومبوس وماجلان ولكل رحالة الأرض الذين جابوها ونسوا اكتشاف النساء. يستدرك الحاجي باخشو نفسه ليستثني من المغضوب عليهم ابن بطوطة الطنجاوي.

لم يكن على الحاجي باخشو أن يحج إلى الهند والسند وأنطاكيا والأندلس وتركستان وبخارى كما ابن بطوطة ليغزو الأرض بما حبلت من نساء، حسبه أنه احترف العطارة ففاحت دنياه الضيقة بالتوابل وعطر النساء الباحثات عن الشبة والحرمل والحبة السوداء ورقية أزواجهن وضرائرهن وأحمائهن وهلم سعيا. طلبات النساء كعلم الرياضيات لاتنتهي سالبا أو موجبا، والحاجي باخشو، العالم بما يجري خلف الجدران وفوق أسرة غرف النوم، كان يبيع التعيسات منهن حبته الخضراء في غرفته المحاذية لدكانه، تأتيه بعض نساء تعيسات متغنجات مكحلات فيفتح لهن غرفة دكانه وقلبه الشبيه بغرف بيوت الدعارة، لا تكاد تخرج منه واحدة حتى تدخله الأخرى.

في درج مكتب الغرفة دفتران، واحد للدائنات المعوزات الطالبات للبخور والمسك والعنبر دون أن يملكن فلسا واحدا يسخن جيوبهن، وثان أحمر للواتي خضعن لسحر كلمات العطار فوجدن أنفسهن بين أحضانه المعتقة بالأعشاب. في الدفتر الأحمر هذا يسجل العطار خاطرة عن كل واحدة دخلت محرابه وأذاقها من ناره، كثيرات منهن اطفأن حطبه، أما من زدنه لهبا واشتعالا فحظهن خاطرتان أو ثلاث أو مازاد على ذلك قليلا أو كثيرا أو كما شاءت لهن أقدار الرغبة.
الشموع الحمراء المشتعلة تحيط بالسرير ورائحة العود الهندي الزكية تحولها إلى كاماستورا في أوضاع مقدسة. الحمرة والسواد وبخور الحب العطرة كفيلة بأن تحول كل امرأة عاقلة إلى جنية طائرة على فراش العطار الوثير الذي اشتراه بآلاف الدراهم ليستبدله بجديد مرة بعد مرة بعد فقدانه المرونة. على جانبي السرير منضدتان، فوق كل منهما ما لذ وطاب من الفاكهة الطازجة، وكثيرا ما كان يحتار العطار أيهما الفاكهة، تلك التي على المنضدة أم تلك التي فوق السرير.

قِصر اليد يمنعه من إنشاء متحف للأسرة لتحكي قصصا سريالية رسمتها ليالي ساخنة، فقلما تجتمع كثرة المال مع كثرة النساء، والنساء في الجد تبحثن عن الفحولة، وفي الهزل ينشدن المال، لو كانت له القدرة المالية لأبقى على كل تلك الأسرة، فكل منها تحمل تجاعيد هزات نساء وقعن في شراكه، وتحتفظ في أحشائها بأناتهن ولين صوتهن وصراخهن وتأوههن. يتحسر، آه لو تنطق تلك الأسرة الثكلى بفراق أجساد عشيقاته لباحت بكتمان الهادئة، ولذة الشفرة، وشدة القعرة، وبطئ السريعة، وسرعة البطيئة، ودموع النضاحة، وإغماءة الربوخ، وجنون الشغوف، وارتجاج المرمارة، وحرارة الباردة، وبرودة الحارة، النساء ضروب مختلفة وألوان زاهية وأطياف راقية، وإن كن في شبَه الأعضاء واحدة.

ويضحك الحاجي باخشو من أولئك الذين ارتضوا لرحلة دنياهم امرأة واحدة، والأتعس أنهم لايحبون زوجاتهم، هي الطباخة والكناسة والمربية والمعيلة والغسالة والفِراش والجارية، لكنهن مع العطار امرأة واحدة عاشقة فقط. هنا السعادة بين أحضان العطار التي لا تغيب عنها شمس الحب الجسدي، اللعنة على هذا الجسد يأسر الخيال والأخلاق والأوهام في الملموس والمحسوس ويجذب النجوم المضيئة إلى أرضه الوطيئة.

الحاجي باخشو لا يؤذي النساء ولا يقهر قلوبهن لذا يأتونه من كل حزن وهم عميق، ولم يستثن الحاجي باخشو من حكمته العاهرة مطلقات ولا عازبات ولامتزوجات، أما الرجال فلايزورون العطار إلا في أويقات طريقهم إلى الحمام العمومي لشراء بعض الصابون البلدي، فلا يبيعوهم بالقسط بل يزيد لهم من كرمه مبتسما كي يدهنوا أجسادهم الغافلة عن زوجاتهم ويتزحلق أطفالهم بين غرف الحمام كما في شرائط الرسوم المتحركة: غرندايزر....انطلق!
في عرف الحاجي باخشو النساء كالتوابل والأعشاب التي يبيعها، لكل واحدة منهن طعم خاص ولكل واحدة دور في مطبخ الحياة الأكبر، وبعد أن شاخ وهرم بقيت روحه الداعبة مقصوصة الجناح تلامس السماء كحمامة داجنة حكم عليها العجز أن تقبع في سطح واحد.

اللعنة على الكبَر، لا يترك لنا شيئا، يقتل كل جميل فينا ويبقيه قبيحا، كالرحالة لاتبقى معه سوى خرائطه الممزقة الصفراء المهترئة وذكرياته الفارغة من الحركة، ليت الإنسان شجرة تذبل ثم تورق ثم تذبل وهكذا دواليك، وردة هو الإنسان يموت وقد لا تحل محله وردة أخرى.

لم يكن الحاجي باخشو ليستسلم لمنظومة التكاثر، دخل عش الزوجية بامرأة واحدة قبل أن يلج رحلة التيه في دنيا النساء، لم يرها قبل الزواج لحظة واحدة، كلمتان تكفيان: أماه ابحثي عن قرينة خالدة، فوجدت له امرأة تساعده على عاديات الزمان، لكن سوء حظ العطار في الحياة جعلها عاقرا، مرت الشهور والمحاولات والفحوص حتى رضي العطار بقدره وخنعت الزوجة المجهولة لعهر العطار، لم يكن همه الأولاد، فقد فهم الدنيا أكثر مما يجب، لعل الأولاد يصدونه عن طريق اللهو، ويشيّخون ذاك الطفل الساكن في داخله ابدا، ذاك الطفل بداخله مات الموتة الأولى حين رحلت أمه عن الدنيا، ولم يلد من يخلفه فلم تكتب له موتة ثانية، لا يؤمن بنظرية المعمرين وحملة الأسماء والألقاب هو، ما مصير كل أولئك الذين وَلدوا ووُلدوا، لا كرامة ولا حرية في وطن لا يحمل من الإسم سوى علم أحمر، هل يضيف إلى الدقيق مزيدا من الماء العكر، تلك الزوجة أحبت العطار على خذلانه كما تحب السماء الممطرة الباكية الأرض الفاجرة، لم يقلقها أن تتملكه الكثير من النساء، إنها ديموقراطية امرأة في زمن دكتاتور حرمها وزوجها من نعمتين يسمونهما الأطفال والوطن.

وقف الحاجي باخشو ينظر إلى عكازه مرة أخرى وهو الذي لم يفكر يوما أنه سيتوكأ على رِجل خشبية ثالثة، يفكر كعادته فيما يوجب الحمد والشكر، أو هكذا قالوا له في الكتاتيب وعلمه سوط الفقيه وأخبرته نشرات الأخبار المسائية، احمد الله على عيشتك في هذا البلد المثخن بالظلم والاستبداد، احمد الله فإن لك فيه خبزة وسقفا وزوجة، أتريد أكثر من هذا ياجاحد النعمة؟ إن شئت مزيدا فأنت طماع ساخط على ما قدره الله وشاء لك في هذا البلد الواسع الذي ينام على أمل "إن شاء الله" ويصحو على "هذا قدر الله".

هرب الحاجي باخشو من عالمه المخصي إلى خصوبة النساء، تلك هي الجزيرة المثمرة في صحرائه الجرداء، ترك السياسة والنضال والحرية والعدل وكل تلك الكلمات الفارغة من محتواها بين شعب يعبد الخبز حتى الثمالة ويعشق الأمان حد الجنون، تبا لهم لا يستأهلون نساءهم، لا حق للمستسلمين في الأنوثة، الأنوثة حق للرجال فقط وللرجال فقط، ماذا جنى أبوه وعمه وجده وسلال بيض أمه المفخخة بالمسدسات من المقاومة؟ حتى رؤوس الفرنجة المستعمرين التي سقطت لم تشفع لهم ولا كانت لهم قربانا لحياة كريمة، اللعنة على سكان هذا البلد المستسلمين للركوع وراء إمام مخصي دونما صلاة.

وصل مترنحا كالسكران بهذيان الشباب إلى وكالة أسفار المختار صديق العمر. نظر إليه المختار من وراء الزجاج النظيف الشفاف وحياه بكلتا يديه الرطبتين، ما أتى بصديق العمر وهو الذي لم يلتقه سوى بمساءات الشوق إلى أحاديث الماضي الزاهية بمقهى الحي. هذه أول مرة يزوره فيها في وكالة الأسفار:

أهلا حاجي، شرفتنا في هذا اليوم التأريخي، إذا سمحت لي سآخذ لك صورة أضعها على جدران مكتبي تأريخا لهذه اللحظة... لم تزرني في وكالتي طوال سنوات العِشرة الماضية... ماذا تشرب؟ أو لنجعلها وليمة نحتفل فبها بقدومك السعيد علينا هذا اليوم السعيد... سأتصل بالمطعم وليأتونا بما تشتهتي نفسك...

لا تبالغ يامختار ، ما جئت لصور تذكارية، إني قد أتيتك لأمر مهم جدا.

عيوني لك ياحاجي باخشو... إن شاء الله خير... هل زوجتك بخير؟

لا حاجة لي في عيونك التي بدأ يغشاها العمى يا مختار، أريد تذكرة إلى جزر القمر!

جزر القمر مرة واحدة ياحاجي باخشو... عندي تذاكر إلى جزيرة الشمس !

لست مازحا يا مختار...هل لديك تذاكر أم أذهب إلى سبيل حالي؟

أيصاب المرء بجنون بين ليلة وصبحها. البارحة على ضوء القمر بالمقهى تسامرنا وركضنا نحو الماضي ورجعنا إلى المستقبل، واليوم يريد أن يسافر إلى جزر القمر، فتح المختار قبضة كفيه ومسح بباطنيهما عينيه الحوصاوين، هل هذا هو الحاجي باخشو الذي قضى عمره بين حيطان الدكان؟ الآن يريد أن يعبر المحيط الهندي مرة واحدة، وجزر القمر فزعة واحدة، لاشك أن أمرا أصاب قلبه.

على مهلك يا رجلا لا يشاء أن يضع رجله الثانية في الآخرة!

لا أحتاج إلى فلسفتك الآن يا مختار... أحتاج الذهاب إلى جزر القمر يوم عيد ميلادي الثمانين أول خميس في الشهر المقبل.

سأحجز لك تذكرة، لكن قل لي لماذا أنت ذاهب إلى هناك؟

أنا ذاهب حيث تلتحم صفائح البر بالبحر، هناك تحت الشمس بين خصور النساء السمراوات.
مادام الحاجي قد ذكر النساء فهو جاد في طلبه، لعل تلك الخصور تخفف من وطأة أدواء الرثوي والتهاب مفاصل اليد والذراع والركب، فللنساء لمسات سحرية لا يدركها سوى جسد العطار، إنه يحيا بها ويموت بدونها، هذا الطاعن في عمر السنين لن يموت إلا فوق جسد امرأة كما القبطان فوق السفينة الغارقة.

في طريق العودة محملا بالسعادة وتذاكر سفر إلى جزر القمر، مر الحاجي باخشو بدكانه المقفل منذ خمس سنين. بجانب الدكان رجل مسكين عميق العينين رث الثياب يسأله: كم الساعة؟

ويجيب الحاجي باخشو بالجواب نفسه الذي كرره كل يوم لمدة خمس سنوات ماضية ولنفس الرجل: لم أضع ساعة على معصمي منذ أصبح عمري عشرين سنة وتسعة عشر يوما وساعتين ودقيقة.

يضحك المسكين، كعادته يضع الحاجي باخشو في يديه خمسة دراهم درهما يقرع درهما، يمسك عليها المسكين بقبضة يده ثم يقبل جبين الحاجي لتدمع عيناهما كما كل يوم.
في بيت عتيق قاوم ألسنة العمارة الحديثة المفترسة لملامح المدينة الطيبة الجميلة يصحو عجوز فزعا على صوت يشبه فحيح الحية، إنها رفيقة الدرب وزوجة رحلة العمر: انهض يا سليمان، دقت الثانية عشرة صباحا، سيؤذن المؤذن لصلاة الظهر وأنت تتقلب في الفراش، الأولاد والأحفاد سيأتون للغداء معنا بعد قليل وسيجدونك نائما، أود منك أن تأتيني بورقة سيدنا موسى من العطار...

ينظر سليمان إلى عقارب الساعة مبتسما وحزينا: ليتني كنت عطارا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى