الأربعاء ١٨ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم بوعزة التايك

مات الشاعر

مات الشاعر فأكمل المسافر طريقه وهاتفت الجارة جارتها للحديث عن جارة أخرى وطرق ناقد أدبي باب عاهرة مشهورة بأثمنتها المدروسة. وحده العندليب سالت من عينيه دموع حزينة وأجهش باللحن الحزين.مات الشاعر فلم يغير وزير الثقافة برنامجه اليومي في التفكير في أزمة النص.أما رئيس اتحاد الكتاب فلقد قررالتقدم بطلب ترشيحه لولاية ثانية. وحده العندليب أضرب عن التحليق في ذلك اليوم المشؤوم.مات الشاعر، فلم يحزن أحد.وحدها ساقية الحانة المهجورة سكبت عليه دموعا وشربت كالمجنونة بل قامت بعمل ثوري خطير. قبلت للمرة الأولى محررا ثقافيا كان يحاول إقناعها بدخول قلبه وبيته وفراشه وحياته.

مات الشاعر فلم تقطع برامج ولا عطلت إدارات ولا وقع ازدحام في الشوارع. كل ما وقع أن جارته العانس حزنت وقالت لجارتها الأرملة أن لا حظ لها في الحياة لأنها كانت تحب كثيرا ما كان يكتبه من شعر وهو جالس في السطح يناجي ظلها وتنهداتها.

مات الشاعر فأوقفت السحابة مسيرتها وصفعت النجمة خديها وارتعشت أطراف السماء.مات الشاعر فتذكر زبناء المقهى رجلا كان دائما يجلس وحيدا ويدخن كثيرا ويشرب فنجاني قهوة مرة وهو يكتب على صدره.مات الشاعر فمن سيكتب عن المرأة التي تظل طوال النهار في الشرفة وهي ترتدي فستانا أبيض في انتظار عريس طال غيابه؟ ومن سيقول للعصفورة اليتيمة: صباح الخير، يا أنثى الخلود؟ ومن سيرسل إلى القمر أبياتا من الشعر في كيس من حرير؟

مات الشاعر هذا الصباح وقت شروق الشمس فحزنت حزنا لا حزن بعده لأنها لم تفهم لماذا لم يؤجل موته إلى وقت الغروب.لو كان فعل، قالت لي، لكنت حملته معي إلى حيث تدفن الشموس ولكنت دفنته ودفنت نفسي بجانبه في قبر الشموس المعذبة..لماذا على الشاعر أن يغني وهو يموت؟ لماذا عليه أن يقبض على الجمر وهو يرى فتاة جميلة تقطع النهر سباحة للغوص في الضفة الأخرى البعيدة عن كل الأنهار والضفاف؟ لماذا

على الشاعر أن يغرس السكين في قلبه كلما رأى فراشة تتوسد زهرة؟ لماذا عليه أن يبكي بالليل والنهار ولا يأبه بالنجمة الطالعة من قلبه صوب السماء؟ أجبني أيها الشاعر. لماذا عليك أن تغرق ذاتك في الحزن والألم في الوقت الذي تكون فيه الطيور تستعد لاستقبال الربيع في طبق من ذهب؟

لماذا عليك أن تقطع شرايينك وتهدي قلبك إلى النسر الجائع ولا تكترث بالشمس التي تحب الغروب بين أناملك؟ لماذا تحرق جذور الشجرة التي تستظل بها وتكسر قلمك على جبهة العندليب؟ لماذا أيها الشاعر عليك أن تغني وأنت تموت؟ لماذا عليك أن تكتب الشعر وعيناك يفقأهما أقسى الجلادين؟ لماذا عليك أن تدون أجمل القصائد على جلدك وعظامك ورموش عينيك؟ أجبني أيها الشاعر.من أحرق ورقتك وأقلق قصيدتك ورمى بقلمك إلى أقصى الأقاصي؟ من أقفل عينيك بالتراب وكسر صدر عندليبك ومنع شمس ربيعك من الشروق؟ من طرد سحبك الفتية من عالمك وأحرق ماء بئرك ومحا واحتك من الوجود؟ أمازلت تحب كتابة الشعر أيها الشاعر؟ أ مازلت تبحث في عيني حبيبتك عن جزيرة كنوز الحب؟ أ مازلت تنتظر قدوم سفينتك وأنت جالس على صخرة الصبر؟

متى ستفجر ذاتك وبيتك وخزينتك التي تخزن فيها أحلى الأشعار؟ متى ستبني زنزانة حولك؟ متى ستدخل قبر النسيان؟ متى ستصبح رميما؟ متى ستدخل عالم العدم بصفة نهائية؟ قل لي أ هذا الذي أسمعه أهو هدير البحار أم هدير قلبك؟ وهذه الريح أ هي ريح عاتية أم زفير روحك الهائمة على بساط الأزمنة؟ وهذا الأنين الآتي من العالم الآخر أ هو أنين المعذبين في السماء أم أنينك أنت وهم يعذبونك لأنك غامرت فعشت شاعرا ومت وأنت شاعر؟ قل لي. لا تبخل علي. صارحني. من أمرك بالغناء وأنت تموت؟ من نصحك بالغناء وأنت تصارع قوى الظلام والإبادة؟ من دفعك إلى الغناء وأنت تتلقى الرصاص وصفعات الزمن الغادر؟ من ساعدك على الغناء والرقص والضحك وقول الشعر وأنت في قبرك منذ ملايين السنين؟ من أوحى لك بكتابة الشعر بشهب النار وأنت في أسفل الدرك من الجحيم؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى