السبت ٢١ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم حميد طولست

الديموكتاتورية

نظام القدافي نموذجا.

... كل شعوب العالم الأول والثاني، وحتى البدائية منها، والتي لم تعرف قط مصطلح الديمقراطية، وتؤمن بالحكم الأسري الشامل كقانون الأسمى، ولا تجد استهجانا في وراثة الابن الأكبر سلطة والده الذكورية هيمنته على العوائل والقبائل والدول والتي لازال بعض من بقاياها يعيش في أدغال الأمازون وإفريقيا، فقد كانت كلها، وبدون استثناء، تسير أمور الحكم بين مواطنيها اعتمادا على واحد من نظامين اثنين، إما النظام الملكي بأنواعه المتعددة والتي منها:

1 ـ الملكية الفعلية المطلقة، التي يكون الملك فيها غير ملزم بموجب الدستور أو القانون، على اعتبار أنه هو المصدر الوحيد للسلطة والقوانين السياسية والاجتماعية، ويملك الحكم المطلق، وقد عرف العالم شيوع هذا النوع من الملكية على نطاق واسع في الأزمنة الغابرة، لكن شعبيته تضاءلت بشكل كبير بعد الثورة الفرنسية التي روجت لنظريات الحكومة المبنية على أساس سيادة الشعب، ما جعله يقل ولم يبق منه إلا القليل في أوروبا، كما في ليختنشتاين، والفاتيكان، وسوازيلندن وبروناي، بينما لازال منتشرا وبكثرة في البلاد العربية: كما في عمان، وقطر، والمملكة العربية السعودية وكل إمارة من الإمارات العربية المتحدة، وأبو ظبي، ودبي، والشارقة، ورأس الخيمة، والفجيرة، وأم القيوين، وعجمان.

2 ـ الملكية المعتدلة التي عرفتها الشعوب التي كانت تحت سطوة الملكيات المطلقة وتحولت نحو ملكية دستورية معتدلة، يحظى فيها الملك بنفوذ كبير مثل الكويت والمغرب والأردن وبوتان

3 ـ الملكية الصورية، أو الملكية الدستورية، وهي ملكية محدودة التي لا يمارس فيها الملك أو الملكة فعليا أيا من صلاحيات الحكم، ويكون منصبه شرفيا، يستمد قوته بشكل مباشر أو غير مباشر من الانتخابات، وهو الحكم المنشأ بموجب نظام دستوري يقر انتخاب أو وراثية الملك بوصفه رئيسا للدولة ويتم الصرف عليه بميزانية معلنة يحددها الجهاز البرلماني، كالنظام البريطاني، والهولندي، والكندي، و الياباني، والإسباني الذي يبقى الأكثر تجسيدا للملكية الدستورية المثالية بين الملكيات الدستورية الديمقراطية في العالم.

ــ وإما تسير أمورها اعتمادا على النظام الجمهوري الذي تنتهجه البلدان الديمقراطية التي يقودها شخص أو أشخاص لا يبنون قوتهم السياسية على أي مبدأ أو قوة خارج سيطرة أو إرادة سكان تلك الدولة أو ذلك البلد الذي يقوم فيه رئيس الدولة بدور رئيس وزراء تحدد صلاحياته وتحجمها الجهازين البرلماني والقضائي اللذان يخضعانه للمراقبة والمحاسبة، كما في الولايات الأمريكية المتحدة، وفرنسا وغيرها من البلدان التي تتبع النظام الجمهوري الديمقراطي القائم على تبادل السلط بين مستحقيها سلميا بواسطة صناديق الاقتراع وعبر انتخابات نزيهة أو استفتاءات شعبية تسمح باختيار النظام الحكم الذي تريده وترغب به الشعوب عن فهم وقناعة وليس بالحمية والعصبية والانقلابات العسكرية كما حدث مع أغلب الجمهوريات التي عرفتها جل الأنظمة الجمهورية العربية التي جاءت جلها بانقلابات عسكرية وتعاقبت فيها السلطة بالقوة والغلبة، كما وقع في مصر التي قامت فيها الجمهورية بعد إزاحة الملك فاروق عام 1952 بثورة عسكرية، تم أزاح عبد الناصر رئيسه اللواء محمد نجيب واستفرد بالسلطة وبعد حزيران 1967 تخلص من عبد الحكيم عامر، وتخلص أنور السادات من رفاقه بعد استلام الحكم، وكما السودان التي قامت فيه الجمهورية سنة1956 بانفصالها عن مصر، وحتى العراق لم تصبح هي الأخرى جمهورية إلا بعد الإطاحة عسكريا بالملكية 1958، وفي 1962أصبح اليمن الشمالي جمهورية بإقصاء الإمام البدر، وتخلص اليمن الجنوبي من الاستعمار البريطاني 1967، وفي 1969تخلص القذافي من رفيق دربه عبد السلام جلود، بعد أن أطاح صغار الضباط بقيادة بملك ليبيا إدريس السنوسي ، والاستقلال أعلنت الموريتانية نفسها جمهورية أما تونس 1956 والجزائر 1962 سوريا عام 1930 ولبنان 1948 فقد اختارت فرنسا المستعمرة لها الجمهورية كنمط للحكم محاكاة لنظامها القائم ومع ذلك فقد تخلص الرئيس التونسي بورقيبة من رفاق النضال وتفرد بالسلطة، وجاء بن علي فخلعه وتولى منصبه، وفي الجزائر تخلص هواري بومدين من رفيقه أحمد بن بله، أما في العراق فقد تخلص عبد الكريم قاسم من منافسه عبد السلام عارف وصار الزعيم الأوحد، الذي أقصى أحمد حسن البكر الذي هو بدوره أقْصاه مرافقه صدام حسين.

وعلى ضوء هذا نجد أن كل النظام الجمهوري العربي، لم يكن قط اختيارا شعبيا، وأن جل رؤسائها كانوا عسكريين استولوا على مقاليد الحكم ومواقع النفوذ بالقوة والقهر والقتل والتقتيل، وركزوا السلطة بيد فرد واحدة بالمؤامرة والتفرقة والقبلية، والثورات التي سرعان ما تأكل أبناءها وصناعها بعد اشتداد الصراع والمنافسة بين قياداتها المتمسكة بالكراسي والرافضين التخلي عن الزعامات والرئاسات مهما بلغت من العمر عتيا، والذي ما يكاد أحدها يستفرد بالسلطة حتى يستبد بها لنفسه ويهيئ الأرضية لأولاده وأحفاده ليحكموا خلفا له -تماما كما كان يفعل حكام السلالات والأمم السالفة، من بني أمية وبني العباس-، وعلى حساب شركائه في الثورة الذين يقصون بعد نجاحها بأساليب غير ديمقراطية ولا شريفة، ضدا على أسس النظام الجمهوري الديمقراطي القائم على التبادل السلمي للسلطة التي يغتصبها جل رؤساء الجمهوريات العربية بدهائهم وتدبيرهم الجهنمي، واتخاذهم من الانتخابات غطاء لإضفاء الشرعية على حكمهم وتحكمهم، الذي لم يكن في يوما خيارا ديمقراطيا للشعب. حتى أضحى من المستحيل أن تعتر، من بين رؤساء الجمهوريات العربية الثلاث عشرة، على رئيس واحد تخلى عن السلطة -بعد انتهاء المدة طبعا- بمحض إرادته، وفسح المجال للتناوب السلمي، فكل رئيس منهم يحيط نفسه ونظامه بمراكز قوى من صلبه وعشائره للدافع عن خلوده فيها ولا يتنحى إلا مكرها بالموت أو بالعزل القسري والخذلان الشعبي كما كان الحال مع بن علي رئيس تونس، ومبارك رئيس مصر اللذان صارا بين عشية وضحاها منبوذين يتبرأ منهما أقرب الرؤساء لهما، ويجري فضحهما، والكشف العلني عن سرقاتهما للمال العام، وتخريبهما لحياة شعبيهما، ويتم فضح عورات أبنائهما وخروقات أقربائهما وزلات خلانهما.
ومهما تراءى للبعض خطأً أن الحكم الجمهوري في البلاد العربية، نظام ديمقراطي، فإن حقيقة الأمر، خلاف لما هو شائع بين الناس من أن الجمهورية هي سليلة الديموقراطية دائما وأبداً، وذلك لأننا إذا نظرنا ولو نظرة وجيزة على تاريخية الجمهوريات العربية، لوجدناها جميعها، وبلا استثناء، متشابهة حد التطابق، في استبداديتها الكريهة، ولا ديكتاتوريتها المقيتة، التي لا تختلف عن بعضها في تعامل رؤسائها أللإنساني مع شعوبهم، التي تذوق معهم المر، وتلعق بسببهم الصَّبر، وتعيش على أيديهم القهر، لأنهم لا يحافظون لها على حقوق، ولا يتيحون لها فرص ممارسة الحريات الشخصية والفكرية، حتى تبقى أبد الدهر مطية لهم بعيدا عن الديمقراطية الحقيقية التي هي بلا شك مطلب كل حر، والتي تعني في مدلولها العظيم: أن الحكم يكون للشعب المتساوي في الحياة السياسية، انتخاباً وترشيحاً، والذي يعمه تكافؤ الفرص واقعاً محسوساً يبرز الأصلح ويقدَّم الأفضل، ويعلي الخير، ويزدري جميع معاني الديموقراطيات المغشوشة التي يروجزن لها في جمهورياتهم بلا وجل، ويتشدَّقون بها بلا حياء، يدندنون باسمها بلا خجل وهم يعلمون في قرارات أنفسهم، وعلى رأسهم قيدومهم الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي أكبر شاهدٍ حيٍ في عصرنا هذا، على همجية تلك الجمهوريات وبربريتها والتي من أكبر مشاكلها أنها أصبحت معهم في عالمنا المعاصر نظاما هجينة وفريدة متفردة من نوعها تثير السخرية والاستهزاء، لكونها ليس بملكية ولا بجمهورية، لكنهم يجمعون فيها بين أقبح ما في الملكيات المطلقة وأبشع ما تحويه الجمهورية الديكتاتورية كما هو حال الحكم الذي رضيه الزعيم القدافي لشعبه، والمسمى "بالحكم الجماهيري الاشتراكي الشعبي، الملكي الجوهر الجمهوري المظهر، الذي ليس له رئيس للدولة، وإنما له زعيم كما كان في عهد القبائل البائدة. فهو الملك المعبود الذي لا يتنحى، والسلطان المقدس الذي لا يرحل، والخليفة المنزه الذي لا يموت، والذي له صلاحيات لا تحدها حدود، ولا قوانين ولا دساتير- لأن الدساتير غير موجودة في ليبيا- تمكنه من حق التحكم الفعلي في الحكومةوالتشريع والقضاء بلا منازع أو تدخل من بقية الشعب الذي يبقى كله كراكيز وعرائس ماريونت يتصرف بمصائرها ويسيطر على أرزاقها ويعبث بأقواتها ومواردها، ويسلب حريتها، ويصفع كرامتها، ويغتصب أراضيها، ويهين عرضها بمعية أبنائه وأفراد أسرته وأقربائه من عشيرة القذاذفة الذين نصبهم في أهم مراكز القوة في البلاد، وأمسكوا بمفاصل الجماهيرية من خلال توزيعها عليهم وتحولوا بفضل شرعية ثورية أبيهم المقيتة، إلى ملكيين أكثر من الملكية نفسها، يسطون في ظلها على مقدرات البلاد وثرواتها، ويقودون العباد كالبهائم والحمير نحو عصر الظَّلام والتَّعسُّف، والخراب والدَّمار، والفقر والتَّشريد بشعاراتها الجوفاء، وعباراتها الحمقاء المنافية للجمهوريات الديمقراطية التي يعد القدافي أخبث متحدثٍ بها وأكذب ناطقٍ باسمها وأفجر مصوِّرٍ لها، والذي يشهد على كذبه ما يبث في خطبه من سم ، وما يتوارى من شرّ خلف خُبث مقاله، وما يظهر جليَّا من سود أفعاله وتصرفاته، وتدلل على نفاقه دباباته التي لا تتورع عن قصف المدنيين الأبرياء، ومضرعاته التي لا تتأخر عن طحن أجساد الثوار الوطنيين الأوفياء لوطنهم، حتى أضحت جماهريته الديمقراطية الشعبية الاشتراكية، التي يتشدق بها -ويتصور أنها تعطيه حق التأبيدة على الكرسي وتوريثها من بعد- لعنةً على البلاد والعباد، وباتت سُبَّةً عليه وعلى أهله وأصحابه وكل أتباعه.

وهذا لا يعني أن القدافي وحده من فشل في تحويل الملكية إلى جمهورية ديموقراطية في المنطقة العربية، وتحول بسببها إلى دكتاتور لا يرحم..

بل كانت هناك تجارب عدة فاسدة من المنطلق، رغم ما أخذت به من مظاهر الحكم الجمهوري الديموقراطي كوجود الانتخابات والبرلمان والأحزاب، وذلك لأن منطلقها كان غير سليم، ينطبق عليها المثل المغربي القائل، (قيل فلان طاح، قالوا، من الخيمة خرج مايل) ونوايا من خاضوها لم تكن صادقة، لأنها كانت محصورة في حب السلطة والقوة والتعلق بنظام الحكم الشمولي الأسروي، والعمل على تركيزه في يد شخص أو أسرة محددة تموت في الملذات وتعشق المال والبذخ والجنس، ولا ترضى عنه بديلا، وتتنازل عنه إلا لذريتها، كما فعل صدام حين سعى لتولية ابنه قصي وكانت الدولة تدار فعلا من قبل أشقائه برزان وسبعاوي ووطبان وأبناء عمه علي كيمياوي وحسين كامل وصدام كامل وغيرهم، وكذلك كان سعي مبارك حثيتا لتوريث ولده جمال، وكذلك فعل القذافي الذي كان يسعى ليضع ولده سيف الإسلام في مكانه فضلا عن وضع باقي أبنائه وأفراد أسرته وأقربائه من عشيرة القذاذفة في أهم مراكز القوة في البلاد. بينما أطلق بن علي يد عائلة زوجته (الطرابلسي) في شؤون البلاد والعباد، ولم يشذ الرئيس اليمني علي عبد الله صالح عن هذه القاعدة فحاول هو الآخر ثوريتها لابنه وغيرهم في هذا الصنيع كثيرون جدا. فهل يا ترى أن النظام الجمهوري الديمقراطي غير صالح أساسا للعرب؟ أم أنه لا يروق لهم كنظام حكم أو لا يناسب عقليتهم؟ وإما هو أمر ثالث يجهله الناس في بلادنا وعلى رؤساء تلك الجمهوريات الفاشلة أن ينوروا الناس برؤيتهم، خاصة أنه نظام حكم ناجح في الكثير من دول الغرب وفي العديد من بقاع العالم الأخرى !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى