الأربعاء ٢٥ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم أحمد الخميسي

عزيزتي الثورة ..

عزيزتي الثورة.. تحية وإعزازا وبعد.. هذا هو خطابي الأول إليك بعد نحو أربعة أشهر من لقائنا الأول في 25 يناير، اللقاء الذي طال انتظاره لنحو أربعين عاما. من قبل كتبت عنك، الآن أكتب إليك مباشرة وقد ظهرت وصرت حقيقة في الميادين والنفوس والعقول، حقيقة غالية افتداها مئات الشهداء وآلاف الجرحي لتتفتح زهرة الاحتجاج بكل ألوانها على كف مصر. ولم أكن وحدى في انتظار قدومك بوجهك الجميل، كان هناك الكثير من الشرفاء والكثير من الأقلام والكثير من الأحلام والكثير من القصائد والكثير من الزنازين والكثير من الممنوعات. لم أكن وحدي، كنت قطرة في بحر يشهق بك. من السخف الآن أن أدلل على حبي لك، لكي أحظى بنظرة من عينيك وباهتمامك في غمرة مشاغلك ولقاءاتك ومؤتمراتك الكثيرة وأحزابك التي ظهرت في كل مكان، والكتب التي سطرت عنك خلال ساعات قلائل، والأغنيات، والشعارات. أنت الآن تتألقين في حفل ضخم تحت الأضواء المتلألأة وحولك الآلاف يحيطونك بالإعجاب والتقديس، ولا أنوى هنا أن أنتزعك من هذا الاحتفال الكبير لأسر في إذنك بأنني كنت أنتظرك طويلا، وتستطيعين أن تراجعي كل ما كتبته عن ذلك الانتظار الممض، وعن شوقي إليك، ولن تجدي في دفاتري حرفا غيرك، ولا كلمة نافقت قوة أو سلطانا أوجاها، وكان ذلك يتطلب عزيمة ومحبة كثيرة، لكي يبقى الإنسان في الظل محتضنا فكرتك. على أية حال، سواء أوصلك هذا الخطاب أم لا، فإنني أود فقط أن أقول لك أنني لم أتعرف إلي صورتك حين جئت، هذا طبيعي، فالإنسان يحلم بشيء، لكن الواقع غالبا ما يلد شيئا آخر، مختلفا. تسألين كيف حلمت بك؟ كيف تخيلتك؟. الحق أني تخيلتك قوية، واضحة، عارمة، تكتسحين كل ما أمامك، وتقيمين الدنيا فلا تقعد، لكنك رغم الدماء التي أريقت لأجل وجهك، جئت، مرتبكة، وحائرة، تقطعين خطوة للأمام، ثم تتوقفين وتتلفتين حولك وتسألين: من أين الطريق؟. ترتجفين بالغضب ويفور الدم في صدرك، ثم تهدأين، تندفعين، ثم تستولي الشكوك على قلبك، فتمسحي الميادين بنظرة تبحثين بها الحقيقة. ورغم كل ذلك فإنني مازلت على هواك، لأنك حطمت الخوف بظهورك، وبددت الظلمة، وفتحت الطريق حتى لو كنت فتحته فقط للأسئلة المحيرة.

ربما أكتب لك ثانية، وثالثة، إذا أردت، إذا قدرت أنت أنك بحاجة لخطاباتي، وإذا كانت ستلقى اهتمامك تلك الأفكار والتساؤلات التي تؤرقني كل ليلة ولاأجد لها إجابة. ما أريد أن أقوله لك الآن، إنني كثيرا ما أسمع من حولي الكلام عن ثورة مضادة لك، وعن سرقتك، وعن إجهاضك، وعن إنقاذك، ولكني أقول لك إن المطلوب هو إنقاذك من نفسك، وليس من أحد آخر. إنقاذك من أن تصدقي أن السخط على الأشخاص الفاسدين هو سخط على السياسات، بالطبع أنا معك تماما حين تنادين بمحاكمة مبارك وكل رموز حكمه، بالطبع، يجب أن يلقوا عقابا رادعا، لأن دماء أبسط مواطن تساوي دماء أعلى مواطن. أنا معك في ذلك، وضد أي عفو، لأن نظام مبارك لم يعفو عن الشعب بأكمله ثلاثين عاما. لكني كنت أود أن تعاقبي السياسات والمنهج أيضا، أي أن تقومي بمحاكمة السياسة الاقتصادية التي سار عليها مبارك وإصدار حكم بالإعدام في حقها، السياسة التي ألزمتنا بالتبعية لصندوق النقد والبنك الدوليين، حتى أن ضريبة العقارات (تخيلي؟ حتى تلك التفاصيل الصغيرة) كانت بإملاء من صندوق النقد!. كنت أتمنى أن يتجه غضبك وعنفك إلي الأرض التي أخرجت النباتات السامة، وليس فقط نحو استئصال هذه النبتة أو تلك، لأنه – صدقيني – ما فائدة أن تستأصلي نبتة هنا أو هناك، والحقل المشبع بغياب العدالة الاجتماعية ينبت كل يوم المزيد من الأزهار السامة؟

كنت أتمنى – وأنا أكلمك بصراحة وصدق – أن لا يتبدد عنفوانك في محاكمة المجرمين فحسب، بل أيضا في محاكمة الإجرام، أعني أن تجلسي وتضعي للبلد خطة للنهوض بالصناعة القومية، والزراعة، وخطة لتوزيع عادل للدخل القومي. في عهد الملك فاروق وصف أحد الاقتصاديين مصر بأنها كالبقرة التي ترعى في مصر، لكن ضروعها تحلب في الخارج. وهذا ما فعله مبارك مجددا بمصر. وما أتمناه هو أن تختلف صورة البقرة التي ترعى في مصر بحيث تحلب ضروعها في مصر لأبنائها.

هذا هو ما أقصده بمحاكمة السياسات وإعدامها، وليس فقط الاكتفاء بمحاكمة الأشخاص. وإلا فما قيمة أن نحاكم مبارك ثم نمضي على طريقه؟. مازال تصويب الطريق أهم في نظري من أي شيء. واسمحي لي إن كان خطابي بين يديك، وإن كان قد استحوذ على شيء من اهتمامك أن أحكي لك حادثة صغيرة ذات مغزى، فبعد انقضاء عشرة أيام من ظهورك في 25 يناير، سادت حالة من الذهول، والمراقبة، وتفجر الغضب، والمتابعة، وكنت مأخوذا بوجهك الجميل، إلي أن كان يوم استوقفني فيه حارس العمارة التي أسكنها، وقال لي: أنا يابك سعيد جدا بما يحدث. قلت له: بالطبع، كان من الضروري للوضع القائم أن يتبدل. قال: شيء جميل فعلا، سيرحل الرئيس ويأتي الثوار. قلت: نأمل ذلك. وانكسر بصر البواب العجوز لحظة ثم رفع عينيه ثانية يتأملني وقال: لكن نحن.. ماذا سيفعلون بنا؟. سألته: ماذا تقصد؟. قال بمرارة وقد جمع أصابع يده الخمسة يشير بها إلي فمه: يعني هل سنأكل؟ أم أنها حرية فقط؟. وصدمني الشعور المفاجيء بقوة الفقر والجوع، وفكرت في المهام الصعبة التي يتعين عليك أن تقومي بها، وأنت بعد مازلت شابة تتلفتين حولك بقلق وتسألين: من أين الطريق؟

الآن أريد أن أقول لك، بل أريد أن أرجوك، أن تصمي إذنيك عن أغنيات المديح. أنت جميلة، وعظيمة، وقوية، ولست بحاجة للمنشدين الذين احترفوا الإنشاد لكل العصور، وعيناك الواسعتان باتساع مصر ليستا بحاجة لغزل رخيص. إنظري من حولك في هذا الحفل الصاخب كم من الكتب الفورية التي صدرت بعد ساعات من ظهورك تتحدث عنك، وانظري كم من الأغنيات الرخيصة لنفس المنشدين الذين تغنوا بمبارك صارت تذاع، وانظري من حولك كيف يتم الآن تملقك بنفس الطريقة التي تملقوا بها مبارك، أرجوك أن تصمي أذنيك عن كل تلك المدائح، أن تثقي أنك جميلة، لا تثقي في الملصقات التي تباع في كل مكان وقد كتب عليها " أنا فخور لأني مصري "، الذين يفتخرون بك، وبأوطانهم، يفتخرون بها طوال الوقت، ساعات الهزيمة وساعة النصر، أما الإدعاء بأني " فخور بوطني بعد ظهورك في 25 يناير "، فلا أهضمه، ولا أفهمه، لأنه يمحو افتخاري الطويل بوطني ويمحو حلمي الطويل بك، ويجعله يبدأ فقط بعد اليوم الذي ظهرت فيه. وحين تحيطك تلك الإدعاءات أرجوك تذكري قصيدة شاعرنا العظيم صلاح جاهين " بأحبها وهي مالكة الأرض.. شرق وغرب.. وبأحبها وهي مرمية جريحة حرب..".

أما الذين يفتخرون بمصريتهم فقط ساعة النصر فإنهم يحولون الوطنية إلي عمل ناجح مربح لايجوز قبله الافتخار بالوطن. أرجوك ألا تنصتي للمدائح، لأولئك الذين يطلبون الآن في الإذاعة والإعلام والصحف والتلفزيونات مواد عن عظمتك، وروعتك، بنفس الروح التي كانوا يطلبون بها مواد عن فخامة الرئيس حسني مبارك، وإنجازات سوزان مبارك، ومشروع القراءة للجميع. الروح التي تتشمم أين تقع السلطة؟ من يحكم؟ كيف ننافقه ونتقرب إليه؟. إنهم يعتبرونك الآن سيدة كل شيء، الحاكمة، لهذا ستجدين نفس المطربين الذين تغنوا بمبارك هم الذين يتغنون الآن بك، وباسمك، وستقرأين فتجدين أن العدد الأكبر من الصحفيين الذين تخصصوا طويلا وبدأب في نفاق مبارك، هم الذين يكتبون لك الآن عن الظلم والاستبداد الذي تملقوه، وكما جرى نفاق السلطة فيما مضى، يتم الآن نفاقك أنت والتقرب منك، ويتقدم البعض باقتراحات ثورية لكي يستمر المجلس العسكري في حكم البلاد. كنت أتمنى لو تستطيعين أن تصرخي في وجوههم: توقفوا. كفوا.

لا أريد مديحا، إني أبحث الآن عمن ينتقد المجلس العسكري، وينتقدني، ويدلني على مواطن الضعف في حركتي، فكفوا عن عزف الأناشيد الرخيصة، وقولوا الحقيقة، ليس تلك الحقيقة التي تخص الماضي، بل الحقيقة التي تخص الحاضر، أين أخطائي الآن؟ أين خطواتي الصحيحة؟ وكيف أمضي للأمام؟. إن الذين نافقوا كل الأنظمة طويلا، سيواصلون حرفتهم، والذين صمدوا في وجه الكذب سيواصلون قول الحقيقة، وأنت بحاجة للحقيقة، لكي تكبري، وتصبحين بحجم أحلام الوطن كله، الوطن الذي يتالف في معظمه من الفلاحين الفقراء، والعمال، والموظفين، والطلاب، والعلماء، والكتاب. هذا هو الوطن الذي يليق بجمال عينيك وبنظرتك الغاضبة، الثائرة، القلقة. فإذا وقع خطابي بين يديك، وجلست وحدك تقرأينه باهتمام بعيدا عن ضجيج الحفل وأضوائه، وإذا نفذت كلماتي بالمصادفة إلي قلبك، فقولي لي، فمازال لدي الكثير من الأسئلة الحيرى، قولي لي لأكتب إليك مرة أخرى، أو أظل واقفا بصمت متطلعا إليك بحب وأمل في ذلك الحفل الكبير الذي يشغى بالحركة والشعارات والمؤتمرات والخطابات. لك كل محبتي، وشوقي، أيتها العزيزة الغالية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى