الأربعاء ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم أوس داوود يعقوب

الشاعر إبراهيم مصطفى الدبّاغ

(1880م – 1946م) وقصيدته فلسطين الدَّامية

ولد الشاعر إبراهيم بن مصطفى بن عبد القادر الدبّاغ عام 1880م في مدينة يافا عروس الساحل الفلسطيني، وآل الدبّاغ في يافا مغربية الأصل، هاجرت إلى فلسطين، واستوطنت يافا بعد سنة 1775م بقليل.

احتسب شاعرنا والديه وهو في الرابعة من عمره، فكفله جده لأبيه السيد عبد القادر أحمد الدبّاغ وجده لأمه السيد سعيد الشرقاوي، وكلاهما من أهل الفضل والعلم. وقرأ عليهما كتب الفقه والأخلاق وبعض القصص الشعبي والدواوين الشعرية والكتب الأدبية. واشتغل إبراهيم في صباه خيّاطاً ثم عمل حدّاداً.

وفي يافا مسقط رأسه التقى شاعرنا بالثائر المصري الشيخ عبدالله النديم، خطيب الثورة العرابية، أثناء إقامته فيها منفياً عام 1819م، ولزم مجالسه وأخذ عنه واقبل على أحاديثه الأدبية والعلمية التي كان يعقدها في بيوت أهل العلم والأدب، فأعجب إبراهيم بالحديث الطلي من الضيف المشرَّد، وتأثر بأفكار الحرية والإصلاح، واختمر طلب العلم في نفسه، فتطلعت نفسه إلى تلقي العلم في الأزهر الشريف، ولكن منعه من تحقيق ذلك أنه طفل يتيم تحت الوصاية.

فوجه إلى جده السيد عبد القادر الدبّاغ فتوى خطية ضمنها السؤال التالي: «ما حكم طالب العلم وهو تحت سن الوصاية يتطلع إلى المزيد من العلم لكن وصيه يأبى عليه ذلك، أيخالف الوصي ويخرج لطلب العلم؟ أم يبقى حيث يشاء له وصيه؟».

فرد الجد بالفتوى التالية: «إذا كان طالب العلم راغباً في الاستفادة منه فبوسعه أن يخالف إرادة الوصي ويسافر في طلب العلم، لان طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة».

فكان له عام 1893م أن يحقق ما تمنى من دراسة في الأزهر فقضى به عشر سنين، نال إثرها الشهادة العالمية، وكان من أساتذته: الشيخ محمد عبده، عبد القادر القصاب، عبد الله وافي المنوفي، سليم البشري، سيد على المرصفي، الشيخ محمد المهدي، الشيخ حسن الطويل وغيرهم من أعلام الأزهر.

وانكب الدبّاغ على دراسة الأدب العربي، وأسعفته ذاكرته القوية على حفظ روائعه شعراً ونثراً، وقاد وهو طالب مظاهرة من طلاب الأزهر طلباً للإصلاح، لكن السلطات فرقت شمل المتظاهرين وأودعت الدبّاغ السجن، وبعد أيام أفرجت عنه فعاد إلى دراسته.

وخلال دراسته في الأزهر تتلمذ شاعرنا، مع رفيقيه الشاعرين ولي الدين يكن وأحمد محرّم، على الشاعر المعروف العلامة حسني (باشا) الطويراني صاحب «لامية الترك»، ودرس عليه مع زميليه الأدب والعروض والفلسفة، وراسل الصحف المصرية وغيرها والتحق بالندوات الأدبية كندوة عبد الخالق السادات وندوة البارودي شاعر مصر الكبير وندوة آل تيمور وشيرين، ولمع اسمه في آفاقها.

الدبّاغ .. فولتير مصر

آثر شاعرنا الإقامة في مصر بعد تخرجه في الأزهر واتخذها موطناً ثانياً له.

وعمل بعد تخرُّجه في الصحافة، وأخذ ينشر شعره ونثره في صحف «الأهرام» و «المقطّم» و «اللواء» و «المؤيد» ومجلة «سركيس» و«الرقيب».

وعُيِّن رئيساً لتحرير جريدة «العهد القويم، ولصحيفتي «التمثيل والمسرح» و«القاهرة». وأسهم في تحرير مجلة «روضة البحرين» وغيرها من المجلات والجرائد، بالإضافة إلى تحريره في صحف الفكاهة كـ «الصاعقة» لأحمد فؤاد و«السيف» لأحمد حسين.

وأنشأ عام 1903م في القاهرة مجلة الإنسانية» وصدر العدد الأول منها في 28 كانون الأول (ديسمبر) 1903م، وعمرت حتى عام 1911م.

عُيِّن الدبّاغ قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، رئيساً لتحرير مجلة «العفاف»، وظل يعمل فيها إلى حين انطلاقة شرارة تلك الحرب الضروس، فاعتقلته السلطات البريطانية مدة سنة.

ولما أفرجوا عنه، عُيِّن رئيساً لتحرير مجلة «مرآة الأدب»، وظل يشرف على تحريرها لغاية 1918م. وفي هذه الفترة مال الدبّاغ بكليته إلى (الحزب الوطني) وأسهم في تحرير الصحف الناطقة باسمه مثل «اللواء» و«الشعب» و«العلم»، وأحبه زعماء هذا الحزب أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ عبد العزيز شاويش، وتقديراً منهم لوطنيته شقت قصائده الوطنية طريقها إلى الصدارة في «اللواء». وكان صديقاً لأقطاب الطرب في زمانه كالشنتوري وعبده الحامولي وسلامة حجازي، وقد رثاهم جميعا بشعره.
وفي عام 1920م نشر طائفة من المقالات الأدبية في جريدة «الساعة» وفي مجلة «الإصلاح» وفي صحيفتي «الناس» و«البغبغان» لصاحبهما حسين شفيق المصري، وفي عام 1922م أصدر جريدة «الزمان» وظل يصدرها إلى عام 1924م.

في سنة 1926م انطفأ نزر بصر شاعرنا، لكنه لم يتوقف عن أداء رسالته الوطنية وظل يواصل نشر قصائده ومقالاته في الصحف والمجلات المصرية والفلسطينية. وقد أطلق عليه عشاق أدبه «رهين القاهرة» و«فولتير مصر». ولقد نشر في جريدة «فلسطين» مجموعة من الخواطر الأدبية والفلسفية والعديد من القصائد الشعرية.

وتناول الدبّاغ في كتاباته الموضوعات الوطنية والسياسية والاجتماعية والإنسانية، ولم ينسه فقد بصره محنة بلاده فلسطين التي ألهمته العديد من القصائد، كما أسهم بشعره في أحداث مصر. وهكذا توزعت عواطفه بين فلسطين موطنه الأول ومصر موطنه الثاني الذي اختاره للإقامة فيه بقية عمره.

وتوثقت روابط المودة والإخاء بينه وبين أعلام مصر من رجال السياسة والأحزاب والشعراء والكتاب، وأصحاب الصحف ومحرريها، فأطرى الشعراء والكتاب شعره، ونوهوا بأدبه، وأشادوا بفنه. وفي طليعة من أشاد بأدب الدبّاغ صديقه خليل مطران الذي قدم للجزء الثاني من الطليعة، ومما قال: «وهل يوجد في الأقطار العربية من لم يردد اسم الشيخ إبراهيم الدبّاغ، ولم يرو له بيتا من الشعر رائعاً، أو طرفة من النثر شائقة، أو لطيفة من اللطائف الأدبية تهتز لها النفوس طربا».

وقد اشتهر الدبّاغ بالظرف والدعابة وخفة الروح، واعتبر من أساطين المرح والفكاهة، وعنه أخذ حافظ إبراهيم وأمام العبد. ووصفه صديقه أحمد تيمور بقوله: «كان الدبّاغ ذلق اللسان، عذب الكلام فكه الروح، وكان آية عصره في قوة الذاكرة وحضور البديهة، وسعة الإطلاع».

توفي الدبّاغ يوم 26 شباط (فبراير) 1946م في مدينة القاهرة، أعمى فقيراً بعد أن عانى المرض طويلاً، وقد شيعته مصر حكومةً وشعباً، ونعاه صديقه الدكتور زكي مبارك إلى العالم العربي، وأقيمت حفلتا تأبين له في يافا والقاهرة أسهم فيهما كبار أدباء القطرين وفي طليعتهم شاعر الأهرام الأديب الكبير الأستاذ محمد عبد الغني حسن، ورثاه الدكتور زكي مبارك بقصيدة ألقاها في حفلة التأبين التي أقامتها القاهرة.

من آثاره القلمية:

ديوان الطليعة (في جزأين، خصص الجزء الأول لقصائده الوطنية عن مصر وفلسطين. طبع الأول في مطبعة مصر بالقاهرة سنة 1926م، وامتد هذا المحور القومي إلى الجزء الثاني مع بعض الإخوانيات والمفاكهات، طبع سنة 1937م في مطبعة حجازي بالقاهرة، وكتب مقدمته الشاعر خليل مطران).

حديث الصومعة (رسائل في الأدب والفن، وهو مختارات شعرية ونثرية في الأدب والاجتماع، اختارها وعني بجمعها ابن أخيه: مصطفى درويش الدبّاغ، طبعة أولى ـ مكتبة الطاهر في يافا، 1947م، وطبعة ثانية ـ المطبعة العصرية، القدس ـ «د.ت»).

في ظلال الحرية ، رسائل وأدب ونقد ، مطبعة مخيمر، القاهرة، 1954م.

شهد وعلقم / مقالات وقصائد جمعها ورتبها مصطفى درويش الدبّاغ، المطبعة العصرية، القدس، 1960م.
وقد فقدت بعض كتبه في يافا بعد أن أحضر ابن شقيقه مصطفى درويش الدبّاغ مكتبة عمّه من القاهرة قبل النكبة الفلسطينية الأولى. وهي: «الشعراء قديماً وحديثاً في الميزان». و «تاريخ الحرية في العالم». و «رسالة في التصوف وأبي العلاء». وأربعة دواوين شعرية تشمل شعر الصبا مما نظمه قبيل الحرب العالمية الأولى حتى عام 1920م.

امتاز شعر الدبّاغ بالقوة ثم بالعاطفة في أبهى وجوهها، وقد أجمع الشعراء والنقاد وذوو البصر بالأدب على امتداح شعره، الذي يجري في مضمار معاصريه من أمثال: حافظ إبراهيم، وأحمد محرّم. ومما قيل في شعره أنه «ناصع الديباجة محكم النسج»، وقال آخر: «إنه شاعر الإنشائية»، وقال ثالث: «كان الدبّاغ شاعراً عصري المعاني والموضوعات، تجيش نفسه بما يدور حوله من أحداث سياسية وحوادث اجتماعية، فيستمد منها الوحي، ولذا جاء شعره كثير المناحي متعدد الجوانب».

وأكثر شعره في الأغراض الوطنية والاجتماعية وتسجيل الحوادث الكبرى، وله قصائد كثيرة في كفاح فلسطين... ثوراتها وإضرابها التاريخي وقضيتها، من أشهرها قصيدة «فلسطين الدَّامية».

فلسطين الدَّامية

يا فتيةَ الأكْرمينَ العُرْبِ هل لَكُمُ
في نجدةٍ من بقايا نَخْوةِ العرَبِ
 
إخْوانكمْ في جنُوبِ الشّام قد وَثَبوا
لـمَّـا دعا داعيُ(1) الويلاتِ والحَرَبِ
 
أَلْهىٰ الجزيرةَ عن أَهْلِ وعن وطَنٍ
ما حلَّ فيها من الويْلاتِ والكَرَبِ
 
يجُول فيها العِدا في جحْفلٍ لجِبٍ
ولا يُصَدُّ بغيرِ الجَحْفل اللَّجِبِ
 
ألاَ تُعيدُ لها الدُّنيا التي ذهبتْ
ما ضَيَّعتْ من عتادِ الدِّين والحسَب؟
 
* * *
أين الفتىٰ العربيُّ المسْتَعانُ به
يوم الكَرِيهةِ هل ضاع الفتىٰ العَرَبي؟
 
متىٰ أرىٰ القومَ حوْل الصَّخرة اجتمعُوا
بعد التفرُّق من ناءٍ ومُقْتَرِبِ
 
إني أَرَىٰ حولَها برقاً وجَلْجَلةً
وقد خلا رَعدُها من هاطِل السُّحُبِ
 
ما وعدُ بلفورَ من أمرِ السماء ولا
في الجَدْب من أرْضِنا زرعٌ لِمحْتَطِبِ
 
هل وعْدُ بلفورَ تشريعٌ إذا فُرِطَتْ
أغلوطةٌ منه تدعو النَّاس للعَجَبِ؟
 
* * *
ما الانتدابُ؟ أَمَرْمَاهُ وغايتُه
إذلالُ حرٍّ أبيٍّ باسم غيرِ أبي؟
 
أم الانتدابُ يرامُ الإِغتصابُ به
معْنىٰ وأحرفُه في ذِمَّة العَرب؟
 
لما انتُدِبتمْ حسِبْنا خيرَ منتدَب
مُوفَّقٍ وابتلينا شرَّ مُنْتَدَبِ
 
ملأتم الأرضَ من عدلٍ وأُغْنيةٍ
عنه فهلْ أخذتْها هِزة الطَّرب؟
 
العدلُ شعرٌ خياليٌّ حقيقتٌه
في ذمَّة الظُّلمِ والتدْليسِ والكذبِ

(1) ضم ياء ــ داعيُ ــ مع الثقل ضرورة لضبط الوزن.

أهم المصادر والمراجع:

  1. الأدب العربي المعاصر في فلسطين، (1860م - 1960م)، د.كامل السوافيري، دار المعارف، القاهرة، طبعة 1987م.
  2. حياة الأدب الفلسطيني الحديث «من أول النّهضة ... وحتى النكبة»، د. عبد الرحمن ياغي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ـ 1981م.
  3. شعراء فلسطين في القرن العشرين ـ «توثيق أنطولوجي»، راضي صدوق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000م.
  4. معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، الكويت، النسخة الالكترونية: [www.almoajam.org].
  5. من أعلام الفكر والأدب في فلسطين، يعقوب العودات (البدوي الملثم)، الطبعة الأولى، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1976م.
  6. الموسوعة الفلسطينية ،(القسم الأول _ 4 مجلّدات)، المجلد الأول، أحمد مرعشلي وعبد الهادي هاشم -# وأنيس صايغ، إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية، دمشق، 1984م.
  7. موسوعة كتاب فلسطين في القرن العشرين، أحمد عمر شاهين، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، 1992م.
(1880م – 1946م) وقصيدته فلسطين الدَّامية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى