الخميس ٢ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

قطرتان

اسمي المهدي، وأنا طالب في المدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط؛ وأقطن فيلا صغيرة قريبة جدّاً من المدرسة، ولم يبق على تخرّجي مهندساً في علوم الطاقة والمعادن غير سنة.

جميع مشترياتي أجلبها من الحي الذي أسكنه؛ حي أگـْدال الجميل. وحتى هواياتي أمارسها في نفس الحي: رياضة كمال الأجسام، زيارة السينما، مطالعة الكتب، متابعة مباريات كرة اليد... أكدال حيٌّ - مدينةٌ كاملة.

أنا محظوظ لأنّ والدي لا يدّخر جهدا لتلبية مطالبي. قبل أسبوع اشترى لي سيارة مكافأة عن أربع سنوات من النجاح وتشجيعا لي كي أحصّل على دبلوم الهندسة بميزة مشرِّف جدّا.

يقطن معي صديق طفولة عبد الهادي. وهو شابُّ مجتهدٌ طموح يدرس علم الفلسفة بكلّية الآداب والعلوم الإنسانية البعيدة عن سُكنانا... المسكين، كان يذهب إليها راجِلا، ولم يقبل أبدا بأن أوصله إليها، لا بدراجتي النارية ولا بسيارتي الجديدة.

على الرغم من أنّ عبد الهادي فقيرٌ إلاّ أنّه غنيٌّ بأفكاره وقناعته وخصاله النبيلة، وليس له من عيب سوى أنّه صريحٌ أكثر مِمّا ينبغي.

عندما قلتُ له إنّني صادفتُ أجمل وأرقّ فتاة في العالم، ابتسم وقال:(هل العالم موجود؟ وما معنى الجمال؟ وكيف تفهمُ أنتَ الرّقة؟)
هذا عيبُه... عيبُه الكبير هو أنّه يتفلسف باستمرار. وحتى عندما كُنّا أطفالا، كان عبد الهادي يتفلسف.

كنتُ استضفتُه إلى بيتنا بحي جيليز بمراكش لكي أريه طيور الكناري التي اشتراها لي والدي:
 هيه! ما رأيُك؟ أليست جميلةً بألوانِها الزاهية وبتغريدِها العذب؟
فقال بنبرة حزينة:
 كيف عرفت؟ هل تفهم لغة الحيوان؟ ربّما هي حزينة وتبكي لأنّها في الحبس.
 لو رأيتَ هند، لغيّرتَ رأيك في الفلسفة؟ قلت له. فردَّ.
ـ من دون أن أراها... أنا أغيِّر رأيي باستمرار في كلّ شيء.

في لقاء جمع بين فريق النجم المراكشي لكرة اليد وفريق الأمل الرباطي بالقاعة المغطاة بحي أگـْدال، رأيُها تهتِفُ وتُصفِّق كلّما سجّلَ فريقُ مدينتي هدفا. لم يكن بجانها أحد. كانت وحيدة... بل كانتْ عديدة؛ لدرجة أنّ الجمهور اختفى في عينيَّ، وصارتْ هي الجمهور كُلّه... كانت ـ باختصارـ صورة لذيذة: ملابسها الفرنسية، شعرها الأسود الفوضوي، دقّة حروف وجهها الخزفي ـ الصيني، حركاتها الثورية...

تخطَّيتُ بعض الصفوف، وجلستُ جنبَها. آنئذٍ انتبهتُ إلى بعض النمش على صدرها... لا! كانتْ جميلة مثل حكاية من موسوعة الحكايات العالمية المختارة.

تمنّيتُ أن تدومَ المُقابلة الرياضية لأجْلِ أنْ تدوم مُتعتي بالنظر إلى صدرها العذب.

أنا شخص رضي الله عليه وأحبَّه، لأنَّ فريقنا سجّل هدف النصر في آخر ثانية من عُمْر المقابلة؛ فقامت هند متفجِّرةً من الفرحة وعانقتني...

كانتْ رقيقة ودافئة مثل كوب شاي شرع يختمر.

اسمُها بالكامل هند المغربي الجامعي الأندلسي، وهي طالبة بمعهد الدراسات الهندسية، وأبوها تاجر معروف بمدينة مراكش، ولها أخت تدرس بنفس المعهد وفي نفس قِسمها...

لم أقدر على قمع نفسي، فقلتُ لصديقي عبد الهادي الذي أحضر صديقتَه مَها إلى بيتِنا:
ـ لو رأيتَ هند، لتحوّلتَ من الفلسفة إلى الشعر. فردّ:
ـ الشعر والفلسفة هو ما أنا فيه الآن. واتكأ على مَها بقبلة.
ـ هل تسمعُني؟ سأتزوّجها. قلتُ؛ فقال:
ـ أنتَ مثل ذلك الفأر الذي سقط في غرام قِطّة...
وفجّرها ضحكة، وضحكت مَها؛ فشعرتُ لأوّل مرّة بأن عبد الهادي يحتقرني. فأخرجتُ صورة هند من جيبي وقلتُ له:
ـ انظُر! أليست جميلة وتستحقّ أن أتزوّجها؟
فأخذ الصورة ونظر إليها، ثم فجّر ضحكة أعلى وأطول من الأولى، وقال:
ـ أنتَ أحمق. هذه مُجرّد صورة.
كرهته.

في اليوم التالي، خرجتُ لبعض المشتريات، فصادفتُ هند قريبا من قاعة السينما، غير أنّها غيّرت اتِّجاهَها عندما رأتني أبتسم لها وعينايّ تُشِعّان فرحة. وعندما حاولتُ اللِّحاق بها، هرولت إلى بعيد. للحظة، شعرتُ بأنّني أصمٌّ. كانت الصدمة بالقدر الذي شلَّ تفكيري. فجأةً أحسستُ بالفراغ يملأني.

أعتقدُ أنّني بقيتُ متسمٍّراً في مكاني عدّة دقائق. وكانت هي كلّما التفتتْ إليَّ، زادتْ ابتعادا...

(أنتَ لن تعرفها أبدا إلاّ أن تبدأ بمعرفة نفسِك.) كان قولُ صديقي الفيلسوف.
عند عودتي إلى البيت، وجدتُ عبد الهادي يعزف لَحْناً رقيقا لصديقته مَها وهي تصغي له بحنان. كان والقيثارتان اللتان بين يديه على النقيض مِمّا كنتُ فيه؛ كانَ امتلاءً، وكنتُ فراغا... كان غنيّا، وكنتُ فقيرا.

الجنّيُّ استشعر ما بي. إذ غمز مَها، فقامتْ وعانقتني...
ـ أنا لا أحتاج إلى شفقة... انظر إلى صدري، هذه بصمة صدرها. قلتُ له.
فقال:
ـ المرأةُ كالبحر؛ عاصفة بعد هدوء، وهدوء بعد عاصفة، فراق بعد وصال، ووصال بعد فراق...
وما كدتُ أثور عليه بسبب الغيرة، حتى رنَّ جرس البيت. كانتْ هي: هند.
ـ هل أفتحُ لها بعد كلّ ما فعلت بي؟
ـ الحوارُ محمود ـ قال الفيلسوف ـ تحدّتْ إليها لتفهمَ سلوكَها!
دخلت هند وعلى وجهها ابتسامة جميلة، وقالت:
ـ قبل أن تقول أيّ كلمة، عندي لك مفاجأة. فعادت إدراجَها وسمعتها تقول:(هيّا؛ ادخلي!) فدخلتِ البيتَ هندٌ أخرى.
قالت هند الأولى:
ـ أقدّمُ لك توأمتي هُدى، وهي التي رأيتَها قبل قليل...
ففاجأني عبد الهادي بقوله:(إنَّ التسرُّع في إصدار الأحكام إثمٌ فلسفي) وراح يعزف على قيثارته بقوّة؛ وما أنهانا مِمّا كُنّا فيه سوى أذان الفجر...

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى