الثلاثاء ٧ حزيران (يونيو) ٢٠١١

ملامح الحيطان

حسام الدين نوالي

موجة التصفيق التي ملأت قاعة التشريف بالأكاديمية السويدية يوم السبت التاسع من ماي كانت حالة حب أليفة اتجاه الكاتب العربي «سالم العامر» الذي صعد هذه المرة لمنصة التتويج معتمرا قبعة أمريكية تداري وجهه وقميصا بألوان كثيرة. وتلا كلمته بالمناسبة:

سمراء هي من كتبت على الحائط أولا

وأنا أغرمت من بعد.

حبة طبشور أبيض بحجم «حمصة»، وسمراء ترسم على الأبواب في الزقاق الذي نسكنه علامات بخطين متقاطعين يتصورها رأسانا الصغيران علامات تدلنا على الطريق ناحية ساقية الحي، ونضحك.

صرخ أبي في المساء: (لا تفعل!)

واقترب من المنضدة الصغيرة التي وضعتُ عليها الكتاب المصوّر مفتوحا أنقل منه أشكالا مختلفة لحرف الميم إلى دفتر المدرسة، وأردفَ:

تنظَّمْ مثل خلق الله يا ولد، اُنظر إلى خربشاتك!

ونظرت إلى الدفترأردد في ذهني "خلق الله"

الدفتر لواجبات المدرسة فقط، والطبشور ليس للجدران... وااه !! .. لم يتبقّ إلا هذا يا وجه الـ..."

كنت أنظر إلى يده التي يحركها للأعلى ثم للأسفل وهو يتحدث، وأكمَلَ عقلي الصغير ما لم يقله أبي : "يا وجه البلاط، يا وجه الصحن".

لم أكن بعد أحدق في المرآة كي أتأمل هذا الوجه الذي خُلق من غير نتوءات، صفحة مسطحة بثقوب غائرة، أنظر من الثقبين العلويين وأتكلم من الثقب الأسفل، وما كان وجهي -بعد- يرعبني مثلما يرعبني وجه أبي حين يصرخ: "لاتتحرك ! "، أو وجه أمي المريع حين تصر على عدم مرافقتي لزيارة أو حفل؛ فأظل وحيدا في الزقاق بلا رفاق، أرسم منافذ لسعادتي بالطبشور والحيطان.

صرت أكتب أرقاما وكلمات، وصرت أرسم ما يشبه الإنسان والنخل والمنازل وأبوابا موصدة وأضحك.

وفي المساء يصرخ أبي "لاتفعلْ !.. ياااه.. يا وجه الـ... "

وأُكملُ العبارة.

سمراء كبرت..

وتغير كل شيء.

لكني أذكر أنها هي من كتبتْ على الحائط أولا. وأنا أغرمتُ من بعد، وصرت أرسم قلوبا مطعونة، وأكتب حرف السين كبيرا بالأحمر، وحرف الباء يقطر دما.. ثم اختفي من الزقاق كي لا يراني أحد. ولم أعرف أبدا أن لا أحد كان يقرأ حرف السين ولا الباء على الجدران لأن خربشاتي لا تشبه الحروف على الإطلاق. ولذا كنت فيما بعد أخجل كثيرا من دفاتري و"خطوط الدود" التي كنت أرسمها – مثلما يقول أستاذ التاريخ ساخرا، وأردد بعده في صمت "خطوط الدود" وأنكمش.

كانت حصة الألم تكبر، وتتراكم مرارة الخط حتى غدت الكتابة عادة سرية أتفنن في إخفائها، وأحرص ألا يطلع أحد على ما أخطه إلا في أوراق الامتحان..

بالمقابل..

فإني في قمم خجلي من الحروف ومرارتها، وبفعل تراكم الألم تدربتُ على بناء قناعة أيقنتُ مع طول الوقت وميولاتي الفكرية والابداعية أنها "الحقيقة". أحاسيس تضخمني.. أحاسيس مبعثها وجهي الذي يشبه البلاط ويشبه الصحن.. وجه يأبى النمط الواحد، فأحمد الله وأفخر.
فبإمكاني في أوقات كثيرة إعداد مسحوق الطبشور وملمع الأحذية وفرشاة دقيقة لأمارس "لعبة الملامح" التي كانت مساحة للتجريب والتجاوز، والتي ستغدو فيما بعد مساحة للإخفاء التواري.

كنت أقف قبالة المرآة كي ألبس بفرشاة دقيقة ملامحَ أحددها سلفا، وأخرج للشارع كل مرة بوجه.

ولأني بدأت أنشر نصوصي الإبداعية الأولى في جرائد ورقية ومواقع رقمية وأحتاج بالضرورة لصورة مرفقة، فإني نبشت عن صور المبدعين في كتب التراجم والبيبيوغرافيات وسهرت كثيرا وعملتُ واجتهدت لأكثر من خمس سنوات في البحث والمقارنة ومراجعة الصور والكتب والمجلات كي أستخلص الملامح المشتركة العميقة للمبدعين حتى استقر مجهودي على وجه المثقف الذي ألبسه الآن رغم علاته، وأرسم ملامحه بخلطة الطبشور وملمّع الأحذية وألبسها مع نظارات ذات إطار عريض، ويَدٍ تحت الذقن في لقطة هي التي لازمت نصوصي كما تعرفون.

الآن أتأمل

كتابتي وأتأمل وجهي فأبتسم.. كم تغيّرت الأشياء منذ "سمراء" !!.

فتماما -كمثل لعبة الملامح- صرتُ أدمن "لعبة الكتابة" بالموازاة وأروض أصابعي.. وعلّمتني الأيام التي ققضيتها في التدريب أن أتفاعل مع القلم بصدق. فليست الحروف في نهاية المطاف غير دفقات تتناغم ودفقات الإحساس لحظةَ الخط. وهذه الخلاصة رغم بساطتها الظاهرة فهي نتاج تجربة وممارسة وتفاعل وانفعالات حقيقية لتمارين مضنية لسنوات عديدة منحتني ارتياحا داخليا وهدنة مع المسودات...

وطبيعي أيضا أن جمالية الخط انتقلت بشكل حتمي إلى اشتغالي بالفرشاة، فقد صرتُ قبالة المرآة أرسم الملامح البارزة مع الظلال بترميد الجوانب والثنايا، وصرتُ أٌقوِّم الأجزاء الدقيقة نهاية الحاجب أو انحناءات دقيقة على جانبي الأنف وامتدادات العينين بشكل أجمل وأدقّ وأذكى.. ثم أتأملني مليا وأخمّن:

من أُشبه !؟ ثم لا أجيب تحديدا. لأني لم أشأ أبدا أن أشبِه غيري، وبالضبط لم أشأ أن أشبه غير هذا المبدع الذي يسكن خيالي.

لكن الذي وقع هذا الصباح في الطريق إلى هنا لم أتوقعه أبدا..

كان الضباب يغطي مدينتكم التي لا تهدأ، ووددت أن أصل في الموعد كعادتي، فاستقلت سيارة أجرة وأسرعت متأملا شوارع المدينة التي تمرق عبر زجاج النافذة.

وصلت قبل لحظات، وفي الطريق بين البوابة والقاعة، على طول الحديقة المرتبة بعناية، لم أتوقع الذي حدث.. ولم ينتبه أحد في الداخل أن مطرا عنيدا حاصرني، وحاولت الركض لكنه كان أسرع و أقوى، ودخلت المعبر الخلفي للقاعة والمؤدي إلى المنصة ولا شيء صرت أملكه أو أفكر فيه غير هذهع القبعة، واعترافاتي وأنتم.. "

رفع السيد سالم العامر قبعته، وصرخ الذين كانوا أقرب إلى المنصة وذعر الجميع وتدافعوا باتجاه الباب نحو الحديقة، فيما لا أذكر غير طيف صورة شبح كان قبالتي بثقبين علويين وثقب في الأسفل يتحرك ليقول شيئا، وخليط ألوان سال على صفحة وجه مسطح مثل بلاط.

حسام الدين نوالي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى