الأحد ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم لمى نور الدين محمد

بلاد الباق باق

يا بني أمتي نصيحة خِل ّ ٍ مخلص ٍ .. في أموركم قد تبصّرْ
لا تُضيعوا الوئامَ ..لا تضمروا الحقدَ فعقبى الشقاق ِ ذلّ ٌ مقرّرْ
وثبة ً للعلاء ِ .. يا أمة َ الشرق ِ فما الحُرّ غيرُ من يتحرّرْ

"الشيخ صالح العلي"

عندما بدأت أتكور، و أصير.. بدأت حواسي بالنمو شيئاً فشيئاً، كانت "حاسة السمع " هي الأولى.

في رحم الوطن الأغلى، سمعت دقات قلبها كأول صوت يخفق في جسدي الجنين، طويت أجزائي الغضة، و جلست أستمع بترقب " تك .. تاك ، تك.. تاك "، و خوفي يألف الصوت رويداً رويداً، قبل أن يسمع صوت صاحبته تناديه "ماما"، و تحدثه قبل أن تراه.
ذات ساعة، و كنت أستمع إلى نفس النغمات، حصل خلل ما.. سمعت صوتاً غريباً يدخل بين "التك" و "التاك"..تقاتلت الأصوات مع بعضها، و قبل أن انتبه تماماً لما حصل، كانت أمي قد رحلت.

رحل وطني الأول لتأخر ما في سماع المشكلة، الأوطان ترحل أيضاً إن نسيتها أصواتها المتحاربة.

أنقذوني وقتها- كما يقول أبي- بمعجزة، لذلك كنت (ابن السبعة شهور).. أفتح حاسة أخرى و أبصر وطناً جديداً: بلاد (الباق باق).

عندما قررت أن استخدم حاسة السمع عزمت على استخدامها في كل الاتجاهات، فليس من المعقول أن أسمع كل صوت قادم من البحر، و أهمل أصوات السهل أو الجبل.

بلاد( الباق باق) فيها من كل اتجاه مئة و اضربوهم بألف و (بقبقوهم) بمليون، إذا كنتم ممن يكرهون الرياضيات فعددوا اتجاهات (الباق باق) بعدد أنفاس البشر، لذلك فمن المهم بمكان أن أسمع الجميع، و أكون على قدر تلك الحاسة من المسؤولية و لا أفصلها عن عقلي، بمعنى آخر ما فائدة سماع صوت دجاجات جارتنا ( أم درويش) و هي (تبقبق) خوفاً من الذئب من دون أن أصرخ عالياً:

 يا "درويش" ..الحق دجاجات أمك!

من غير المنطقي ألا أفعل ذلك إلا في حال واحد: أكون قد سرقت دجاجة في اليوم نفسه، و هجوم الذئب سيذهب بآثار جريمتي...

قبل أن تشكوا في حبي للشواء سأناديه:

 يا "درويش"...

بعيداً عن الذئب الذي أكل الدجاجات، و لم يترك منها سوى العظام، و صدى (بقيقها) في إذن "درويش" النائم، فبلاد(الباق باق) اكتسبت اسمها من اسم (بقبق) آخر تماماً، وله من المعاني الكثير، أهمها قدومه من حالة (البقبقة) التي تصبح قدماك عليها بعد (فلقة) معتبرة في احدى دوائر الأمن، أو بعد درس في (الكتّاب) لم تكن فيه بحافظ لكلام الله..
ففي بلاد (الباق باق) يا عزيزي الجميع يعرف مصلحتك إلا أنت، الجميع يتكلم بلسان حال (الله) إلا الله.

في (الباق باق) نحن نعيش في زمن الكراسي، و خطابات الجمعة.. في زمن نستجدي فيه مرجعيّة متمثلة بشخص أو حزب أو مؤسسة، كيف لا و قد غيّب الاستبداد (غالبية) مرجعياتنا في السجون أو في بلاد المنفى...

نحن في بلاد (الباق باق) الممتدة من المحيط إلى الخليج لم يتركوا لنا سوى شيوخ الجمعة، و وعاظ الأحد..وضعوا المثقف مع الحثالة في نفس القنينة الإعلامية، و أقنعوا الشعب الطيب بالتهم الباطلة التي لفقوها..
(القنينة) بقيت و نحن اختنقنا.

لم نعتد وجود (مرجعيّة) في الحاضر، فعدنا إلى تاريخنا نتحزب( إلى) مرجعياته، نواليها، و نقدسها، من دون أن يخطر في البال ما الذي مسخ حاضرنا و أدماه.

الكراسي تشبه التعصب الديني.. لادين لها و لا طائفة..لا ترى إلا بعين واحدة.. و الحر الحقيقي هو الذي يترفع بنفسه عن جميع هذه الأصنام.

نحن جيل لولا عقل أمهاته، و شرف آبائه لكان الآن في المراقص أو في خلايا إرهابية تحت مسمى ديني.
مدينون نحن لأمهاتنا.. لن نقبل بتقليل شأن المرأة.
مدينون نحن لآبائنا.. لن نقبل أن نبيع ترابنا.

أحفادنا سيسألون عمّا حصل، سنكون مسؤولين أمام "الله" و أمام ضميرنا عن حفيد مشوّه العقل و القلب، عن حفيد يخجل من تاريخ (القابيلات) و (الهابيلات)، هذا الزمن هو زمن الشعوب، الخيار لها، فإما أن تتدبر أمر خجلها أمام أحفاد مشوّهة نفسياً، و جسدياً، تدرس تاريخ (عشائر) العرب و مهازلهم، و إما أن تقف بقوة لتقول :
نحن أجيال صنعت حريتكم بعد عقود من الذل، نحن قلبنا بلادكم من اسم(بقبق) إلى فعل (يبقى).

نحن في زمن الأصوات وحيدة الطور، يعني (التك من غير التاك) أو العكس.. علينا أن نسمعها كلها لأننا لن نضع يدنا على الخلل ما لم نسمع الجميع، و لن نكتشف الحقيقة مادمنا نسمع موجة واحدة، يجب أن نكون معاً كأبناء وطن واحد، و إلا سيرحل الوطن.

الأول لمع (صباطه) و هو يشير إليه:
 من تحت (هالصباط رح ياخدو) حرية، أكلوا و (بزقوا) بالصحن..تك..تك..تك...

الثاني كتب على صفحته على (الفيسبوك):
 لو قبل الثوار تقسيم الاستعمار الغربي للبلاد العربية بحسب طوائفها و أديانها و قومياتها.. كان وفر علينا هالأزمات.. تاك..تاك..تاك...

الثالث، (نكش) أنفه قليلاً ثم قال لي:
 الدولة الناجحة هي دولة بلا معارضة، (شوف) دولتنا مثلاً.. لولا (الحشرات اللي عم يوزو الشعب، ما كانت نزلت و لا نقطة دم)!..تك..تك.. تك...

أما الرابع فنظر إليّ بتجهم:

 بتصلي ؟!

 لا

 بتصوم؟!

 لا

 ما بتعرف الله و بدك تعرفني.. روح الله يهديك.

و عندما أخبرته أنني من أب مسيحي و أم مسلمة أجاب:

 و ابن حرام كمان .. اللهم سامحني على ما اقترفه لساني بحديثي مع كافر...تك دوم تاك، تك دوم تاك...

الخامس كان( أنا ).. يشبهني بنحولي، و بؤسي.. حفر الزمن على وجهي مقطوعة كاملة من( التك و التاك)، و مازلت أسمع جميع الجمل وحيدة الطور، و أخضعها لسلطة عقلي.

(أنا) لا أنتمي لأية طائفة، لأنني يا أحبتي ما أزال جنين الشهر السابع، و كيف لجنين أتى قبل الأوان و حمته الحياة أن يتحزب في كيانات ضد الحياة.
.
قلبي الصغير الجائع يرفض كسرة خبز مغمسة بالذل، و حبيبتي التي رحلت و ترحل مع كل صباح أغنى و أصخب لن تدفعني إلى بيع ضميري وشرفي.

الخامس.. كان (أنتَ)، يشبهك بعزتك، بكرامتك، بإيمانك بوطنك، بأملك بغد أفضل، بحبك للجميع، بحزنك على الجميع.. دمهم دمك، و ألمهم ألمك.. تبكيهم في كل بقاع الكعكة التي صارت كل قطعة منها مثقوبة بسكين.
تعددت السكاكين فوق الكعكة فكيف ستأكلونها أيها الطغاة!

الخامس.. كان (أنتِ) إنسانة مثلي.. عيناها كعيني أمي، و قلبها عصفور صغير يحمل السلام أينما حلّ، قلبها الذي سيكون الصوت الأول ل(هو) آخر سيستمر بدقاته العالية، صوتها لم و لن يصبح (عورة) طالما بقيت وطناً..

الخامس كان (أنتم) ، كان (أنتن)، شعب واحد و أخوة منذ الأزل.

( تك.. تاك..تك ..تاك): تبقى معاً، لن تنتصر إلا معاً، و لن نقبل أن يتشوه لحنها.. و ستستمر الحياة غصباً عن جميع الأصوات وحيدة الطور.

يتبع...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى