الثلاثاء ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

الوداع

تصدر من زوجتي سناء، آهات مسموعة متقطعة عندَ الصباح الباكر، وحيث الشمس مازالت لم تتوسط كبد السماء بعد، تلكَ الإنسانة الرقيقة ذات العيون الخضراء الجميلة والشعر الخفيف الطويل المتموج، الذي يشبه لحدٍ ما نافورة وهي ترش الماء بيضاء البشرة، ولها سحرٌ خاص، خارق في كسب ود الناس بسرعة ومجاملتهم بشكل لا يصدق، تعشق الأطفال حد الجنون، بحيث يصعب عليّ شرح ذلك الحب بالكلمات التي أعرفها! عمرها لم يتجاوز الثالثة والأربعين لكنَ طباعها كانت توحي للمرء بعد معاشرتها بأنها مازالت طفلة في الرابعة من العمر، وعندما تتكلم، يصدق من يسمعها لتبدو وكأنها تعتذر!

فزعتني أصواتها التي بدأت ترتفع، نظرتُ لها وأنا في حالة من الذهول والهلع لما يحصل، رأيتها تتوسط السرير وهي جالسة كما يجلس التركي، تمسك رأسها براحة يديها وكأنها تلتقطه بعد أن أنفصلَ عن جسدها !، لقد كانَ منظرها، يجلب للمرء السكتة القلبية، فسألتها باستغراب ما الذي حصل؟ وهل تعانين من مشكلة؟ وكيفَ يمكن لي مساعدتك.. لكنها تجاهلت توسلاتي كعادتها، وبدأت بالبكاء وهي تندبُ حضها العاثر وتقول بأسى: أنني إنسانه بائسة، وليسَ لدي أي حظ في الحياة ولا نصيب من السعادة التي أسمع فيها ولم أتعرف عليها، ثمَ على صوتها وبدأت بالنحيب وكأنَ شخصاً عزيزاً لها قد توفي تواً، فأردفت لا أريد أن أحيا بعد اليوم، ثمَ قالت بصوت مرتجف متهدج وهي في حالة من الهستيريا: أريد ببساطة أن أنهي حياتي، أن أموت، فلا أطمحُ بالحياة بعد وبهذا الشكل، لا.. لا أريد.. ثمَ أجهشت في البكاء المر الذي يقطع أوصال من يسمعها.. بعدَ أن عادت لتكرر الكلمات التي قالتها قبلَ لحظات.. أنا إنسانه بائسة، تعيسة، لا أفقه من الحياة سوى عذابها، وليسَ لدي أيّ طموح ولا حتى بصيص أمل يجعلني أعيشُ من أجله.. فقاطعتها وتقربت منها وسرحت شعرها المائي، وحاولت تهدئتها فقلت لها: عزيزتي ماذا تقولين.. ما الذي أصابك؟،فأنا لم أعهد فيك هذا التشاؤم من قبل وخاصة عندَ الصباح، فنحن وكما ترين مازلنا في السرير ولم نترجل منه بع ! هدئي من روعك أرجوكِ واشرحي لي بهدوء الموضوع، كي يتسنى لي فهمه ومساعدتك..

لكنها أكتفت بأن أدارت لي ظهرها وهي تبكي وتنتحب وكأنها في مأتم عربي! فقلت متردداً كالذي يعتذر، سأتصل بالطبيب حالاً، ما دمت لا تجيبينني ولا تحبين أن أساعدكِ..،قمت من السرير ونظري لا يفارقها، لكنها شعرت فجأة بالحرج ربما، فقالت وهي تصوب نظرها دونَ أن تطرف، إلى اللوحة الزيتية المعلقة على الجدار، الأصلية للرسام الهولندي، التي زرعت فيها الطبيعة الحانية في فصل الربيع وطفلين يتنزهان وهما متشابكين الأيدي، وقالت وهي مازالت تنظر إلى اللوحة، وبصوت غير مسموع تقريباً.. لا داعي، ثمَ صمتت، لكنَ بكاءها لم يصمت!
أستغفر الله، قلتُ متذمراً قليلاً، ماذا عليّ إذن أن أفعل؟ قالت متسرعة كالشخص الذي لا يخشى شيئاً أو حتى لا يهاب الانتحار: لا شيء، لا تفعل شيئاً، وأعقبت، أتركني أرجوك، فما أعانيه قد لا تقدرهُ حتى لو فهمته، أتركني، أتوسل إليك، ثمَ أجهشت في البكاء مجدداً.. لكنَ القلق بات يؤكلني

فقلتُ لها برقة لم أتعوده: زوجتي الحبيبة، ما عليك فقط هو أن تثقِ فيّ، وتقولي عما تعانين منه، وأنا سأتكفل بكل الأمور الأخرى، أوعدكِ بذلك، فأردفتُ كالواثق من نفسه، لا تشغلِ بالكِ أبداً، لا تحملي أي هم، ثمَ أنا لا أطلبُ أكثر من هذا، فشرعت وقلت لها بلهجة متوسلة لأبدو كالشحاذ: بالله عليك هل هذا كثير؟!

تغيرت لهجتها وأصبحت عصبية المزاج فجأة، لكنها ترددت للحظات، وهي ترتجف وكأنها تعاني من الحمى فقالت: الموضوع لا يخصك، وصحتي جيدة، ولا أعاني من أي الآلام عضوية، ثمَ أردفت بإصرار، ومعَ ذلك أتوسل إليك وأقول أتركني لوحدي الآن، أرجوك، وغاصت في السرير مرة أخرى لتبدو وكأنها ليست موجودة، إلا من آهاتها وزفراتها الحارة العالية! وبعدَ لحظات قليلة معدودة، رفعت رأسها وكأنها تذكرت شيئاً تريد أن تقوله، فأردفت ليأخذنني الشيطان، فأنا وكما قلت لا أريد الحياة، بل أمقتها وأرفض الخوض في مضمارها، ثمَ وبكل ما تملك من إباء وحزم وصرامة، وبعد أن جمعت قواها، فصرخت مصرحة بكل إخلاص: أريد أن أقتل نفسي، وأجهشت في البكاء وهي تردد لا أريد أن أعيش، هل هذا مفهوم يا رجل، وهي تنظر لي بأسى ودونَ رحمة، عندها أشارت لي بأصبعها الصغير الرفيع الجميل الذي يشبه إلى حدٍ ما ميل الساعة المنضدية التي نمتلكها في غرفة الجلوس!،وقالت بطريقة آمره يملئها الحزن: أجلب لي ورقة وقلم، ثمَ أردفت مباشرةً أريد أن أكتب وصية، وأبننا الصغير آدم سيبقى أمانه في عنقك، وليسَ لدي أمنيةٌ أخرى أود تحقيقها أو تسجيلها، سوى أن تربي أبننا على الفضيلة والأخلاق الحميدة ولا تجعله يحتاج شيئاً، أرجوك أوعدني بذلك، بل أقسم لي الآن وأمامي، بأنك ستنفذ وصيتي هذه بحذافيرها، هيا.. أوعدني أرجوك.. ثم بدأت تصرخ بشكل غير مألوف، مما جعلتني أفقد توازني المعهود ورصانتي وحكمتي التي يشار لها بالبنان في المواقف الحرجة والصعبة، ولم أستطيع التركيز فيما يجب أن أفعله، وشجاعتي هذه المرة قد خانتني تماماً وكما يقال: المرء يكون قوياً وأبياً وحكيماً عندما تكون المشكلة لا تخصه! وما أن يقف في المواجهة والموضوع يتعلق به شخصياً، فسرعان ما يذوب لوعةً وحرقة، فما أغرب طبع الإنسان هذا!. فبقيتُ جامداً كالثلج بلا حراك، وأنظر لها وقلبي يدق بقوة ليبدو وكأنه يود أن ينفجر أو أن يخرج من مكانه! في هذه اللحظة بالذات رنَ جرس الباب بصورة متواصلة وكأنه صوت إنذار لسيارة إطفاء مما زادَ موقفي تعقيداً وارتباكاً وحرجاً، هرعت لفتح الباب، وإذا بابني آدم يدخلُ عائداً بعدَ أن غادرَ المنزل قبلَ عشرين دقيقة تقريباً متوجهاً إلى مدرسته، وقلت له متسائلاً باستغراب شديد، وملامح الحيرة وشعور من الغضب والرجاء رسمت على وجهي المتعب الناعس والذي لم أغسله بعد: ما الذي جعلكَ ترجع مجدداً يا آدم؟ وهل هناك مشكلة؟

تركني كالتمثال واقفاً عندَ الباب ولم يرد على أسئلتي، ليتوجه راكضاً، مسرعاً إلى أمه التي مازالت في السرير وعيونها تذرف الدموع الغزيرة بكل سخاء.. وهو يقول لها مبتسماً: ماما، معذرةً، لقد نسيت أن أقولَ لكِ معَ السلامة وأنا أغادر إلى المدرسة، لقد كنتُ في عجلة من أمري.. ولكني.. ولم تنتظر زوجتي أن يكمل آدم كلامه، لتخطفه من الأرض بحركة مذهلة، سريعة وخاطفة، بعدَ أن قفزت من على السرير كالأرنب لتضمه إلى صدرها وتقبله بحرارة وكأنها لم تراه منذ سنيين وهي تبتسمُ ضاحكة كالأطفال وتقول: لو لم ترجع الآن يا آدم لقتلت نفسي.. بينما صدحت ضحكاتها المرحة، الفرحة في كل أركان المنزل، بعدَ أن عادت لها الحياة وبُعثَ فيها النشاط والحيوية فجأة، لتبدو وكأنها في اللحظة التي قالت أمام الشيخ الذي يزوجها: نعم أقبل به زوجاً..

يزرع آدم قبلة على يدها الناعمة الملساء التي تشبه سطح الزجاج وهو في الحقيقة لم يفهم كل ما كانَ يدور من حوله، لأنه مازالَ لم يتجاوز بعد عامه العاشر!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى