الأحد ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم فلاح جاسم

الرَصَاصة

كان الثلاثة يلتقون بشكل شبه يومي في مقهى الحارة، الذي لم تتغير لوحته منذ ما يربو على ثلاثين عاماً، واسودّت، حتى أنك لا تستطيع تمييز ملامحها، وأصبحت إزالتها أفضل من بقائها، لكن العجوز صاحب المقهى لم يفكر بذلك، ولا ينوي القيام به. كثير منـّا يألف أشياء مشابهة لتلك في حياته؛ من أوراق، وبقايا أجهزة، وبقايا كتب علاها الغبار. لا يفكر برميها لسبب لا يستطيع برهنته، لكنه يقول لنفسه: "إذا لم تنفع، فلن تضرّ". ويكون هذا صكّ تملك تلك الأشياء لجزء من البيت.

يجلس الثلاثة إلى طاولة مربعة في الزاوية القصيّة، لا يلعبون "الطاولة" أو "الدومينو" كما الآخرين، لكنهم يغرقون في نقاش طويل، حول ما تناولته الصحف المحلية الرسمية، وقلبها للحقائق، وتصويرها لجميع الخيبات على إنها إنجازات رائعة، ثمرة عبقرية فذة. ماهر صوته خفيض، ناحل الجسد، طويل العنق، شعره خفيف من الأمام، ناتئ الجبهة، ذو أنف دقيق، يمسك كأس الشاي بأنامله الطويلة، ويقول: يا جماعة، مشكلتنا ليست في الفقر، أو ضيق ذات اليد، المعضلة الكبرى هي انتفاء الحرية، القدرة على التنفس بدون رقيب، ألا ترون معي إن الإنسان الخائف، المقموع ممسوخ؟ ليس له القدرة على الإبداع، لأن بيئة الخوف ليست تربة خصبة للإبداع، لكنها أرض سبخة ينبت فيها السيئ من النبات، الذي لا ينتفع به بشيء.
يقاطعه سالم؛ ذو الجثة الضخمة، وقد فتح أزارير قميصه حتى في برد الشتاء، لأنه يكره الاختناق، ويودّ أن يتنفس بحرية، ينفثُ دخان سيجارته، ثم يلتفتُ حوله قائلا: ماذا تنفع الحرية إن لم تجد خبزاً تأكله؟ هل شعورك بالحرية سيسد أود أسرتك؟ ويسدد فواتيرك المستحقة، وخاصة تلك التي يوجد بها ضريبة على الضريبة نفسها؟ وهذه من بركات السيد وزير الاقتصاد وعبقريته، حتى تتقلص المديونيات الخارجية للدولة، ويصبح الشعب كله متسولاً داخل وطنه، وبذلك يسهل حكمه، إنها فلسفة، وسياسة، تجويع الناس حتى لا يفكر أي واحد منهم سوى بقوت يومه، كما يقول جدي –أطال الله في عمره– : "جوّع كلبك يلحقك"، لكنهم نسوا بأن الشعب أذكى من ذلك بكثير. أليس كذلك يا محسن؟ ظلّ محسن صامتاً كأنه يفكر في شيء آخر، لا ينظر إلى أي من رفيقيه.

التفت إلى الوراء شخص يجلس إلى طاولة مجاورة لهم، متشحاً بابتسامة مصطنعة، طالباً ولاعة سجائر، أشعل سيجارته، ثم أعاد الولاعة، وشكرهم. زادت وتيرة النقاش بين الأصدقاء، كالعادة وعلت أصواتهم، التفت إليهم الشخص عينه قائلا: "روقوا شباب.. تحبوا أطلب لكل واحد نفس أركيلة يروق أعصابه؟ بعدين يا جماعة هالدنيا كلها مو مستاهلة الواحد يحرق دمه مشانها، والدولة ماشية بطريق الإصلاح، قريبا تنحل كل المشاكل ويتحسن المستوى المعيشي، وكل شخص بالمدينة يصير عنده بيت وسيارة، وكل فلاح يصير عنده تراكتور يحرث أرضه.. بس بدها صبر، صدقوني الغرب هو سبب كل المصايب، وإحنا دولة مستهدفة". قاطعه ماهر بحدّة، قائلا: يا رجل، أنت تضحك على نفسك، أم تضحك علينا؟ للصبر حدود، والمسألة سهلة، نريد أفعالاً، لا أقوالاً، طول انتظارنا لا يعني أننا لا نفكر ووَضعنا أدمغتنا في ثلاجة.

توقفت سيارةٌ سوداء من ذوات الدفع الرباعي، ترجّل منها ثلاثة أشخاص، من ذوي العضلات المفتولة، يرتدون لباساً أسود، طالت لحاهم حتى اختلطت بشواربهم، جرّوا الثلاثة بكل عنف، يلكمونهم بسرعة خاطفة، لا يدخرون عضوا من أجسادهم، حشروهم كالبهائم في السيّارة. في اليوم التالي شيّع الأهل جثث هؤلاء "الزعران"، بعد أن وقعوا تعهداً بأن اثنان منهم قتل أحدهما الآخر، وثالثهم انتحر. التفت العجوز إلى لوحة المقهى المتهالكة، صعد إلى السطح يعاينها، محاولاً فكّ أجزاء منها، سقط برصاصة قنـّاص؛ لأن في زاوية اللوحة صورة صغيرة لرئيس الدولة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى