الاثنين ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١١

جماليات الوصف في رواية زنابق تحت الجليد

سلوى عباسي

تجسّد هذه الورقات النّقدية محاولة للجوس في دواخل العالم الفنّي لرواية زنابق تحت الجليدالتي ألّفها الكاتب التّونسي عبد الرّزاق السّومري*، و هو في توظيفه المميّز لجمالية الإحالة على الواقع، واعتماده المخصوص على تقنية الوصف الحيّ *،كأنّما قد أرادها أن تكون من النّوع الواقعي الجديد الذي تنداح فيه لغة السّرد الرّوائي عن اللّهجة التقريرية التسجيلية الفجةّ، التي عادة ما تسطع من كتابات الواقعية،على أساس أنّ الالتزام بتمثيل الواقع هو مبلغ همهّا، وأبرز مقوّم تستند عليه في خطابها. إذ به تتشكّل ماهيّة الأحداث،و من خلاله تَرتسم ملامح الشخصيات، وإليه توكل عملية التصوير الفنّي برمّتها و يسلّم وفاض العالم المتخيّل، بشتّى مكوّناته المرجعية، وخصائصه النّفسية الاجتماعية الثّقافية التاريخية التي قد تميّزه هذا العالم عن غيره من العوالم.

فلا شكّ في أنّ الأدب الواقعي، بمختلف أجناسه لا يعترف بغير الواقع مرجعا و بغير حوادثه ومشكلاته وقضاياه موردا،منه يغترف كتّاب هذا الاتّجاه موضوعاتهم، وعلى غراره، ينسجون خيوط حبكاتهم ويختلقون صيرورة الوقائع المسرودة على مدار النصّ، ويتخيّلون معالم الأطر الزّمانية المكانية، وأشكال التفاعل بينها وبين الشخصيات. إنّ الواقع ،باختصار يطوّق كلّ ما يمتّ بصلة إلى ماهيّة المرجع الحكائي أو عالم القصّة.

غير أنّ واقعية السّرد الرّوائي،كما بدت لنا في هذا العمل الإبداعي الذي نحن بصدد قراءته وتقديمه ليست واقعية تمثيل مباشر للمرجع بما هو واقع، وإنّما هي واقعية توهم بأنّ ما جرى تصويره على أنّه واقع في عالم المعيش اليومي لمجتمع الكاتب، هو في الحقيقة واقع ذاك النصّ وعالم تلك الرّواية الذي لا يخامرنا أدنى شكّ في أنّه قد وقع فعلا.

وعلى أساس ذلك، كان تعويله الواضح على تقنية الوصف الحيّ التي ما برحت تواكب سيرورة السّرد، ملتبسة بأجل ّمقاصد الرواية الجمالية،وهي أن تُقلب الإحالة المرجعيّة المباشرة على الواقع إحالة إبداعية على عالم إنساني، شديد التناغم والانصهار في مكوّناته التخييلية والمرجعيّة التي جعلته لا يعدم صفة الجمال الفنّي، رغم محايثته اللّصيقة لأرضية الواقع البشري الحيّ واصطباغه العنيف بآلامه وقبح معاناته وصخب تناقضاته.

كلّ ذلك، لأنّ القصّة التي إليها يرتدّ خطاب السرد الرّوائي وعليها مدار التصديق والتّشويق معا،كانت، قد اكتملت في ذهن مؤلّفها كيانا ّ حيويا، الحياة فيه أقرب ما تكون لمعاني أخرى مناقضة لها تماما، كالموت والاستبداد والقهر والجريمة.

فما أشبه الرّواية بالحياة في تناقضاتها ومفارقات حوادثها العجيبة، حينما يغدو الشيء ونقيضه صنوين لايفترقان في التعبير عمّا جرى،أو يمكن أن يجري. لقد أحكم الخطاب السردي نسج خيوط حبكته وفتل دسيس أحداثه عندما جعل الرّواية تبدأ من حيث انتهت القصّة، قصّة شاب قروي يدعى علاّوة حامل لوعي بسيط يجعله في الغالب يصغي بسذاجة إلى أحاديث الآخرين ، كان عمله حارسا لمخزن المسؤول عن البلدة ماجد وتواجده على مسرح أحداث وحوادث كثيرة متشعّبة عاشتها البلدة مدعاة لانخراطه في شبكة معقّدة من العلاقات المباشرة وغبر المباشرة مع معظم شخوص الرّواية ( مريم واللاّفي والسرجان وعاشور و فرجاني وموسطاش وغيرهم …) فكان يحضر حينا ويحتجب أحيانا فاسحا المجال لدوائر من القصص،يضمّن بعضها داخل بعض،دون حاجة فعلية إلى حضور سارد جديد في كلّ مرّة ويفتح بعضها على بعض، دون أن يستشعر القارئ قطيعة أو فجوات يتفصّى بمفعولها خطاب السّرد عن مرجعه أي عن عالم الحكاية الأصلية كما يجدر بها أن تكون قد وقعت.

،فإذا قصص ذاك العالم تستحيل غمامة من الذكريات الأليمة، القاسية في معظمها تتجمّع وتتكتّل ثمّ تذوب كدوائر تبغ علاّوة المحروق، حيث تنبجس له منها الأشياء المنسية وتدهمه الأطياف والأشباح والكوابيس، لتصبح كلّ قصّة جزءا من أجزاء ذاك العالم الإنساني البسيط،البائس،المثير، في آن واحد ، لأنّ السّرد يسعي بكلّ ما أوتي من حيل الاستذكار والاسترجاع والتكرار وكسر خطّية الزّمن وتهشيم سيولة الأحداث بالوقف والوصف المشهدي أو الحواري إلى مواطأة ما جرى وملاحقته بكلّ أمانة وصدقيّة.

لقد تفنّن الكاتب في لعبة الظهور والاختفاء، لعبة الشدّ والجذب، فكان يتعمّد إبقاء أنصاف الأحداث الكبرى منقوصة، ثمّ يسعى إلى استكمال بقيّة من بقايا قصّة تعلّقت بحياة إحدى الشخصيات يشرع السّرد في حكيها، لكن سرعان ما يغادرها إلى أخرى، حتّى يكاد ينسيك الأولى التي تظلّ منقوصة، مبتورة، لا نعلم نهايتها ولامآل فواعلها،إلاّ بعد لأي (كقصّة مقتل ابنة السرجان وقصّة انتحار مقداد و قصّة مريم زوجة ماجد وقصّة الغانية زهيرة مع اللاّفي المناضل وما فعلته لتخليصه من مؤامرة الطاغية عاشور، ثمّ سرّ اختفاء اللاّفي المؤقّت فالدّائم …)
فجميعها أسرار هذا البلدة الشمالية قد دفنت تحت الجليد، ثمّ شاعت وتفرّقت بين أرجائه، كالصرخات المكتومة، تتستّر على جرائم الواقع الإنساني الموصوف ومظالمه الاجتماعية السياسية، الغارقة فيه، حتّى النّخاع.فكأنّها أشلاء هذا العام المتشظّي المنشطر المطحون تحت وطأة ما شهده من أحداث، تفوح بروائح الجريمة والعنف والمأساة (جرائم سي ماجد المسؤول ضدّ أهالي البلدة، جرائم كثيرة تُقترف هنا وهناك، قتل واضطهاد واغتصاب، وانتحار وفساد واستغلال نفوذ وتجويع وتهديد، مراء اجتماعي، تخلّف فكري، ثرثرة،صمت متواطئ أبشع من كلام… كلّها وقائع تصف قبح هذا العالم الذي يقدّم نفسه موضوعا للجمال، في ذات الوقت الذي يحمل فيه آثام الواقع البشري ويدلح بأوزاره دون خوف أو كذب أو ستوق، إنّها الواقعيّة كأجلى ما تكون.

لقد اكتملت قصّة الزّنابق حكاية،قبل أن تولد خطابا روائيّا، يروي قصّة تلك القصّة،على نحو ما مطوّل، رائق، نزق، خطر، يعتصر الأمزجة والنّفوس والطّباع وأنواع السلوك الإنساني الحيّ وظواهر الحياة، التي قد نألفها أولا نألفها، فنجدها قريبة مأنوسة أوغريبة عجيبة ليعطي في الأخير أثرا يسمّى رواية*.

إنّ قصّة الرّواية تقبع في خلفيّة الكاتب الرّوائي مرجعا واقعيا حيّا، يمدّ في ذات الحين جسر المطابقة بين ما يكون قد وقع وما يجدر بنا أن نصدّق أنّه قد وقع. فتغدو الحكاية هي نفسها المحاكاة حسب قولة النّاقد الفرنسيجيرار جينات التي تخطّى بها قضيّة التطابق الانعكاسي المباشر بين الأدب والواقع، كخاصّية طالما لاحقت السّرد الروائي وغيره، مقرّرا، على العكس من ذلك أنّ مسألة المحاكاة والتقليد مسألة مغلوطة من أساسها، مفروغ منها أصلا، لأنّ الخطاب السّردي - لو اعتمدنا ثنائية بنفنيست خطاب قصّة لا يعدو كونه ضربا من ضروب الكناية عن ذلك العام الحكائي المحاكى،فقوامه التجاور والترادف بين الخطاب والقصّة، أي بين السّرد ومرجعه المتخيّل الذي يلاحقه ويواطئه ، واقعيا أ كان، أم خياليا.

فما قد يفترض أنّه قد جرى في المرجع المتخيّل الواقعي الأصلي،أوالقصّة الخالصةكما يسمّيها جينات، يجدر بالسّرد الرّوائي مجاراته وملاحقته،إن لم نقل مماهاته. بل لا مدعاة لإنكار كينونة هذا العالم المتخيّل وبينونته عن أيّ عالم آخر، لم تجر فيه أحداث تلك القصّة.إنّ العالم المتخيّل لهو عبارة عن قصّة،تنطوي منذ البدء على بنية قصصية متكاملة، ذات مقوّمات ظامية، شديدة الحبك والسبك، تمنحها خصائص ذاك الكلّ ّالسيميائي الجامع، أي أنّها عالم وصورة مكنونة في ذهن القارئ والكاتب و النص ّعلى حدّ السّواء*.

ولقد كانت الواقعية في زنابق عبد الرزّاق السومري واقعية قصّة وخطاب، عالم ومرجع، كلّ مافيه ينطق بالتجانس والانسجام الدّاخلي بين جميع عناصره المتداعية، أو المتشابكة أو المنصهرة في لوحات الوصف الحي حيثما كان موقعها من الرّواية. فهي عناصر خلقها الفنّي الأوّلية ومادة تشكيلها الإبداعي الرّئيسة، توسّلها الكاتب ليقوّر صورة العالم المخبئ أو المدفون،تحت الجليد،المجمّد تحت وطأة الصقيع والبؤس المادي الاجتماعي للفئات الاجتماعية الضعيفة،المسحوقة التي تبذل عالمها الدّاكن للخيال الرّوائي،حتّى يتفيّا من ظلاله، لوحة جماعيّة حيّة،صائتة،ضاجّة أحيانا بالأصوات والهمهمات والطّلقات المتتالية والأنين المتقطّع،فائحة أحيانا أخرى، برائحة الدّماء تنزّ على الإسفلت تنحفر في كلّ مشهد من المشاهد الوصفية أو الحواريّة التي قوّرها السّارد في ذهن الشخصية الرئيسيةعلاّوة المبئرة،حيث ينسرب العالم /المرجع، في أفكاره الواعية واللاواعية:رغائبه المقموعة وهواجسه ورؤاه الباطنة وذكرياته الأليمة واللذيذةعلى حدّالسّواء، جميعها مستباحة من السّرد العليم،عارية أمام القارئ، يفضحها التداعي الذهني النّفسي الحرّ أو الساذج لأفكار الشخصية الرّئيسية المبئرة.

إذ الرّواية مشدودة من بدايتها إلى نهايتها إلى هذا الخيط الرّفيع، ذي الالتواءات والتعاريج والارتماءات المتوقّعة و اللاّمتوقعة،صوب الأمام وإلى الوراء،ألاوهوخيط التذكر والحلم..، فتطوى المشاهد الغائرة، كأنّها عادت تظهر من جديد بمراس عنيد، تنفذ في المخيّلة وتخترق الشخصية المبئرة الرّائية، السّامعة، الشاهدة على الأحداث،البطل /الضحيّة، في آن واحد برغم عنها،كغشاوة من أثير*

فعلاّوة- رغم وعيه البسيط -،هو الناّفذة الشفيفة المطلّة على قبح هذا العالم، وهوالشخصية التي تحمّلت بمفردها ثقل التذكّر و تجشّمت ثقل البوح بما جرى أو ما يمكن أن يجري من البداية إلى النّهاية، إنّه زمن البطولة الإنسانية الواقعيّة الحيّة وليس زمن الأوهام والأساطير العجائبية المفارقة لأشباه البشر. قد يكون هذا اختيارا من الكاتب مقصودا، أن بلقي المسؤولية الأكبر على عاتق الرؤية السردية العفوية البريئة الشاهدة على فظاعة ما يقترفه الآخرون بخبثهم ودهائهم ودسيس مؤامراتهم ضدّ الإنسانية. وكذا كان لرؤية علاّوة العبء الأكبر من إعادة تجسيم صورة العالم الواقعي الحيّ للرّواية، سواء في تحمّل فظاعة ما جرى (القهر كأبشع ما يمكن أن يلمّ برجل، القهر في شتّى مظاهره ومعانيه وأبعاده الجنسية السياسية الاجتماعية النفسية،التي لا أحد كانت له جرأة قولها ووصفها بمثل ما فعل الكاتب. واقعية تصدمك، بل ترجّك و تهشّم اطمئنانك إلى واقعك ومرتهنك، إنّها الحقائق المفضوحة أو المسفوحة التي تجعلك تفكر عديد المراّت وتعيد ترتيب أفق انتظارك من جديد،على وقع مشاهد واقعية جدّا، إنسانية كأقصى ما تكون أو كأقسى ما تكون. فالأمر سواء في هذا العالم الرّوائي العابق بروائح الفقر والنضال، القنوات الحسيّة التي تجعلك تحيا القصّة من جديد وتعاين عن قرب مظاهر التخلف والاستبداد والمأساة والعفونة.

فحيثما حللت فيه أدركت أنّ الكاتب لم يفرّط في قضيّة من قضايا واقعه لم يستثرها ويثير معها الأسئلة الحارقة. ولكّنه لا يمنعك مع ذلك من التّفاؤل. فسيّان في عالم الزّنابق تحت الجليد الأحلام والكوابيس،كما لا فرق بين عالم الأمس واليوم، بين زمن الأحداث وزمن السّرد، هكذا يخيّل إليك وأنت تعيش بداية الرّواية، فلا تفيق من غفوتك، غفوة القراءة وغفوة البطل، إلاّ على صراخ أحدهم يهدّده بخصم جرايته بعد أن احترق نصف الخبز، فيغادر علاّوة المخزن وأقراص الأرغفة المحروقة ويعود مجدّدا إلى حاضرهراكضا يشقّ طريقه في الهواء الرّقيق ليستقبل، الأفق البعيد،حيث كان قرص الشمس يطلع ملتهبا، ريّان، يحمل ميلاد نيـسان جديد *.
الفنّ بدلا من الخبز أحيانا،الفنّ الذي لولاه، لمتنا من قبح الحقيقة هل هو الشعار المضادّ للواقعية؟ أم هو لبّ التصوير الفنّي للواقعية الجديدة؟

،فحيثما ولّيت وجهك ثمّة معنى الحياة، بكلّ تناقضاتها وتقلّبات عالمها الواقعي الغامض غموض الإنسان نفسه.ّ فرغم كلّ ماجرى، كان علاّوة على مدى الرّواية، نموذج البطل الحامل لمشروع الحياة والحبّ والحلم والتّفاؤل: عضلات مترعة بماء الحياة، سمرة غامقة ورأس ضخم تذكّر بتمثال المفكّر لرودان وتلك الهالة من القوّة والتحفّز * له قدرة عجيبة على نسيان الفظائع و تجاوز الأحداث، حتّى ليكاد يسابقها فينسيكها، إذ سرعان مايحسّ بحيويّته تعود ويزول عنه القرف ويعود التوازن إلى ما اختلّ من نظام الشرائع والقانون والأشياء*.

ومن ناحية أخرى تبدو الذّاكرة والذّاكرة الحسيّة تحديدا، أهم ّقناة من قنوات الوصف الواقعي الحي التي بها استطاع الّسومري أن يلمّ شتات المتفرّق، السّائب من ذاك العالم،و أن يجعل السّرد قادرا على ملاحقة الغائب،الهارب من تلك القصص الكثيرة المتشعّبة، القادمة من جوف بلدة، تقع هناك، على تلّ غابيّ.. فكأنّها مغروسة في الوهد، تشرف عليها القلعة من الخلف ويقف القصر القديم في مواجهتها كالديدبان *.

ثمة، ينتصب العالم المرجعي للرّواية، مثبّتا إطار اللوحة الوصفية البانورامية الجامعة، ليتولّى الرّسم الواقعيّ الحيّ المتخفّي وراء هام الشخصيات المتصارعة بعد ذلك، مهمّة تشكيل الصورة المتحرّكة بالطيّ والنّشر، بالدنوّ تارة والتقاصي طورا، لبلدة لم تسمّ أبدا على مدار الرّواية، رغم وفرة الإحالات الإشارية المبثوثة بين حنايا السّرد،تغتلف تفاصيل الواقع،وتتوغّل بها بين الأحداث المتسارعة أو المتراخية.وذلك حتّى تملأ تجاويف المشاهد الواقعيّة المتساتلة، وتحاكي تعاريج الواقع المرجعي بأدقّ دقائقه وتفاصيله المهملة الغفل أو المحجور قولها، حتى ولو كان الوصف الحيّ معقودا في جناح ذبابة. فأيّ المشاهد الرّوائية أصدق تعبيرا من قوله:البناءات واطئة تمتدّ على أحراش من التين الشوك والنباتات البريّة. أغلبها براريك من القصدير والقصب أحاطت بها أكوام الحجارة من كلّ جانب. الممرّات ضيّقة تناثرت فيها الأزبال وبقايا روث الحيوانات.

تسلل بين الزّرائب، في كلّ مرّة يحاذر الحفر والمياه السّوداء الآسنة.دخل حيّ الصوالحيّة، حيّ كثير الدّجاجّ والكلاب الدّميمة. حلقة من الشيوخ يلعبون الخربقة وغمغمات خافتة.. وأطفال عراة يهشّون الذّباب؟…*

إنّ لوحات الوصف الحيّ قد تخيّر لها السومري أنواعا مخصوصة من الخطوط، الغليظة تارة، الرّقيقة المفسوخة أو المدحوّة طورا، تزداد دقّة ووضوحا كلّما انقشعت الغشاوة عن الشخصية المتذكّرة وأينما انغمست في الأحداث حتّى الذوبان والتّلاشي،فلا يبقى هناك أثر لعلاّوة،بينما مسرح الوقائع مفتوح لغيره حتى يلجه على قدم المساواة ودون أدنى تكلّف واعتساف على بنية السّرد وسيرورة الأحداث. فالجميع من حقّه أن يتكلّم وأن يتحرّك و يعيش من جديد ما جرى، فيستعيد الخطاب عالمه المرجعي الغائب،عام القصّة.لافرق في النّهاية بين شخصية وأخرى في تجسيم أدوار البطولة، الجميع من حقّه أن يكون بطلا،وفاعلا في السرد والقصّة على حدّ السّواء، لا وسيط بين النصّ والقارئ، كما لا وسيط بين الخطاب والقصّة.أمّ إيقاع الحكي فهو نفسه إيقاع الحدث يجرى في الحاضر كما قد جرى في الماضي. أليست تلك هي المساواة والعدالة الاجتماعية الإنسانية في أبهى مظاهرها يحققّها الأدب، حيثما يعجز عن تحقيقها الواقع؟

أمّا ألوان اللّوحات التي تخترق نسيج السّرد أو المتغيّرة فيه بتغيّر طبيعة المشاهد، فمزيج من الحمرة والخضرة، لونان من الألوان الأوّليّة قد سيطرا على معجم الوصف الحسيّ الحيّ على مدار الرّواية فمنحاها قيما ضوئية ذات جمالية إيحائية رمزية مخصوصة، ربّما تتناغم بدورها مع خصائص العالم الرّوائي التي يعطيك الوصف الحيّ انطباعا بديمومة حضرتها بعد غيبة طينتها،وذاك لعمري جوهر هذه القيمة الأسلوبية في كتابة الواقع، كتابة قصّة عالم قد اكتمل في ذهن مؤلّفه قبل أن يروى، صورة طبق أصلها هي، لا سواها.عالم الأرض والجسد والحياة، ولونه ليس إلاّ لون التّراب، اللّون البنيّ.الذي،

لو مزجنا الأحمر بالأخضر،لحصلنا عليه، بكلّ تدرّجاته ومشتقّاته،لون الخبز والأرض ولون بشرة الوجوه الكالحة التي لفحها برد الصّقيع وأعواد الحطب الجافّة، أو ربّما هو لون القشاشيب الخشنة وبيوت الصّفيح وأسقف القرميد، لون التحف الخشبية المعلّقة كالقدّيد و مزهريات الفلّين يستجدي شراءها طفل، ممسكا بتلابيب سائحة ألمانيّة.*

قد لا يسعنا في الختام سوى أن نقول إنّ رواية زنابق تحت الجليد لعبد الرّزاق السّومري هي نموذج للكتابة الواقعيّة الجديدة في تونس والوطن العربي،قد شيدت عالمها ومرجعها على أرضية الواقع المعيش الحيّ،فكان الوصف فيها حيّا بأصداء ذاك الواقع طافحا بمآسيه الاجتماعية وقضاياه الرّاهنة وأيّ واقع تخفيه رواية شاء لها قدرها الفنيّ أن يكون مصيرها المصادرة أوّل ما رأت النّور؟ وأيّ مآل سينتظرها بعد أن وقع الإفراج عنها؟*

ربّما تمكّن القليلون من قراءتها لنزرة عدد نسخها ونفاذها قبل أن يعلم الجميع بوجودها،وهي الحال بالنسبة إلى مؤلّفات أدبية كثيرة في تونس في الرّواية والقصّة والشّعر، رغم ماتبذله الدّولة في سبيل دعم الطّباعة والنّشر ومساعدة المبدعين الشبّان على استصدار أعمالهم.
تَقرأ الرّواية دون أن نعلم الكثير عن سرّها الرّوائي الدّفين تحت أكوام الجليد وبرد الصّقيع، صقيع أمكنة ربّما تبدو نائية وربّما بدت، قريبة منّا وممّا نعيشه ونعلمه ولكنّنا نأبى الكلام عنه. أ فهل ستظلّ أشبه ما تكون بلوحة يتيمة قد ادلهمّت جسومها واختلطت خطوطها وتخومها بتخوم ذاك الواقع الموصوف وعمق مآسيه الاجتماعيّة؟

فلعّلها تزيغ عندئذ،الحدود بين الحقيقة والخيال،و تصير جماليّة الأدب الواقعي جمالية المشهد الإنساني القاتم، لكنّه الأقدر ربّما على تحريك المشاعر والخيال. على أ ن يبعث فينا إحساسا دائما بالصّدق، وأن يخلّف في أذهاننا أثرا لا يمحى بأنّ القصّة هي ذاتها الواقع..

*عبد الرزّاق السّومر ي من مواليد عين دراهم سنة 1964 مجاز في اللغة والآداب العربيّة، متفقّد تعليم ثانوي، صدرت له روايتان:

 زنابق تحت الجليد، دار الإتحاف، تونس،2002.

 مرايا الزّمن المتوحّش …

*الوصف الحيّ مصطلح بلاغي غربي قديم يقصد به كلّ وصف شبيه بالرّسم الحيّ الذي يعطي انطباعا بحضور ما هو غائب

*اعتمدنا في ذلك على موقفي جينات وبول ريكو في تحديدهما لبلاغة القصّ وللعلاقة الواشجة بين المتخيّل السردي المقروء والمتخيّل الواقع في عالم القصّة. فجيناتلا يرى مندوحة للفصل بينالقصة أو الخبر وبين الخطا ب أو السّرد لأنّ االسّرد إنّما يتقفّى آثار قصة خالصةمكتملة في ذهن منشئها قبل أن تروى، والسّرد يحتال في محاولة مطابقتها بغية إقناع القارئ بأنّ ما حدث قد حدث فعلا.

بينما يرى بول ريكور،أنّ المحاكاة الواقعة بين الصّورتين السردية والمرجعية، إنّما تتمّ عبر ثلاثة مستويات من التجسيم مستوى المحاكاة الأولى وهي البنية الحدثية الأوّلية القابعة في خلفية الفهم الماقبلي المشترك بين المبدع والقارئو مستوى المحاكاة الثانية أو تجسيم التتالي الحدثي وهي الحبكة والنسيج الناّظم للأحداث الكلّ الجامع المؤسس لصورة قصّة في ذهن القارئ وأخيرا مستوى المحاكاة الثالثة وهو الأثر النّجم عن التقاطع بين عالم النصّ وعالم المتلقّي والصّورة المجسّدة للوقوع عملية التخييل السردي.

*زنابق تحت الجليد، المصدر السّابق، ص. 6

*نفسه، ص. 285

* نفسه، ص. 130

نفسه، ص - ص. 113- 116*

* زنابق تحت الجليد، المصدر السّابق، ص.10

نفسه، ص. 205

نفسه،ص. 115

نشرت الرّواية سنة 2002وسرعان ما تمّت مصادرتها لتسرّح بعد ستّة أشهر.

سلوى عباسي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى