الأربعاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠١١

زيتون وطين في أعمال بولينا عوكل

زاهد عزت حرش

كمثل خزن الحنين لألوان مساحات الذكريات، المتكدسة كغلال الأزهار، كرائحة الحبق المختبئة بين فجوات حجارة البيوت في الحواري العتيقة.. ينسكب اللون على بساط اللوحات الآتية من ذاك الحنين. لم تولد فرشاة الألوان بين أصابع يدها منذ طفولتها.. لكنها، على ما يبدو، قد نامت حالمة بين ضلوعها إلى حين.. فهذا السفر الممتد مساحات صغيرة في لعبة الظلال والألوان، يحمل في شغافه ألف حكاية عشق، لمواويل وقصائد الذكريات.. ذكريات البدايات الأولى، لزمن عاش بين أزقة الحواري العتيقة.. ما بين بيوت الطين وعقود القناطر العالية، وظلال أشجار الزيتون.. كخمرة معتقة ينساب هو، على بساط لوحات غزلتها يد فنانة واعدة، تدعى بولينا عوكل.

في رحاب المركز الثقافي الأسقفي في شفاعمرو، التابع للكنيسة الإنجيلية برعاية القس فؤاد داغر، وهو الذي عمل لأيام طوال على ترميم وإعادة الحياة، لهذا المبنى العائد لعائلة خوري.. المكون من ثلاثة عقود مرتفعة تحمل في حجارتها قصة الزمن العتيق.. وتمتد أمامه مساحة منبسطة تعطي للوافدين إليه أفضلية اللقاء به بغبطة التذكار والتأمل.. ولأن ترميم البناء جاء بحرفية عالية، حافظت على حجارته وصورته الأصيلة، باتت جدرانه حاضرة لاستقبال كل عمل فني أصيل.. فكان لقاءه الأول مع باكورة المعرض الشخصي لبولينا، الذي افتتح يوم الخميس في السادس عشر من حزيران هذا العام.

على هذه الجدران الحجرية علقت بولينا لوحاتها المتقاربة مساحة ومواضيع وألوان.. فوهبها المكان رونقه الزاخر بالتناقض القائم ما بين الحجارة وكحلها.. كما وهبته أعمالها حنين الأيام والذكريات.. ففي رحاب العَقد الذي احتلت لوحات الزيتون وخوابي الفخار جدرانه.. يلتقي الناظر إليها برواية الزيتون، أرضًا كرومًا وغلال.. (لوحة رقم 4) فالأرض تراب، لا عشب وحشي يحتلها ولا أشواك.. وزيتونة في وسط اللوحة تعانقها امرأة وحيدة.. هي الأرض أم الفقراء، كما هي أم الفقراء الوحيدة التي تكد لتطعم أبناءها؟ لماذا لم تضم اللوحة باقي أفراد الأسرة ؟ أهو خوف لدى بولينا من التوغل في رسم مشهد يحتاج إلى كثير من الرمزية في الحركة والداء والتجانس؟ أم انه عن قصد منها، تركتها وحيدة هي وزيتونتها، لتقول أن الأرض الأم واحدة.. والأم الأم واحدة هي أيضًا؟؟

تمتاز هذه الرسومات بالواقعية إلى حد انصهار ألوان التراب بألوان الزيتون .. بألوان المرأة مع كافة مكونات هذه اللوحة وأخواتها.. كأن لكل مجموعة فرادتها.. تنساق واقعية أعمالها منسابة ببطء لتنتقل إلى نوع من التعبيرية الهادئة، التي تقول ولا تقول.. كما الحال في خوابي الفخار،(لوحة رقم 5) تلك الجرار التي كانت تمتلئ بالماء العذب طيلة أيام الصيف والشتاء، يضعها الأهل خلف باب البيت، كي تكون في متناول الجميع!! حملتها بولينا ووضعتها أمام مدخل البيت.. ربما لتذكر الساكنين هناك وتدلهم إلى نبع الصفاء المشبع برائحة الزمان!! وربما ما هي إلا حالة انطباعية للحظة سرد، تملكتها في نزوة خلق لوحة جديدة.. أو إنها ذكريات تلك البيوت العتيقة، التي كانت تُحمل جرار الماء من العين إليها صباح مساء!! على كل حال، أستطيع أن اقرأ أكثر من رواية في هذه اللوحة.. فها هي الجرار الثلاثة تحمل ثلاثة أسرار دفنت وراء هذا الباب.. كما يحكي الشباك الذي تحول إلى فوهة داكنة الظلال، شيئًا من فصولها.. كل ذلك في لعبة ذكية لمشهد ساطع الضوء والأمل.. من خلال حجارة البيت والدرج النظيف، الذي لم يترك أثر لبصمة قدم داست عليه في يوم من الأيام!

في الباحة الثانية عرضت بولينا أعمالها التي تحمل صورًا عن الأزقة في الحواري القديمة.. أبواب البيوت، طريق في السوق، شباك مخلوع، زقاق وبوابة خضراء.. ورغم رائحة الزمن العتيق المنسابة في حنايا اللوحة والمكان أيضًا، إلا أن معظمها مشبع بالضوء والأمل.. كأنها رغم آفة الزمن والنسيان ما زالت جديدة صامدة باقة.. كأنها هي الآن!! هذه الواقعية المتجددة في هذه الأعمال ليست رواية كاذبة.. بقدر ما هي أنشودة أمل لبقاء هذه الأماكن ولتجديد مكوناتها العمرانية، كي تتم رسالة عطاء الآباء للأبناء.. كما هي النزعة الانطباعية الفنية لرغبة الفنان بأن "كن فيكون".

هذه اللوحات التي تحمل مشاهد صامتة لبيوت وأزقة وأسوار قديمة.. ما زالت قائمة في أروقة البلدة القديمة من شفاعمرو.. هي الأماكن التي ترعرعت فيها بولينا أيام طفولتها.. ما بين ساحة باب الدير مرورًا بحي الزقاق وصولاً إلى المخرج الغربي الجنوبي للسوق.. لا توجد من بينها لوحة واحدة تحمل مشهد من مشاهد الترف والقصور.. كأن بولينا تريد أن تكمل الرسالة الواقعية في الفنون التشكيلية، من خلال هذا التعبير الصادق في نقل المشاهد الأكثر شعبية.. والأكثر إنسانية، بل والأكثر قربًا من حياة الناس.. كل الناس. (لوحة رقم 2)

كان هذا المعرض معرضها الشخصي الأول، الذي حمل عنوان "لأبي منازل كثيرة".. وربما جاءت التسمية من خلال تلك الأماكن التي انطبعت منذ الطفولة في ذاكرتها، من بيت الأهل إلى بيت الجد.. إلى بيوت الأقارب فالسوق فالمدرسة القديمة. كلها اجتمعت وعششت في حناياها إلى أن جاء الوقت الذي قررت فيه بولينا أن ترسم، فبدأت بشكل تلقائي وهي أم لثلاثة بنات.. كن قد مررن بدورة للرسم في مرسم دير الراهبات، في حين لم تستمر واحدة منهن في مزاولة هذا الفن.. إلا أنها ذهبت هي لتخلق عالمًا خاصًا بها.. تروي له على مهل حكايتها مع الذكريات، وذاك الشغف الروحاني لعالم التشكيل والألوان.. ومنذ العام 2007 انتقلت من مرحلة الرسم التلقائي إلى الالتحاق بدورة في مرسم للفنون في كريات موتسكن، على يد الفنانة درورا أيلون، التي قامت بدورها بافتتاح معرض بولينا الأخير. وخلال السنوات الماضية اشتركت بولينا في معارض جماعية، الأول في حيفا والثاني تحت رعاية نقابة الفنانين في إسرائيل، والثالث في مركز الكرمل، والرابع في المركز الثقافي بنشر "بلد الشيخ سابقًا".

أن المدرسة الواقعية في الفنون التشكيلية انبثقت من عباءة المدرسة الرومانسية.. لترسم الواقع بأدق تفاصيله مسترجعة بذلك شيئًا من عهد الفن الإغريقي الكلاسيكي العريق.. بيد إنها تحررت منه شيئًا فشيئًا مع دخولها بداية القرن التاسع عشر، لتصبح بذلك فن الشعب وصورة حياته الواقعية.. ولتتراكم الأعمال المنجزة ما بين موضوعات حياتية يومية، ومشاهد صامتة من المستلزمات المعيشية الحية أو الباقية. من هنا جاء الرابط الوثيق بينها وبين الحالة التعبيرية في الفن التشكيلي.. لتتحاور كلا الرسالتين من خلال معالجة موضوعات حياتية، متداخلة في نقل واقعي للمشهد أو متجانسة فيه، وحاملة صبغة ذاتية تعبيرية للفنان نفسه، علها تعطي بالإضافة إلى واقعيتها، نوعًا من الرسالة التي يريد أن يوصلها الفنان إلى متلقي أعماله. هكذا حاولت بولينا أن تعمل ما بين واقعية أعمالها، ودخولها في عمق هذه الأعمال، من خلال معالجتها الهادئة للألوان.. فهي تتعامل مع اللوحة لا بالفرشاة والمساحة البيضاء فقط، بل بملامسة مساحاتها اللونية بأطراف أصابعها، لتغدو اللوحة بساطًا مخمليًا يتجانس فيه اللون مع اللون الآخر بعاطفة صامتة.

زاهد عزت حرش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى