الأحد ١٠ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم نازك ضمرة

العزلة غيرت عناوينها باكرا

الشعر فن إشفاء:

الشعر لغة الأرواح، يحاول إيجاد مطابقة بين الواقع الذي قد يصبح خيالا مؤقتاً أو إلى زوال، وأي فن هو جاذب للنفوس ويشتغل على إراحتها، والشاعر كفنان يشفّ عما في أعماقه من أصالة وخبرة، ليؤثر فينا أو يشفينا أو يحملنا كي نتماهى معه في خيالاته وحضوره ولا وعيه. إنه بحث عن مشاركة وقبول وتقرب، وهذا التقديم ملخص مضغوط تلبسني وأنا أقرأ في ديوان الشاعر أحمد الدمناتي المغربي والمعنون (العزلة غيرت عناوينها باكراً).

الدخول للديوان من باب العنونة:

وقبل أن نلخص للقارئ ماورد إلى الذهن من أفكار حول محتوى مختلف قصائد الديوان وما تفـرّخ منها، نفضل الدخول من الباب لأن خطراً متوقعاً يحصل عادة عند الدخول من النوافذ. فقراءة عنونة الديوان كاشفة لعوالم الشاعر وهمومه واهتماماته عبر نصوصه حتى لو كانت مضمرة، فمفردة العزلة هي إحساس خاص بالإنسان لا تطفو على السطح إلا إذا بلغ الكمد والاستسلام حداً يصعب التخلص منها أو السيطرة عليها، ثم تأتي مفردة (غيرت) والتغيير هو هدف الإنسان على هذه الأرض، وحين تستقر أمور إنسان وتهمد تحركاته يتطرق إلى أذهاننا سبيل الراحة الأبدية والغياب عن الحياة التي هي نتيجة الكائن الحي، وأما مفردة (عناوينها) فأول ما يتبادر للذهن أنها إما أنها كانت مرتاحة أو متواجدة في ضنك محرومة من الحرية، وهاهي تتململ أو تتفجر أو تتحرك كي تتخذ لها مكانا جديداً واضحاً بعنوان يمكن الوصول له أو مستقراً يهيء لها توازنها، وحين نقول (العزلة غيرت عناوينها) نعتقد أن هناك حركة وصحواً واستعداداً لممارسة نشاط مختلف بأسلوب جديد من حياة تشارك الغير وتتعايش معه، ثم تأتي مفردة (باكراً) ولها احتمالان من التفسير، أي إما إنها صحوة مبكرة وعلى غير ما هو متوقع، كمن يصلي الفجر فور تمييز الخط الأبيض من الأسود، أو في اللحظات الأخيرة من الفجر وقبل طلوع الشمس بقليل، وكلاهما مبكراً، أي قبل النور التام والإشراق، والتفسير الآخر لمفردة (باكراً) قد يعني أن العزلة حلت بالفرد والنفس وتمطت هناك واستقرت، وكادت تعطبه، ولكن وبقدرة ما لم تطل الحالة فصحت نفس العزلة قبل فوات الأوان لتمارس طقوس النشاط والحياة والمواجهة في أجواء مختلفة عما كانت عليه وقبل الانهيار التام. وفي إحساسي أن هذه المقدمة تخلق للقارئ جواً يحرضه على التداخل والتمازج مع نصوص الشاعر أحمد الدمناتي، وأرى أن القارئ لديوان أحمد الدمناتي يلزمه تسلح خاص واستعداد يحرسه عبر خطورة توغله في ملاذات شاعرنا وسراديبها، وأول ما نلمسه حين نبدأ بقراءة نصوصه، هو ارتفاع نبض أحمد الدمناتي وعدم صبره، ففي الصفحة 12و 11 "القصيدة نص، العزلة باب، الفراغ مسكن، الرحيل بهلوان، السعادة طفلة، البريد رسالة، الندى سيرة،الخيال طفل، النساء خرائط، القصيدة فخ" وكثير بعد هذا ، إنما هو إلحاح وإصرار من الشاعر أحمد الدمناتي ليدخلك عالمه الموار، محلقاً بك من موقع إلى موقع، وينقلك إلى أماكن يعرفها الشاعر وحده ولا يسمح لك المكوث ولا التريث، وكأنه يعصر في حلقك قطرات من أشربة مخدرة قوية، تجعلك تعيش في عوالمه مهما نأى عن واقعك الذي اعتدت عليه.

الشعر عالم ذاتي له مؤهلات ولوازم منها: عالمية المعنى، وعنصر الإشفاء

إننا أمام تجربة جادة مخلصة، اتخذت فن الشعر هدفاً أسمى تؤديه في الحياة، وتساهم في إحياء الروح وإشفائها، وقبل أن نتقدم بما رأيناه تخصيصاً عبر خوضنا لمنضودات لؤلؤية من عالم الشاعر أحمد الدمناتي البحري نعتقد أن الشعر حتى يكون شعراً خالداً يجب أن يتسم بصفات العالمية أولاً، أقصد عالمية المعنى للإنسانية كلها، أي ليس مقصوراً على فئة من الناس أوعلى جيل واحد او مكانية محددة، والشرط الثاني أن يكون الشعر فن إشفاء للنفوس سواء في السراء والضراء، وحين نقرا قصيدة تهدهدنا بعد فقد إنسان عزيز علينا، فإن تلك القصيدة هي دواؤنا حتى ولو كشفت سر دائنا وعظمت من مرارة الفقد. ولهذا يقولون الشعر عالم ذاتي له قوانينه وأصوله، كوصفة الطبيب المركبة من عناصر تم الشغل عليها بدقة وإحكام، ودرس الطبيب سنوات طوال حتى أصبح لديه المهارة اللازمة لعلاج زواره وزبائنه من أمراضهم، وكل قصيدة هي بمعنى ما وثيقة تاريخية، ومن هنا عرفنا نمط حياة الإنسان العربي قبل التدوين، فما حفظ لنا لغتنا العربية من أعماق التاريخ حتى مرحلة الإسلام وسيلتان هما الشعر والخطابة، لم يصل لنا من موروث العرب قبل الإسلام الشيء الذي يستحق الذكر مكتوباً، ولولا الشعر والخطابة لعد ّنا الناس أمة طارئة على الحياة وبلا جذور، فالشعر كشف عن الأطلال وحب الديار والبيئة والناقة والصحراء وتمنع الحبيبة أو معاناتها والحروب والمعاناة والدماء وصليل السيوف، ثم المشاعر وهي تتامل ما يحيط بها للوصول إلى هدف الشاعر في موقفه ذاك من حبيب او فقيد او انتصار او هزيمة، (كما قال امرؤ القيس في معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، بسقط اللوى، بين الدخول، فحومل، فتوضح ، فالمقراة، لم يعف رسمها، لما نسجته من جنوب وشمأل) فأصبح شعرنا المحفوظ والمنقول عبر الأجيال بمثابة تأريخ لأنماط حياتنا وأفكارنا، وهنا يأمل الشاعر أحمد الدمناتي الخلود بنزفه الشعري، كالمشاهير الذين سبقوه.

كل فنان يعمل جاداً بحثاً عن الخلود، والأهرامات ومعتقد مؤسسيها املوا في الخلود وإطالة الحياة أو على أمل العودة لها، والحياة مرحلة قصيرة من عمر الزمن، وتتطلب منا الوعي والاستغلال الأمثل لجهودنا ومؤهلاتنا حتى نحسّ بقيمة ما أتيح لنا من سنوات، والحب والزواج هو إثبات لوجودنا وبالتالي إعادة أنتاج لأنفسنا، وامتداد لجذورنا في الأرض، والشاعر أحمد الدمناتي يهيئ لنفسه مكاناً محسوساً، حتى يرقى له الناس على أمل إحيائه في دواخلهم كلما مروا بإبداعاته، ويعيدون نسجه في عقولهم، ولهذا قرر أن ينهي مرحلة العزلة التي كان يحياها، بالتوجه القصدي إلى معمعة النماء والحياة والزخم البناء، فأن يكون ثمة شعر لا بد وأن يكون إنسانياً، كما يقول الشاعر الإسباني غوليه. وهذا من مؤهلات الشعر أيضاٍ
إن كاتب هذه السطور روائي لا يمارس فن الشعر، ولا يريد ذلك، لكنه لا يعادي الشعر والشعراء، وأعداء الشعراء غالباً ما يكونون في تحالف مع السياسيين، دلالة على قوة أثر الشعر في النفوس بتغييرها أوتقسيتها وزيادة صلابتها.

قصائد الشاعر أحمد الدمناتي كخارطة:

تنوعت أساليب الحياة ووسائلها في العقود الأخيرة، ولا بد من ثورة على كل ماكنا نرضى به أونعيشه حتى نتمكن من مسايرة الظروف المحيطة بنا، أو إرضاء من يقرأون عنا أو يكتبون، وهذا المفهوم أراه عميقاً في قصائد ديوان (العزلة غيرت عناوينها باكراً) للشاعر المغربي احمد الدمناتي، حتى وزاد في إيغاله من التحولات والتصورات والخيالات، آملاً أن يسبق جيله في رحلة البحث عن الخلود. وحين يكتب قارئ عن تجربة أحمد الدمناتي الطويلة والممتدة، يبقى اثره محدوداً مهما بذل من جهد، بسبب عدم اختلاطه بصاحب النص، أو بالاطلاع عن قرب عن أنماط حياته وفكره بشهادة الحضور والمشاهدة وعن طريق حواس العين والأذن، وكثيراً مايفشل قارئ النص في نقل صورة مميزة مطابقة لما أراده الشاعر، وقد يبتعد عن واقع حا ل ذلك المخلوق الفني لاختلال في القبض على جمر القول والتأمل ومواقع الابحار، وهنا نشترط بأنه لا يجوز أن يستخف أحد بالفنون لأنها تنتج إبداعاتها من خلال محاكاة الأشياء الطبيعية، وقصائد أحمد الدمناتي في ديوانه الذي نحن بصدده أراها مرآة تحاول محاكاة مواقف تأثره مغموما أو مندمجاً أو منتشياً، ليتقابل مع مصطلح الواقع الحياتي أوالطبيعة بمعناها الشامل، و أحمد الدمناتي الشاعر المغربي المعروف بسط تجاربه للقارئ كخارطة، وبدأ ينقلنا عليها من موقع إلى موقع ممثلاً بل راقصاً على حبال مرئية وغير مرئية، ليقوم بأدوار يصعب الإتيان بمثلها، لكن إصراره على الاقتراب من الحياة الواقعية التي عاشها أو عايشها ينجح في الاندساس إلى أعماقنا وخيالاتنا، وربما هي محاكاة ذكية أصر أحمد الدمناتي بها على إبراز مسيرته الشعرية الطويلة، وعلى تميزه عمن سبقه ليهيء لنفسه مواقع يعرف بها كعنونة، والفن عبء ثقيل على النفس حين تريد الصدق والتخفي بين الكلمات أو ورائها. والفرق بين الشاعر والفيلسوف في ثلاث: الطريقة والمغزى والنتيجة، ومن صالحنا أن نستبعد أحمد الدمناتي أن يكون فيلسوفاً، ونترك هذا له، أو لغيرنا من القراء، إن كان يريد غير ذلك، لكننا نرى أنه داعب ضمائرنا وأيقظ خيالاتنا الدفينة بقصائده وومضاته المبذورة بتوزيع تسلسلي ترابطي، وكأنه ينسج شبكة لنحط عليها أو نتشابك بها، وفي أجواء عامرة بالصخب والحركة اجيد الاعتناء بها، فبدت كالزهر المنثور في بهاء تفتحه وعبق رائحته مع إطلالة قمر الشاعر أحمد الدمناتي متقمصاً قمر الزمان، وحين يزرع الفلاح أرضه، يحرص على عزل الأنواع الأخرى من النباتات والأعشاب عن بذار محصوله الذي يعمل جاداً له، لكن خلطة أحمد الدمناتي هي سره المكين، هويته ومرآته، يركز خلطته ثم يمطرنا بها برقاً خاطفاً على عجل، حتى يخلق حوله ملاذاً يجذبنا كي نبحث عنه في أعماقه، معترفين بجهود شاعرنا أحمد الدمناتي وتميزه، يقول بورخيس في هذا الصدد من كتاب المرآة والخارطة: "إن العمل الذي يبقى هو دائماً القابل اللامحدود، والغموض الجمالي" ثم قال أيضاً: الكاتب يحتاج إلى عزلة، وينال حصته منها، يحتاج إلى الحب وينال مشاركة، ويحتاج إلى الصداقة وفي الحقيقة يحتاج الكون" وجاء في قصيدة الشاعر أحمد الدمناتي الأولى في الديوان "فالعشاق يكتبون قصائدهم أمام أصص البنفسج، ناولني سيرتك كأسير محترم، فالغزوة قنطرة"

الدنيا العربية تستحق لوحات بألوان متداخلة وحجم أوسع

الأنثى في لاوعي الشاعر أحمد الدمناتي هي البؤرة التي لا تغفل العين ولا الأذن ولا الروح عن البحث عنها أو تأمل ملامحها وطغيانها ، ففي الصفحة 20 من الديوان " امرأة من رخام الذكريات، تحرس غابات القلب دون ملل، وتبحث في حزن الشعراء عن طلل، لحدائق الطفولة، كم يكفي من الدمع لنرثي يتم الكلمات؟؟!!.. " ولماذا الطلل؟ . . . . ولماذا نلوم سادتنا شعراء الجاهلية على رقة مشاعرهم؟ !ّ.. . . ، حين يستهلون قصائدهم بوصف الأطلال التي عاشت في كنفها الحبيبة، وفي الصفحة -25 24 "الليل يكحل أهداب البستان، بوردة خائفة، ولدت من أحداق امرأة"، " هكذا هي السنبلة، تشعل الربيع في حديقة القلب، وتنام في الحقل كطفلة متكبرة"،
وتتجلى كفاءة الشاعر المغربي أحمد الدمناتي وخبرته وحنكته عبر أصعب المسالك، فغلب على ديوانه الذي نحن بصدده، قصائد الفلاشات السريعة، وبكمٍّ لا يدع مجالاً للشك أنها ليست نزوة ولا صدفة، وإنما استعراضاً وتحدياً، لمن سبقوه لهذا الفن الصعب، أو لمن يريد أن يتعلم، أو يريد أن ينافس، وعلى الرغم من التركيز والاختزال والاقتصاد الفني فإن أحمد الدمناتي يدخل في أعماق الحواس بضغط نار الإحساس في مواقع يحياها هو أو من يؤثرون فيه سلباً أو إيجاباً، فيقدم لنا هبة روحه في مفردات قليلة شعرية موسيقية راقصة ومؤثرةً، وكما قال فاليري: النثر يشبه المشي، لكن الشعر يشبه الرقص، وقال فاليري أيضاً "الشعر البارع ذو سرعة شكوكية بعيدة"

وفي ختام هذا القراءة ننتمنى على الشاعر أحمد الدمناتي المساهمة في معالجة أمراض النفس العربية، فمعظمها تبحث عن مساج بطيء متصل ممطوط،، عله ينفذ لأعماقها، فيعطيها بلسماً مركباً من الحرية والكرامة والأمل والجمال، في قصائد أطول نفساً، فالمواقف في الدنيا العربية وزخم الحياة الهادر وأمواج الصخب في السنوات الأخيرة، تستحق بل تحتمل التأمل والإطالة ورسم اللوحة بألوان متداخلة وحجم يتسع للعقل والروح كي تتداخلا مع لوحة القصيدة الأطول.، وقصائد الشاعر المغربي أحمد الدمناتي تحتفل بالمشاعر الإنسانية وتعلن صارخة عن الطموحات والكبت بلغة حداثية موحية تشفي وتريح، بل قد تحلق بك إلى مدارات بعيدة عن عوالمك التي خبرتها، وعموماً فإن القصيدة المجردة من الشخصية الإنسانية مستحيلة فيزيائياً، والشكل الشعري ذاته يمكن ان يكون قناعاً، وقبل أن أنهي مختزلي عن ديوان صغير بحجمه كبير في مواضيعه وآثاره، أتساءل هل أرضيت أحدا؟؟ أو هل ستجد كلماتي قارئاً يعذرني عن عجزي لأنني لم أستطع الإجابة عن الأسئلة الأكثر أهمية حسب مقولة تشيخوف.؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى