الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم محمد نجيب عبد الله

أن تخبر أحداً

كم موقفاً محرجاً واجهت في حياتك...
الكثير... أجل... هذا ما تظن...
ما رأيك لو طلبت منك يوماً أن تُخبر أحداً – عزيزاً – أنه...

يـمـوت !!!

شيء سخيف... أليس كذلك...

و لكن ماذا تعرف أنت عن هذا... لست أنت بالطبع المقصود...
أيهما تُفضّل أن تُخبـِر أو تُخبَر... وما يكون وقعه عليك في كل...

و بما أن العالم مسرح كبير أو لعبة بالغة العِظم... فقد وقع عليّ الدور لأقوم بأداء الشخص الأول...

كان الجو يتماشى تماماً مع الواقع الذي يحدث... فها هي الشمس – رغم وجودها – مغادرة – خجلى... ربما – لمهمة لا نعلمها... الغيوم متكاشفة كأنها احتشدت – جميعاً – اليوم ظناً منها أنه لن توجد غيوم بعد الآن... أتربة وغبار وتيارات هوائية تلسعك وتحرق عينيك وتلومك على كونك موجوداً – رازحاً – تحت وطأتها... أحمق أنت لا بد...

أتحزن أم تغضب لو كنت مكاني...

فلماذا يختارها الموت – هي بالذات دوناً عن سائر الكائنات – ليتخذ منها أنيساً في وحشة المجهول الذي يختبئ خلفه...

هي الرقيقة...
هي الضئيلة...
هي الحبيبة...

يا رب السماوات أعنّي... ما أنا الا مخلوق ضعيف قد ابتليته بما يفوق المقدرة...

كنت إذ ذاك تسمع وقع خطواتي المتثاقلة على السطح الأملس لطرقات المستشفى... حيث ترقد... هي... لا تعلم أن دخولك – بالذات – عليها , ما هو الا نذير بالشؤم والدمار...

و لماذا أنت... أنت بالذات...
ألأنك طبيبها المُعالج....

سحقاً... سحقاً له من سبب...

ألأنك مقرّب إليها... إلى قلبها...
ألأنها... تُحبّك...

أحمق هو إن استطاع مواجهتها...

للحظة... توقفت...

فكّرت – أول ما فكّرت – أن أعـود... أجـل... أتذكّر كل البلاطات التي داستها قدماي منذ قليل... كل درجات السلالم التي صعدت... كل حصى الطريق التي وطئت... كلها أخطوهـا ثانية... بالنمط ذاتـه... بالترتيب ذاتـه... ولكن بالعكس...

ألا توجد هنا غرفة أستطيع أن أختلي فيها بنفسي فأبكي...

إنه أمر بسيط حقاً... سأدخل الغرفة – مقتحماً – كما الفارس...
في بساطة... أهلاً حبيبتي... نتيجة الاختبارات...
لا... اطمئني...
أنت فقط... تموتين...
و كالفارس – مقتحماً – أغادر الغرفة...

دقيقة...
الأمر كله لن يستغرق سوى دقيقة...
لا يهم ما بعدها أو حتى قبلها...
سأكون أزحت الحمل الثقيل عن صدري وأنهيت المهمة على أكمل وجه...

ربّـــاه...
لقد نسيت شيئاً هاماً...
أن أحضر لها زهرة اليوم...

أنا معتاد أن تحمل يديّ كل مرة أدخل عليها... زهرة...
و اليوم نسيتها...

الأمر بسيط جداً أيضاً...
كل يوم كنت أحمل بيديّ الزهرة...
رمز للأمل... انتظار لغد يأتي بالخير والشفاء...

اليوم... مختلف قليلاً... أحمل لها الخبر الأخير...
لن نحتاج للغد في شيء...
هيه... أنت... أيها الغد...
يمكنك أن تأخذ أجازة مفتوحة من الآن... لن نحتاجك ثانية...
دورك انتهى... بالسلامة أنت... وسلّم لي على بعد غد... وبعد بعد غد... فنحن لن نحتاج إليهم أيضاً...

أقدامي الحمقى... تركتني – في هذياني – أفكّر... وإذ بي أفاجأ أني أواجه غرفتها بالضبط... أسمع جلبة وصوتاً بالداخل...
ألم تتمكني من الانتظار قليلاً....
أوجب عليك تأدية واجبك على أكمل وجه اليوم...
أنا لم أرغب في أن أصل إلى غرفتها...

الجلبة بداخل الغرفة تجذبني...

في تردد كأني أفتح بوابة جهنم...
كأني اللص يسرق والشرطي جواره...
فتحت الباب... الذي أصدر صريراً مزعجاً... ألحظه للمرّة الأولى...
أجد بالداخل – حين فتحت – عدداً من الأطباء وهيئة التمريض...
و في الوسط تماماً...
كانت هي...
الرقيقة... الضئيلة... الحبيبة...

بسرعة أدركت كل شيء... هي تموت إذن...
أقدامي الحمقى... الحمقى...
أكان يجب أن تستغرقي كل هذا الوقت في الوصول ؟!!

الحمقى... الحمقى... الحمقى...

أعزائي... هل أستطيع الآن أن أبكي...
فقط أجلس مفترشاً الأرض وأنتحب...
لقد انتهى كل شيء...
لن أخبرها...
ألغيت المهمة الثقيلة...
كالعادة تصرف الإله ليزيح عني ما كنت أظن أني لن أستطيعه...

الآن أذكر... أني نسيت الزهرة... أذكر ثانية... أني نسيت...
كالملسوع أجري... أدخل الغرفة المجاورة...

كلا...
غرفة أخرى... لا...
غرفة ثالثة...

بالطرقة أحضر أحدهم باقة كبيرة ويبحث عن غرفة مريضه...
كالفارس – مقتحماً – هجمت عليه...
دفعته في قسوة بالغة... وأخذت باقة الزهور منه وجريت عائداً إلى الغرفة تاركاً إيّاه سابّاً لاعناً...

كانت الغرفة خالية الآن... والباب مفتوح...
أحس بقلبي ينتفض ويتقافز بين ضلوعي... طعم المرارة في حلقي...
و اللا هواء يدخل إلى صدري...
الأقدام المشلولة والأيدي المرتجفة... تقترب منها...

جميلة هي... حتى في الموت...
طيف من نور يطوّقها... انحنيت وطبعت قُبلة رقيقة على جبينها...
و بجوارها أسجيت الباقة...

أتراه الوهم يا تُرى... أم أني أراها تبتسم...
بل هي تبتسم...
هي المرة الأولى إذن أن يبتسم الموتى...

ليس هذا فحسب... بل أن يدها – التي كانت دافئة – فوجئت بها تستقر فوق يدي...

ارتجف جسدي كلّه وانتفض...
في هستيريا أردت أن أصرخ...

إنها حيّة... حيّة...
أجل هي حيّة...

كالمجنون هززتها... حبيبتي أن هنا... أنا هنا... أجيبيني... حبيبتي... أنا هنا... ها هي الزهور التي تحبين... أجيبيني...

كلا... لا رد...
بيدي المرتعشة بدأت أتحسس نبضها...
و انحنيت على صدرها علّي أسمع خفقات قلبها...

كلا... كلا... كلا...

الصرخة المتعاظمة داخلي لا زالت كما هي لم تجد لها مخرجاً...
و الدموع حبستها أجفاني في إصرار عجيب...

في بطء كالشحوب... نهضت عنها واتجهت نحو الشباك الوحيد بالغرفة ...
ارتج جسدي كله ثانية لدى سماعي صوت الرعد بالخارج...

بعيون مغرورقة نظرت إلى السماء... كانت لحظتها حين بدأ المطر يسقط غزيراً يغسل الدنيا وهمومها...

على الزجاج... كانت القطرات تتساقط في رتابة...

شـكـراً أيـتـهـا الـسـمـاء...
هـكـذا يـكـون الـبـكــــــاء...

- تـمّّّّّّـــت -


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى