الجمعة ١٥ تموز (يوليو) ٢٠١١
طرقنا بابكم أيها النقّاد
بقلم حسين سرمك حسن

فوجدنا الانفعال المفرط

سماويات (16):

لمحة عشقية مميتة من الشيخ «محيي الدين بن عربي»:

(يبقى أن أشير إلى أن الذوق هو، في ذروته العليا، نوع من الحيرة، ذلك أنه لا يُفسر. ولعل خير ما يفصح عن هذه الحيرة في التفسير نجده في رواية لابن عربي عن زليخا امرأة فرعون، في علاقتها مع يوسف. تقول الرواية إن زليخا جُرحت مرة فسال دمها على الأرض. وسرعان ما تحول هذا الدم إلى كتابة. ولم تكن هذه الكتابة إلا تكرارا لاسم يوسف، وللحروف التي يتكون منها. والسر في ذلك، كما يقول ابن عربي، هو أن زليخا كانت تحب يوسف إلى درجة أن اسمه كان يجري في عروقها مجرى الدم) (أدونيس: الكتاب الخطاب الحجاب).

مع سيدينا «علي» و «عمر»

......... وقد بلغ الخليفة عمر بن الخطاب قول أبي محجن الثقفي:

وإني لذو صبر وقد مات أخوتي
ولست عن الصهباء يوما بصابرِ
( الصهباء: الخمر)

وقال عمر إن الرجل اعترف بارتكابه شرب الخمر، ومن ثمّ وجب عليه الحدّ. فاعترضه علي بن أبي طالب مذكرا له بقول الله في القرآن "والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كلّ وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون" فتوقف عمر عن إقامة الحد، إذ تبين أن للشعر – والإبداع عموما – خصوصية في استخدام اللغة استخداما جماليا – صحيفة " أخبار الأدب "، العدد 850 ).

طرقنا بابكم أيها النقّاد.. فوجدنا التعاطف المفرط

عن قصيدة " طرقنا بابكم فأجاب صمتُ " والتي يقول فيها الشاعر:

وعاتبني فمي: أيجوز قتلي
على عطش.. وفي عيدٍ أصومُ؟
فدعني أستقي من نبع شهدٍ
ليعسل في دمي صابٌ صميمُ
 
وكدتُ أقولُ: لا نُسكا ولكن
مخافة أن يُقال فمٌ ذميمُ
 
وخشية أن تعيش فماً طريدا
كـ " آدم " حين أغواه الرجيمُ

يعلّق الناقد الدكتور " محمد جاهين بدوي " في كتابه " العشق والإغتراب في شعر يحيى السماوي " بالقول:

( وشاعرنا ينوّع في الأبيات على موروثه الديني والروحي والثقافي في براعة استدعاء لذلك الموروث، وقدرة على التوظيف الفني لافتة بثرائها الدلالي والإيحائي، ترى ذلك في عتاب فمه إياه: " أيجوز قتلي على عطش؟ " لما في ذلك من شديد النكاية، والإيغال في النكال، ولا يخفى ما في هذا التركيب من إشارة إيمائية لافتة من طرف خفي إلى ذلك التماهي الروحي الغائر بوجدان الشاعر بصورة الشهيد الحسين بن علي، عليهما سحائب الرحمة والرضوان، عندما قُتل هو وعياله ظماء، والفرات يجري أمام أعينهم عذبا زُلالا!، وذلك إمعانا من قاتليهم في الحقد والكراهية، والمُثلة والنكال – محمد جاهين بدوي – ص 47 ).

وهنا يحضرني رأي دقيق للدكتور " علي زيعور " من كتابه " اللاوعي الثقافي ولغة الجسد " يقول فيه:

( لفهم النصّ، فهماً متعمقاً، لا غنى عن صلة وثيقة أو صداقة بين الموضوع والناقد، صلة قريبة تقوم على الوداد والاحترام. هذه الفضيلة الضرورية هي التراحم حيث المحبة مع حسّ المسؤولية التي تجعلنا نافذي النظر، متبصّرين بجلاء. وإن عدم وجود هذه العاطفة عند الناقد هي التي تجعله يتربص بالهفوات، هادماً، يفتش عن الأخطاء فينفي ويسفّه ويهاجم أكثر من أن يترجم المحبّة والسير بحسب حركتها. إنّ المعرفة الصحيحة للعيوب تنتج هي بدورها من التعاطف الذي ينشأ بين الناقد والقطعة المعروضة للنقد – ككائن خاص له مزاياه وعيوبه – تُقسّم الناقد وتشرّحه، ثم لكونها شيئاً واقعياً فلابد إذن من أن تُحترم وتُحب. لذا تتطلب فضيلة التعاطف هذه صفات في الناقد ممتازة، وغنى داخلياً وثروة ثقافية وأخلاقية مع إيمان بالقيم والغير، مما يجعل الحكم النقدي (التنقيد) أو (التقييم) قريباً من القاعدة المفروضة من الداخل، بل يصبح ذوقه هو القيم ذاتها بلا انفصال أو تباعد.. (...) والناقد هو ما يتجسد منه في مهاجمته لتلك الناحية دون تلك. والإغضاء عن نقطة أو مدح أخرى، فتبدو نفسيته بجلاء، وقد تتخفى أحياناً، إلاّ أن مشاغله بصورة عامة توجّه سيره النقدي لا شعورياً أو من جهة أخرى بتفكير ونيّة مدروسة. إنه يختار نفسه، فيعطي نفسه المعنى الذي يودّ، وذلك من خلال عمله أو سلوكه تجاه النقد.. النقد شاشة تعكس توترات الناقد وانجراحاته النفسية الاجتماعية وعصابه ).

وفي الوقت الذي يحذّر فيه زيعور من إفراط الناقد في موقفه السلبي من النص الذي يجعله يتصيّد أدنى نأمة من حنجرته كاشفا عن انجراحاته النفسية والإجتماعية وعصابه، فإنني أقول – كي تكتمل الصورة التي طرح زيعور نصفها تقريبا – إن الإفراط في تعاطف الناقد مع النص حدّ تحميل بعض جوانبه ما لا تحتمل، أو ليّ عنق التأويل نحو دلالات مضخّمة أوسع بكثير جدا من المعنى البسيط الذي تحمله الصورة مثلا، قد يكون وجها آخر لانجراحات مماثلة. فحين نحاول ربط موقف راهن في نص ما بموقف تاريخي أو أسطوري كبير يتطلب أولا أن لا نقف عند حدود التشابه الشكلي لأن ذلك سيوصلنا إلى مرحلة شديدة الخطورة يُسفّه فيها المحتوى العميق ذي الدلالات الكبيرة لذلك الموقف التاريخي أو الأسطوري. يجب أن يكون هناك أولا تكافؤ في القصدية.. في الغاية من السلوك المعني في النص وذاك المرجعي المُقارن به في الأسطورة أو الواقعة التاريخية. بخلاف ذلك فإن موقف لاعب كرة القدم الذي يصيح في وجه مدرّبه الذي يفرط في تدريبه: هل تريد قتلي من العطش، سيكون – وفق هذه الحسابات الشكلية – استدعاء لموقف الإمام الحسين بن علي الذي قُتل عطشا!! ولعل موقف الناقد بدوي، وقسم كبير من مواقف النقاد الآخرين، يعود أصلا إلى اقتطاع الصورة من سياقها الكلي.. من " صورتها الكلية – gestalt ".. فقبل الأبيات التي وقف عندها بدوي هناك أبيات ذكرها الناقد وهي:

رأى فيها بـ " بندة " خلف سترٍ
صباحا خلف داجية يقيمُ
 
تبعثر جمعه واحتار قلب ٌ
وغادر ثغره الصوت الرخيمُ
 
وكاد يشد عن وجهٍ نقابا
ليشرق مشمسا صبح كريمُ
 
فـ " بندة " حين قابلها نعيمٌ
و " بندة " حين فارقها جحيمُ

ولكنه – أي الناقد – قطع السلسلة الدلالية عندما وقف عند البيت التالي الذي يحتج فيه فم الشاعر على إحجام الشاعر عن رفع النقاب عن وجه المرأة الفاتنة وهو سلوك متصابٍ وناشز ويناقض الواقع الإجتماعي والأخلاقي.. كان الفم ذا نوايا مسمومة وغادرة معبرة عن الطابع النزوي لـ " الهو " مستودع الغرائز، يبغي الإشباع الفوري الذي لا يقيم للنواهي مهما كان نوعها أي اعتبار.. إنه يريد إشباع حاجاته الجنسية قافزا فوق أي حواجز أخلاقية أو اجتماعية.. وهنا تناقض جذري في النوايا.. في دوافع السلوك لا يمكن مقارنتها بالدوافع المبدئية العظيمة التي حفزت الحسين على الإستشهاد.. ويقف على الطرف الآخر من التفسير النقدي تجاه هذه القصيدة موقف الناقدة القرني التي تحاكم الأبيات السابقة: " رأى فيها بـ " بندة "... بطريقة " جغرافية " لتثبت استحالة وقوع مثل هذا اللقاء بين الشاعر والمرأة التي يشبب بها حيث تقول:

( مع اشتعال هذا الموقف خاطرا مفعما بتفاصيل التوقع / طيف جفن يقتص من مطال فاتن!، فالذي يعرف " الرياض " المدينة، و " بندة " السوق التمويني البعيد تماما عن أن يكون ميدان لقاء من هذا النوع ربما شاركني استبعاد حدوث الموقف واقعا، خاصة.. والشاعر يؤكد المرة بعد المرة استحالة رؤيته لها حقيقةً، وأنها – وحسب – حلمه المنشود وفردوسه المفقود – القرني، ص 223 ).

ولكن الشاعر لم يقل في أبياته أبدا أن لقاء طويلا ولا حتى وجيزا جمعه بتلك المرأة / امرأة القصيدة، إنما هي نظرة خاطفة شاهد فيها صباح وجهها البهي يلهث فتنة خلف دجى نقابها، فاشتعلت جوارحه وودّ لو يشد النقاب عن وجهها.. هكذا نظرة بمقدار بيتين شعريين يمكن أن تحصل في أي سوق حتى لو كان من اسواق الحميدية أو باب الخليلي. وينبغي علينا أن نضع في اعتبارنا أن نظرة الشاعر ليست مثل نظرة الإنسان العادي، فهي نظرة " قنّاص " مخيف.. يمسح المشهد ويحدد الهدف ويقنصه قبل أن يرتد طرفنا إلينا.
إفراط من نوع آخر: سرير " بروكست "

ولكن هناك إفراط من نوع آخر، ويتمثل في المبالغة في ربط حيثيات سيرة الشاعر الذاتية وواقعه الفعلي بافكار وصور وخيالات نصه الشعري. اي محاولة توسيع دائرة الواقع الشعري والحقيقة الشعرية لتمتد وتتشابك مع دائرة الواقع الموضوعي والحقيقة الموضوعية، وهو أمر لا غبار عليه بشرط أن تكون هناك مبررات مفهومة ومعقولة تجعل هذا التداخل معقولا، وتتجلى معقوليته – بطبيعة الحال – في إثراء النص وإغنائه برؤى جديدة وتحليلات مثرية لا تكون مقحمة وأحيانا مفتعلة. وتحضرني هنا معلومة ذكرها المحلل النفسي الشهير " كارل غوستاف يونغ " في مذكراته. ومن المعروف أن يونغ قد بدأ مسيرته العلمية تلميذا لسجموند فرويد – معلم فيينا – ومريدا له ثم انشق عليه ( حاول قتل الأب بالمصطلحات الأوديبية الفرويدية ) وكون له مدرسة خاصة به. يقول يونغ إنه كان دائما يحلم بوجود غرفة خفية في بيتهم الضخم.. يحلم بها كل ليلة. وذات يوم جاءه أحد الخدم راكضا ليخبره بأن جدار إحدى الغرف قد تهدم، وأنهم اكتشفوا غرفة مخفية خلف الجدار المتهدم وكانت تحتوي على مكتبة هائلة. وعندما سأله الصحفي: لماذا لم تخبر أستاذك فرويد – وهو المتخصص بتفسير الأحلام – بحلمك هذا كي يفسّره؟ أجابه: لم أكن أستطيع لأنه سيقول لي حتما هذه الغرفة المخفية هي فرج والدتك!!. هذه المواقف تقرب مما يسمى لدى الفلاسفة بـ " سرير بروكست " إحالة إلى قاطع الطريق الإغريقي الذي كان يضع ضحاياه على سرير حديدي، فإذا كانت الضحية أطول من السرير قطع ساقيها، وإن كانت أقصر شد ساقيها لتكون بطول السرير والنتيجة أن الضحية تموت في الحالتين. مثل ذلك يُقال عندما نحاول كنقاد أن نقيم صلة بين " حقائق " النص، ووقائع سيرة الشاعر مبدع هذا النص. وبالنسبة لتجربة يحيى السماوي يحصل هذا كثيرا حين يقوم النقاد بمحاولة ربط أبسط إشارة في نصوصه بمحنة اغترابه وترحّله بعيدا عن وطنه، حتى تشعر أن هذا الربط مصطنع رغم إيماني المطلق بأن التجربة الذاتية للشاعر يجب أن تكون حاضرة دائما عند دراسة نصوص أي مبدع، فأنا ممن يعارضون أطروحة " موت المؤلف " بصورة كبيرة. من قصيدة " ستسافرين غدا " يقتطع الناقد بدوي القسم التالي:

الآن أرفع راية استسلام قلبي
جهّزي قيدي
خذي بغدي
لأختتم التشرّد بالإقامة
خلف بابكْ
جفنا تأبّده الظلام
فجاء ينهل من شهابكْ
وفماً توضّأ بالدعاء
لعل ثغرك سوف يهتف لي
" هلا بكْ "
لازال في البستان متسع لناركِ
فاحطبي هجري
عسى جمري يذيب جليد ظنّكِ
وارتيابكْ
إني ليغنيني قليلك عن كثير الأخريات
فلا تلومي ظامئا هجر النمير
وجاء يستجديك كأسا من سرابكْ
فإذا سقطت
مضرجا بلظى اشتياقي
كفّنيني حين تأتلق النجوم
بثوب عرسٍ من ثيابكْ
واستمطري لي في صلاتكِ
ماء مغفرة ٍ
فقد كتم الفؤاد السر
لولا أن شعري
قد وشى بكْ

ويعلق بدوي على ذلك بالقول:

( وفي هذه القصيدة تتجلى لنا عاطفتان في نفس الشاعر تجاه هذه الحبيبة، قد تبدوان متباينتين، ولكنهما متناغمتان كل التناغم، متساوقتان مع طبيعة تجربته أشد التساوق ، وهما عاطفتا المحبة، والشوق العرم إلى الوصال، والتوحد بالحبيبة، والتخوف من الختام الدامي، والنهاية المأساوية، أو الاستشهادية في سبيل هذا الوصال، فهو يتوق إلى الحبيبة ويحن إلى حضنها، ويعلن استسلام قلبه إليها، ودخوله طواعية وعشقا في لذيذ قيدها، وشهي إسارها طالبا إليها أن تأخذ " بغده " وما بقي من عمره، ليختم فصول مأساته في التشرد بين المنافي " بالإقامة خلف بابها " وفي هذا التركيب ما يوحي بتفضيله المكث في إسار الحبيب / الوطن، وغيابة جبّها على كونه مطلق السراح، مشرّدا منفيا في مختلف الأنحاء والأقطار، بوصف ذلك نتيجة شعورية حيمية لمن عضته نيوب الغربة، وحرّقه هجير المنافي، فإذا هو يرى بعد طول الشتات أن جحيم الوطن خير من جنان المهاجر والمنافي.

ثم يردف بذكر طائفة من الصور الاستعارية التي تعرب عن مدى تهيامه بهذه الحبيبة، وطبيعة تمثله لها ذهنيا وشعوريا، فهو " جفن تأبده الظلام " وفي تعبيره بقوله " تأبده " ما يشي بطول المدة الزمنية التي قضاها الشاعر مغرّبا، وعميق وقع ذلك في نفسه، فكأن تلك السنوات لديه صارت أبد الآبدين، لا نهاية لآماده وأبعاده – بدوي، ص 39 و 40 ).

لكن الناقد قفز المقطع الافتتاحي الذي لا تكتمل الصورة التحليلية الكلية من دونه:

ستسافرين غدا؟
إذن ما نفع حنجرتي؟
سأدخل كهف صمتي
ريثما تخضرّ صحرائي
بوقع خطى إيابكْ
لأعود ثانية سؤالا حائرا:
كيف الوصول إلى سحابكْ
إن قد عجزتُ
عن الوصول إلى ترابكْ؟

وهو مفتتح عشقي يتخوّف فيه الشاعر من قلق الإنهجار.. أن تتخلى عنه حبيبته بالسفر فيعود معتزلا ناكصا لا يقوى على مواجهة الحياة من دون عونها والتحامه بها. ولا توجد أي إشارات مباشرة أو غير مباشرة على وجود عاطفتين متباينتين تتصارعان في أعماق الشاعر وتؤثران في سلوكه: عاطفة الشوق العارم إلى التوحد بالحبيبة، وعاطفة التخوف من النهاية المأساوية و " الاستشهادية " التي ستترتب على هذا الوصال. هناك عاطفة واحدة: عاطفة الشوق المستميت للإلتحام بالحبيبة المشتهاة. إنه يستقبل حتى عطاياها المعذبة بروح مازوخية تعلن عن امتنانها لمعذبها في كل خطوة. إنه يبارك اندحاره على يديها فهو يعده انتصارا:

لابدّ من حلمٍ ٍ
لأعرف أنني قد بتّ ليلي
في غيابكْ
الآن يكتمل انتصاري
باندحار غرور أشجاري
أمام ظلال غابكْ

هي عاطفة واحدة: واحدة بطبيعتها العشقية العنيفة.. وواحدة باتجاهها الموحد نحو موضوع حب واحد. لكنها تتدرج في طاقتها العاطفية من الإنذهال والعجز الطفولي عند غياب الحبيبة / الأم، إلى الفناء فيها وفي سبيلها.. من الاستسلام الكامل والنهائي للمعشوقة إلى الموت من أجلها حبا. وتأتي الإشارة إلى أن الشاعر يريد أن يختم حياة تشرّده بالإستقرار في أحضان حبيبته عابرة لا صلة لها بأي عمليات نفي وتهجير وتغريب خاصة بشاعر عراقي عن وطنه المحدّد. بمعنى أن الشاعر يذكر تشرّده هنا كنتاج نفسي لضياعه الناجم عن عدم القدرة على اختيار موضوع الحب النهائي.. لا توجد أدنى إشارة إلى المنافي والتنقل بين البلدان.. ولا يمكن أن نوافق على استنتاج الناقد بأن الشاعر يفضل " جحيم الوطن على جنان المنافي " لأنه يتوق إلى أحضان امرأته الفردوسية التي لم يذكر أية صفة سلبية – جحيم مثلا – لها. ولعل في السؤال الأول ثيمة مفتاحية كبرى تحسم الأمور: ستسافرين غدا؟، فالحبيبة المسندة للوجود الفردي هي التي ستسافر وتترك الشاعر بحيرته وضعفه.. أي أنه قلب الأدوار هنا.. فالمرأة المخاطبة هي التي ستهجره وتهجر ذكرياته وحنينه وليس هو. وهو يدعوها إلى العودة والبقاء حتى لو كلفه هذا الأمر الفناء النهائي بين يديها. ثم أن موضوع الحب هذا لم يقم الشاعر بتوسيعه بصورة ظاهرة كي يصبح رمزا لوطن كما يقول الناقد، بل بقي في مراوحة بين الوجود الأنثوي الفردي " الأرضي " والأنموذج المؤمثل الذي يطمح الشاعر لأن يجعله " مطلقه " الشخصي يذوب في حضوره صوفيا. وفي موضع آخر يعلّق الشاعر على أحد المقاطع في القصيدة بطريقة ينطبق عليها المثل الشائع " وفسّر الماء بعد الجهد بالماءِ "، وما سيحكم بيننا هو عرض الأبيات الشعرية التي رسمها الشاعر يحيى السماوي، والتفسير النقدي للناقد محمد جاهين بدوي:

أ – الأبيات الشعرية:

إنّي ليغنيني قليلك عن كثير الأخريات
فلا تلومي ظامئا هجر النمير
وجاء يستجديك كأسا من سرابكْ

ب – التفسير النقدي:

( تالله ما أعذب هذا الشعور، وما أرقّ هذه العاطفة، وأرقاها، وأنبلها، إن قليل هذه الحبيبة لدى شاعرنا، وإن كان وهماً، ليُغنيه عن كثير الأخريات، وإن كان حقّا وصدقا، وإن كأسها – وإن كانت سرابا خادعا – لجديرة بأن يهجر من أجلها كل ماء عذب نمير، وإن حرّقه الظمأ، واستبد به لظاه – بدوي، ص 41 و42 ).

ويتكرر مثل هذا الموقف التفسيري كثيرا في كتاب الناقد: " العشق والاغتراب في شعر يحيى السماوي.

من ناحية أخرى نجد الناقد يفسّر المقطع الأخير من القصيدة الذي يقول فيه الشاعر:

فإذا سقطت
مضرجا بلظى اشتياقي
كفّنيني حين تأتلق النجوم
بثوب عرس من ثيابكْ
واستمطري لي في صلاتك
ماء مغفرة
فقد كتم الفؤاد السر
لولا أن شعري
قد وشى بكْ

فيقول:

( إن صاحبنا السماوي يلقي بنفسه شعوريا مستشهدا في أتون هذه المعشوقة، مستحضرا روعة الإستشهاد، وألق الموت في حضنها، وإن كان جحيما، على طريقة المتصوّفة الذين يرون في الفناء سبيلا إلى البقاء، وإهلاك النفوس في المحبة، سبيلا إلى وجودها الحقيقي. إن السماوي يصنع ذلك – في المقطع الأخير – ببراعة فنية فائقة إذ يقول: " فإذا سقطت مضرّجا بلظى اشتياقي " وتأمل سريعا هذه التقابلية اللافتة في معجمه، إذ يجمع بين " مضرّجا " و " لظى الإشتياق " وما في ذلك من مفارقة معبّرة آسرة – ثم أرجع البصر إلى جواب " إذا " المتمثل في مشهد هذا العرس وميقاته الذي " تأتلق النجوم " فيه وضّاءة هادية، مطرّزة ثوب عرس هذا الشهيد، الذي هو من ثياب احتضانها إياه، واحتوائها له، وكأن لحظة حلوله في حضنها التي ترادف لحظة عرسه، إنما هي لحظة نهايته وزينته لهذا العرس الجنائزي.

وإنه ليبتهل إليها في هذه اللوحة المشهدية طالبا إليها أن تصلّي لأجله، مستمطرة شآبيب الرحمة، وسحائب الغفران، فلطالما تكتم فؤاده سرّ محبته، وأعياه تكتم لواعجه وآلامه، لولا أن شعره قد أذاع ما تجنّ أضلاعه، وهل تستطيع الروضة الغنّاء أن تكتم مواجيدها فلا تبوح عشقا، أو تفوح عبيرا؟! – بدوي، ص 42 ).

وهنا نقف أمام توصيف " الشهيد " في العشق ومقدار مقاربته للمعنى الأصلي الذي أسس من اجله في الثقافات العالمية عموما والعربية الإسلامية خصوصا. إنه موت " شعري " في حب المحبوب.. نوع من المازوخية التي ترتد فيها غريزة العدوان على الذات فتدمرها.. يتسق هذا الموقف مع مجمل سلوك الشاعر الحبي على امتداد القصيدة معبّرا عنه بإقرار الإندحار وإعلان الإستسلام الموصل إلى احتراق بستان عمر الشاعر بنيران الحبيبة والتخلي عن النمير من أجل استجداء السراب.. والتي هي في حقيقتها مشاريع التحام مؤجلة.. هي تمنيات وطيوف رجاء تقودها " لعل " و " عسى " و " إذا ".. وتصل الذروة في هذا العدوان المغلّف الماكر على زوج الحبيبة حين يطلب الشاعر القتيل من الأخيرة أن تجعل ثوب عرسها كفنا له فيشملها بآثامه حتى بعد موته.. وأن تدعو له بالغفران ؛ أن يغفر له الله ذنبا قاصما – كما يحسبه هو – وهو أن شعره أفشى حبّها، وحتى في هذا الإعتراف هناك مراوغة متقنة حيث يضع المسؤولية على شعره ويتخفف منها هو الذي كتم فؤاده غرامها على طريقة القاعدة النبوية التي تنص على أن من أحب وعف وكتم ومات فهو شهيد. ولعل انحياز الناقد وحماسته لعدّ الشاعر " الإنتحاري " شهيدا ينبني على الأسس اللاشعورية ذاتها التي حكمت موقفنا الجمعي من تنزيه سلوك العشاق العذريين و " أمثلتهم " كنماذج خارقة وصوفية الفناء في موضوعات حبّهم ناسين وغافلين بفعل الغشاوة اللاشعورية أن حبيباتهم كلهن على ذمة أزواج آخرين ولذلك فمن الصعب – بل المحرّم - أن يقمن بتكفين عشاقهن بثوب عرسهن!!.

ولعل هذا الإفراط في تأسيس الدلالات الإغترابية يأتي صارخا في تعليق الناقد على قصيدة " طرقنا بابكم فأجاب صمتُ " حيث يذكر الأبيات التالية منها:

ويا أحبابنا لو كان يجدي
عتاب لانبرى قلب هضيمُ
 
تحصّن بالجنون لدرء نصحٍ
يقول به المجرب والحكيمُ
 
يغص يراعه لو خطّ سطرا
لغيركمُ ويجفوه النعيمُ
 
أتُغني الطير عن غصن نقوشٌ
لتغنينا عن الوصلِ الرسومُ؟

حيث يقول:

( ومن الواضح في هذه الأبيات أن هذه التجربة الوجدانية أصيلة ومتجذرة في نفس الشاعر ووجدانه، وليست مجرد أصداء عابرة لتجربة موقوتة، أو إعجاب آني بصورة جمالية مسطحة لاحت له عبر بعض المجالي، ولكن هذه التجربة تكتسب مذاق خصوصيتها من خصوصية تجربة الشاعر الحياتية، ومأساته الوجودية عامة، فالعشق بالنسبة لنفس الشاعر نفخة الروح في طينته، وانبعاثه طائرا غردا من رماد الحياة المهيل، ولكن شاعرنا حُرم – مع حرمانه من نعمى القرار إلى صدر الوطن – لكثير من معاني السكينة وطمأنينة الفؤاد، وقرارة الوجدان، والسكنى إلى حضن الحبيبة على نحو تظلله وارفات الأمن والسلام، فأنى يعشق وهو المطارد في الأرض، مستطار النفس واللب والفؤاد، باحثا عن ظلال فردوس مفقود، يحمله بين جوانحه مهيضا نازفا؟ – بدوي، ص 49 و 50 ).

ومن الضروري القول هنا إنه لا توجد في هذه القصيدة أدنى إشارة لا إلى غربة ولا اغتراب ولا منفى يرتبط بخصوصية تجربة الشاعر الشخصية. هي وقفة على باب الأحبة حيث يستعيد الشاعر صور عشقه المستحيل لهم، ونزوعه المازوخي في تحمل جمر الصبابة ذائدا عن هواهم بنزيف الروح. وهي استعادة لنزوة اندفاعية متأججة كادت تخرجه عن وقاره في سوق " بندة ". ثم تمنية النفس بأمل اللقاء رغم الجراح وأمواج الاقدار العاتية التي كسرت مجذافه وألقته بعيدا عن أحبته.

سماويات (16):

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى