الثلاثاء ١٩ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم مهند النابلسي

عين الطائر والعدسة المكبره!

كل من زار «فينا» يتذكر الارجوحة الضخمة أو «العجلة الكبرى» التي ألهمت الاديب العالمي «غراهام غرين» لكي ينسج حولها احدى أهم رواياته «الرجل الثالث»، فعندما تبدأ المركبة بالصعود دورانا، تتصاغر أحجام المخلوقات لحد الضآلة، حتى أن الشرير في الرواية المذكوره يجد في ذلك مبررالقتل الناس، لأنهم يتحولون حسب وجهة نظره «لذباب أسود اللون»! فهل يمكن لانسان أن يشعر بالتعاطف والشفقة تجاه الذباب؟ وماذا يضيره لو تلاشت ذبابة وكفت عن الحركة للأبد؟! انها عين الطائر التي سعى الانسان طويلا «للتمتع بها»، وكد من أجلها طوال العصور، ابتداء من محاولات الرائد عباس بن فرناس، وحتى اختراع طائرات الشبح التي تعجز الرادارات عن كشفها.واذا كان شرير «غراهام غرين» قد رأى الناس ذبابا من ارتفاعه المتدني نسبيا.، فماذا رأى الطيارون من كابينة القياده ابتداء من الطائرة التي قذفت هيروشيما بالقنبلة النووية الاولى، وانتهاء بطائرت اف16 وبي 52 وحاليا الطائرات الروبوطية بدون طيار والتي ما زالت تفتك بالبشر بكبسة زر وكأنها لعبة الكترونية، كذلك لابد من ذكر «عيون رواد الفضاء» من الارتفاعات الشاهقة، وعدسات المركبات الفضائية والاقمار الصناعية التي تجوب الفضاء الخارجي لأغراض علمية-بحثية أو حتى تجسسية!

في الفيلم الأخير لبيتر جاكسون «العظام الرقيقة» ترصد روح فتاة «تعيش في السماء» المسار الدرامي لاسرتها المنكوبة (بفقدانها الناتج عن خطفها واغتصابها وقتلها) وتعاين التفاصيل اليومية لقاتلها الشاذ الطليق...وحيث يلقى حتفه بفعل الصدفة فقط، عندما يتعرض لسقوط قطعة مدببة من الجليد على كتفه أثناء تحرشه بفتاة جديدة! هكذا نلحظ هنا "عين الطائر" ممثلة في "فتاة السماء" وهي ترصد حركة الأقدار ومصائر الأشرار! وكذلك ينعت سكان كوكب "بانادورا" (في فيلم آفاتار) المهاجمين الطامعين بثروات كوكبهم الافتراضي "بغزاة السماء". وأعتقد أن الطغاة العرب يتحلون بنفس النظرة "البعيدة" التي ترى ترى جموع المتظاهرين نملا صغيرا لا ضير في سحق بعضه لضمان الطاعة والولاء، وحيث يسلطون عليه الكتائب و البلطجية والشبيحة والزعران (تبعا للتسمية الدارجة في البلدان العربية المختلفة)، كما تسلط اسرائيل "المدللة والمدعومة من المجتمع الدولي المنافق" قطعان المستوطنين ضد القرى الفلسطينية الآمنة ليعيثوا فسادا وحرقا وتنكيلا!

هل نستنتج من ذلك أن النظرة البعيدة قد تلغي أحيانا التعاطف الانساني الحميم؟وهل نحل مشكلة غربتنا الروحية باللجؤ للنظرة القريبة (المكبرة)؟تبقى المفارقة المزعجة فسارتر يتحدث عن "الشعور بالغثيان"، وخاصة عندما تبدأ بالتحديق في شيء ما حتى ينحل شعورك "بمعرفته"، ويصبح غريبا وغير مألوف.حاول أن تحدق مليا في وجه انسان تعرفه جيدا، واطل التحديق فيه لتكتشف أنه يصبح بالتدريج غريبا عنك!

وبينما يذهلنا العلم يوميا بابداعاته البالغة الاعجاز، نفاجىء بفقدان التواصل البشري والروحاني في الكثير من أوجه حياتنا، وكما راقب كامو انسانا يقوم بحركات غريبة في غرفة تلفون مغلقة بدون أن يسمع كلامه، دعنا نراقب تشنجنا الدائم، وانعدام تواصلنا وعدم تقبلنا للآخرين وغربتنا كما نتأمل شريطا سينمائيا بدون صوت، وبسرعة زائدة، حيث تتحول الانفعالات لحركات "كاريكاتيريه" تثير الضحك والسخرية، وللتأكد من ذلك يكفي مراقبة انفعالات وصراخ المتحاورين في برنامج الاتجاه المعاكس، أو في عرض وجهات النظر المختلفة والمتناقضة لخضم ربيع الثورات العربية المتأججة، ثم في التناقض الواضح بين جمهرة الثوار ومظاهرهم الكادحة والبسيطة والصادقة، وبين الأدعياء والمتسلقين وسارقي الثورات بوجوههم اللامعة وبزاتهم الأنيقة وكلامهم المتشدق الكاذب، كما أن سعي بعضهم للاستقواء بالمستعمر القديم بهدف الجلوس على كراسي الحكم والاستيلاء على السطة أصبح يثير الاشمئزاز!

لماذا نذبح الحيونات، ونصيد الأسماك، ونسحق النمل في طريقنا، ونعتبر ذلك عملا عاديا ؟ لأن الآخر الذي نقتله بالرغم من كونه كائن حي، الا أنه ليس من نوعنا، وبالتالي يجب تقبل قتله ومعاناته كنتيجة طبيعية لرغبتنا في اشباع غرائزنا وحاجاتنا الانسانية، فوجودنا كبشر (أو تنوع وجود الكائنات ما بين مفترس وضحية) يعتبر بمثابة كارثة للحيوانات الضعيفة! وبالتالي ألم تكن ممارسات وعهود الاستعمار "صورة بشرية" درامية لهيمنة المتفوق واحتقاره الشديد للآخر "المتخلف أو الضعيف لا فرق"، وللتأكد من ذلك يكفي مراقبة شريط تسجيلي لطريقة تعامل المستعمرين البلجيك الأوائل للأفارقة المحليين في ما يسمى الآن دولة "الكونغو"، وذلك على سبيل المثال لا الحصر! وحتى في نظرة الطغاة وعائلاتهم وحاشيتهم وأزلامهم وجلاديهم وباقي الفاسدين والمنتفعين لباقي جماهير الرعية البائسة التي تعاني من التهميش والفقر والمعاناة والاحتقار! ومع ازدياد الهوة "العلمية والتقنية والاقتصادية وحتى الثقافية" والتي تصنف البشر مابين "متخلف ومتحضر"، وفقدان النزعة الأخلاقية والضمير الانساني فان الخشية تزداد من ممارسات "شوفينية –عنصرية- فوقية" تمكن "المتفوق والقوي" من قتل واستعباد ألآخر "المتخلف نسبيا" ارضاء لغرائزه ونوازعه واساطيره ورغباته وتطوره العلمي وبشكل غير مسبوق، وربما العدوان الوحشي الذي قامت به اسرائيل على غزة مؤخرا يمثل نموذجا عمليا "عصريا" لهذه الممارسات، اذا ما أخذنا بالحسبان التحريض على القتل والكراهية التي مارسها "حاخامات" الجيش الاسرائيلي عندما شبهوا "العرب والفلسطينيين" بالصراصير التي يجب سحقها! كما أن الممارسات الحالية لاجهزة القمع العربية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك وجود هذه النظرة "الغير انسانية "، التي تتعامل مع المتظاهر أو المحتج بطريقة دونية- سادية بشعة!

لا تتوافق غرائز البشر مع تطورهم العلمي وستبقى شعوب كثيرة تعاني من هذا التناقض، واذا ما أردنا أن نتجنب مصير تحولنا "لحيوانات تجارب"، فربما قد آن الأوان لحملات تنوير شاملة تخلصنا من الترهات والخرافات والتشرذم والفساد، وأنماط الفكير الاستعراضي وغيرها من العلل والآفات التي تعاني منها الشخصية العربيه! كما أنه لا يجوز أن يستمر الطغاة وحاشيتهم في الظلم والاستعباد وممارسة أسوأ أنواع القهر والفساد المؤسسي بلا مساءلة ولا رادع وكأننا مازلنا قابعين في الردهات المظلمة للقرون الوسطى!

غني عن القول أن الحرية والديمقراطية واحترام الانسان والنظام والقيم الأخلاقية الدينية والاعتماد على الذات وبناء المؤسسات هي العناصر الأكثر أهمية لبناء الحضارة والتقدم، والزمن لا يرحم في سباق التناقس بين الامم والشعوب، فيما (وربما) يعكف العلماء في مختبرات "سرية" لاجراء تجارب أولية لبحث امكانية صناعة "روبوتات" بشرية مستقبلية ذات عناصر "مهجنه"، والخشية من تحول أفكار "الخيال العلمي"الى واقع ينتج عنه "كائنات" مركبة فاقدة للروح الانسانية، ومشحونة بذاكرة "سيليكونية" انتقائية استعلائية تمارس العنف والقهر بشكل ميكانيكي خال من الاحساس بالذنب "ووخز الضمير" البشري، وقد تساعد صانعيها على انجاز المهمات "الاستعمارية" بدون تعريضهم للمسائلة القانونية، فمن سيقدم "روبوتا" أساء التقدير للمحاكمة ؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى