الخميس ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

لعنة

ظلَ حميد العراقي البالغ من العمر السادسة والخمسين، يعاني من صداع حاد في رأسه، جعله عرضة للقلق والإرهاق، بعدَ أن تواطأ ألم الرأس معَ وجع الظهر ضده! فيقفز من مكانه صارخاً بأعلى صوته وكأنه لدغ من أفعى للتو، محدث جلبة رنانة، عميقة وقوية كالرنة التي يحدثها الناقوس الكبير عندما يقرع! فتنهال كلماته دونَ انتظام ... أرجوكم أنقذوني... فرأسي تكاد تنفجر وهناك ألم يقطع أحشائي كأسنان الذئب وهي تنهش في لحم ضحيته، ثمَ يدمدم: أعوذُ بالله ما هذا الألم الذي يصهر قلبي ويجعله لا يقوى على النبض؟ فيعود ليصر على أسنانه بقوه وكأنه يحدها كما تحد السكاكين وهو يستطرد قائلاً بتذمر وبحالة من الهستيريا: عليّ أن أكتب وصيتي، فيومي باتَ قريباً، ويعلم به حتى الشيطان! ثمَ يردف مهتاجاً، آه .. ها أنا في الغربة وسأموت وحيداً بلا رحمة ... ثمَ تغوص روحه بقلق في قلبه وهو يتلوى كالثعبان وهو يزحف، بعدَ أن اغرورقت عيناه بالدموع وتألقت كالفضة! ليبدو وكأنه أنفصل للتو عن الحياة كما تفصل السكين الحادة غصن شجرة!

دخلَ عليه جيرانه الألماني العجوز سيد ماير بعدَ طرقَ الباب لفترة طويلة، وقد فتحَ له حميد بشق النفس وهو متذمر واتسعت عيناه رعباً ثمَ رطن معه باللغة الألمانية التي يتقنها بشكل مقبول قائلاً بتوسل كالشحاذ: أرجوك يا سيد ماير أتصل بالدكتور، فأنا أشعر بأني سأموت قريباً.

 هون عليك الأمر يا سيد هميد( وهو يلفظ حرف ال ح، بالهاء) فأنك مازلت شاباً ولم تتجاوز الستين (حسب علمي)، لماذا تقول إذن بأنك ستموت وأنت بهذا العمر؟! ثمَ أردفَ بصدق وبعصبية دونَ أن ينظر له: أرجوك أنت يا سيد هميد، أنكم الشرقيون غريبين الأطوار حقاً! فما أن يصل عمر الإنسان فيكم إلى الخمسين حتى يقول بتضرع وهو يبكي، لقد شخت وأصبحت عجوزاً، ولا أقوى على الحركة أو العمل!

ينظر له حميد بعيون واسعة، متعبة وهو يهمس خافتاً وبصوت يكاد يكون غير مسموع: دعك من الشرقيين ومن أحكامهم ولعناتهم الآن وأطلب لي الدكتور حالاً.. ثمَ على صوته فجأة كالمستنكر يشرح وجهة نظرته بكل حزم واعتداد وكأنه تناسى الألم فقال: ومن ثمَ ماذا تقول؟ ها ... وهل هناك عمر بعدَ الخمسين يا رجل؟! وأستطرد ... أرجوك قل كلاماً آخر قد أصدقه! فيصرخ بسيد ماير دونَ وعي كالمجنون وكأن روحه ستزهق ... آه ... رأسي تكاد تنفجر، فأنا لم أذق طعم النوم منذ أيام، أعوذ بالله ما هذا العذاب الذي يمتحنني فيه الرب؟! وما هذه الحياة التي يحيياها الرجل منا بعد الخمسين؟! ثمَ ينظر إلى سيد ماير بدقة دونَ أن تطرف عينه، فيسأله فجأة: ماذا يريد أو ينتظر الإنسان أكثر وهو في الخمسين؟! فيجيب على تسائله كعادة الرجل العربي دائماً .. قريباً سيقول الوداع ومعَ السلامة! ثم أردف وهو مازال يحدق بعينيه ويقطب حاجبيه ... يا سيد ماير، هل نأخذ زمننا وزمن أولادنا؟! أرجوك أطلب لي الدكتور يرحمك الله ..

دخلَ الدكتور هانس بوقار كالنبي وسط قومه، ونظراته تسقط على حميد كالمطر النازل من السماء! وهو يقول ها يا سيد هميد ماذا تشعر؟

 أجابه حميد وهو يلهث ونفسه مقطوع، كالذي يركض! الصداع الذي يقرع في رأسي كالمطرقة على السندان، أرجوك يا دكتور ساعدني وأنقذني من حافة الموت الأكيد...
 آه ... منكم أنتم الشرقيون، يا أصحاب الحضارة والأنبياء والسحر والتناقض الصارخ، تحبون الشيء وتمقتونه في نفس الوقت، ترغبون في الحياة وتتحدثون عن الموت! تحلمون بالرفاهية والغنى وتقولون: يدخل المؤمن الغني إلى الجنة زحفاً! ثمَ يسألهُ بخبث، ها... قل لي إذن وبحق الأبالسة والشياطين : ما الذي يؤلمك؟

يقاطعه حميد بعصبية وهو يئن، يا دكتور أرجوك، قل كلام آخر، ثمَ أردف مستنكراً، ماذا تنتظر من رجل قد تجاوزَ الخمسين عاماً؟ أنظر لي جيداً(وهو يهز رأسه يميناً وشمالاً) فأنا عاجز عن الحركة ولا أقوى على أداء أي عمل ..

 (يتجاهل الدكتور ما سمعه، ويسأله بحده واضحة):هل تمارس الرياضة الصباحية؟ ثمَ يستمر باستجوابه كالقاضي في قاعة المحكمة.. هل أنت مدمن على التدخين وشرب الكحول؟ ويستطرد بانفعال وكأنه قد تلقى الأجوبة، آه ... من لعنات أفكاركم الغريبة، فأنكم تحتسون الكحول بغية السكر، ونحن نبتغي المتعة وسيان بين الأمرين! وأستمر يلقي الأسئلة دونَ هوادة وهو ممتعض ... هل لديك علاقات صداقة، وتذهب إلى الأندية في المساء؟ وهل تقرأ كثيراً؟ فالقراءة تجعل الذاكرة نشطة ومتحفزة دائماً وتبعد عنك مرض النسيان!

حميد ينظر له باستياء، ثنى شفتيه، وبدا وجهه متعباً، شاحباً بعدَ أن أضناه السهر فقالَ وهو يحاول الابتسام جاهداً... دكتور أي رياضة تتحدث عنها؟ وهل أنا في العشرين كي تقل لي ذلك! ثمَ دمدمَ بصوت منخفض مستغرباً وكأنه يخجل... أمارس الرياضة قال... وأستطرد ساخراً: أما أمركم عجيب أنتم الأوربيون!

أحمر وجه الدكتور غيضاً كمن يشعر بالإهانة، فرفعَ صوته وهو يدق على الطاولة بقوة بقبضة يده وهو يلوح بسماعة الفحص عالياً وكأنها بيرقاً! وقال: ماذا تريد أن تقول؟

يجيبه حميد متفائلاً .. الحقيقة، أقصد في الواقع أريد أن أقول، أنَ الإنسان لا يتوجب عليه أن يأخذ زمنه وزمن أولاده! وها أنا أمامك، أقول للحياة معَ السلامة .. ثمَ يتغير صوته فجأة ليصدر توسلات مخجلة كالتي يطلقها في بعض الأحيان الشحاذ الذي لم يرزق بشيء طوال النهار! فأردف قائلاً: ساعدني أرجوك، بالله عليك، خفف آلامي أولاً ..

يفقد الدكتور أعصابه بعدَ أن طاف كيل صبره، وهو يحاول أن يقنع مريضة بأنَ الحياة لا تعرف عمراً كي يعيشها الإنسان بزهو وراحة وسعادة وهمة ومتعة... فقالَ وهو يهز كتفه وكأنه يضحك.. أنظر يا عزيزي سيد هميد: أنا في السابعة والسبعين ومازلت أمارس عملي، وأذهب مساءاً بعد العمل لممارسة لعبة التنس، وألتقي معَ أصحابي في النادي وأتسامر معهم وأحتسي كأساً من الجعة، ثمَ أرجعُ قافلاً لمنزلي لأقرأ فصلاً من كتاب قبل النوم، كي أنهض عند الفجر في السادسة، باكراً، نشطاً، كي أمارس السير على أقدامي ساعة وبعض الساعة، لأخذ حماماً ينعشني ويجعلني أتوق لأنَ أعيشَ يومي متفائلاً، فرحاً، سعيداً ومغتبطاً! ثمَ صوبَ نظره بقسوة نحو حميد وأستطرد قائلاً: وأنت وبهذا العمر المليء بالحيوية والنشاط وتبكي وتصرخ ... سأودع الحياة هكذا لمجرد صداعاً يضربُ رأسك؟! ما هذا، أعوذ بالله منك يا رجل وهو يلوح بيده ويقول صاخباً، أمشي.. أمضي..أبتعد عني أرجوك، لأذهب لمن هو أحق لي بزيارته، ثمَ أردف بكل وقار وصدق: علاجك يا سيدي بينَ يديك وليسَ عندي! وهو يدمدم، أنها لعنة حلت عند الشرقيين دونَ استثناء! أستودعك الله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى