الخميس ٢١ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

سلامات...

لم يعرف أي أحد من أين أتى؟؟ فجأة ظهر بين بلدين، وفي المنطقة الحدودية الفاصلة بينهما، يقف بذلك الثوب المرقع والمخطط بألوان ضاعت معالمها، تماما مثلما ضاعت معالم وجهه، كلأنه لبس وجها مستعارا بذقنه الطويلة وشاربه الكث الغليظ، غطى رأسه شعر أجعد طويل، حاك منه لنفسه ضفائر ربطها بقطعة قماش أخذها من ذيل ثوبه، يقف في نفس المكان يوميا منذ الصباح الباكر حتى المساء، لا يتكلم مع أحد، لن يبدي ردة فعل حين يمر به بعض المسافرين، أو السواق خصوصا الذين يترددون بين فترة وأخرى، كان علامة دالة للنقطة الحدودية، حيكت حوله الكثير من القصص فالبعض قال: أن عائلته قد قتلها الإرهابيين أثناء سفرهم وفقد عقله بعد أن اغتصبوا وقتلوا أفراد عائلته، وابقوا عليه ليكون عِبرة، والبعض قال: انه مجند من الدولة ليعمل جاسوسا لنقل المعلومات، وهو لا شك رجل مخابرات محنك، وهناك من قال: انه جاء من الصحراء بعد أن ضاقوا أهله به فتركوه يهيم بعيدا عنهم، أما أفراد المراكز الحدودية فكل يرمي به بعيدا عن مركزه الحدودي فلا جنسية له، كما أنه اعتقل أكثر من مرة من الطرفين، وبعد التحقيق والتقصي وجدوا انه رجل فقد عقله، فترك لا ضرر منه، لا يردد سوى كلمة سلامات للمسافرين، سواء المغادرين منهم، أو القادمين، وفي احد أيام الصيف الحارة جدا وقف منتعلا جلد قدمه الذي تحرشف وقاية من حرارة أسفلت متوهج، ينادي ويلوح بيده للناس سلامات .. سلامات مع ابتسامة بالكاد تعرفها من كثافة شعر ذقنه، فجأة صرخ بأعلى صوته واخذ يقفز صارخا سلامات سلامات.... ورمى بنفسه على الأرض يصرخ باكيا سلامات حبيبي حسن.. سلامات يا ولدي ..آه ه ه أين ذهبت وتركتني؟؟ سلامات حبيبي، تعال اسمع حميد منصور يغني الأغنية التي تحبها... سلامات، كان ذاك بعد أن توقفت إحدى السيارات التي عمل مسجلها على أغنية سلامات لفنان عراقي اسمه حميد منصور وهو يقول .. (سلامات ابعث سلامات للرايح وللجاي ابعث سلامات...)، فجن جنونه واخذ يدور حول السيارة ويضربها وهو يصرخ، حسن ولدي أين أنت؟؟ تعال أسمع، خاف الركاب من هذا المجنون، حاول البعض التقرب منه لتهدئته، إلا انه صرخ ولطم على رأسه، جاء بعض من الحراس ليمسكوا به، إلا انه هرب منهم للحظة، فقاموا على تخويفه بالضرب، إلا انه حمل عليهم بالصخر مهددا إياهم أيضا، توقفوا عنه، فزع بعض الأطفال والنسوة، اخذ بعضهن بالصراخ، حين رأى ذلك هرب مبتعدا، وهو يقفز في مكانه البعيد صائحا سلامات حسن .. سلامات، عاد الهدوء إلى المكان بابتعاده، رجع الناس إلى مشاغلهم، حيث التفتيش وعمل الجوازات، وغيرها من المشاغل، تناسوا هذا المجنون الأشعث.

كانت فترة ابتعاده نتيجة الخوف من الصراخ، عاد بعدها إلى نفس السيارة، ضاربا إياها بيديه، ورأسه، وهو يصرخ سلامات .. سلامات، كره المسافرين تلك الأغنية، التي كانت تعمل في المسجل، حيث إنها فَعلت وجعلت من هذا المجنون قنبلة موقوتة، أخذ لا ينفك يلاحق السيارة، جاء السائق جريا فضربه بقوة، لم يبالي، تلقى الضربة تلو الأخرى، وهو يصيح حسن سلامات، تمادى السائق بضربه أكثر من مرة، فقط ليبعده عن السيارة التي تضررت من كثرة رطم رجليه ويديه ورأسه بها، وبخضم ذلك سحب السائق شريط التسجيل، ثم كسره ورماه بعيدا، زاد جنونه حين رأى فعل السائق، فقام برد الضربة على السائق، الذي نزل لكماً ورفسا على ذلك المسكين، الغريب أن الجميع يتفرج، بينما لامه بعض المسافرين حينها تدخل أحدهم، رأفة بحال المسكين الذي فقد عقله، دب شجار بعد مشادة كلامية وسب بين المسافر والسائق، عَلِقَت المسائل بينهما حتى وصلت إلى الضرب، تدخل بعض السائقين لفض شباك، جاء بعض معارف من هنا وهناك للاشتراك بحل نزاع، تطور الأمر الى معركة جماعية، دعت إلى تدخل حرس الحدود بإسعاف البعض من الجرحى والمصابين، أما المجنون فلا زال يجري حول المكان وحولهم وهو ينادي سلامات .. حبيبي سلامات.. حسن أين رحلت؟؟ لم يكترث إلى الدم النازف من أنفه ورأسه، كان قد رمى بنفسه على شريط (الكاسيت)، يضمه ويشمه وهو يغني سلامات با حسن سلامات، كثر الزحام في المنطقة الحدودية، نزل الكثير من المسافرين عن مركباتهم فقط ليشهدوا هذا الحدث، والذي تناقلته الألسن وهي تتفرج، نقلت أحداثه أول بأول حتى آخر مركبة متوقفة، جاء بعض من الحرس الحدودي المجاور بين البلدين ليشهدوا الأمر أيضا، كان الانفعال، والانشغال، والتوتر باديا على الجميع، أحاط الجرس بالمجنون وهو على الأرض، كان قد لف شريط الغناء على رأسه ورقبته وهو يقول: سلامات .. سلامات ولدي حسن سلامات، اقترب منه أحد الحراس، فشاركه الغناء سلامات .. سلامات ابعث سلامات، والذي كان كما بدا للآخرين أنه يأمن له، فسمح بالجلوس إليه والغناء معه، بعدها أمسك بذراعه، ثم نهض به بعيدا عن الباحة التي تجمهر الكثير من المسافرين فيها، ابتعد به خلف المبنى، جلس بقربه بعد ان أحضر بعض الماء، قدمه إليه ليشرب، ومن ثم ليغتسل به، لم يكترث للحارس، فقام بدوره وسكب بعض الماء في راحة يده وغسل الدم من على وجهه، ورأسه، ثم قال له، أبقى هنا بعيدا حتى تذهب هذه السيارات، أو أرح جسدك قليلا، فقد تعبت اليوم وأنهكت قواك، هيا مدد جسمك، كان المجنون يسمع للحارس دون نقاش، توسد الرصيف بعيدا عن حركة السيارات، والمسافرين، هدأ كل شيء، عاد الحارس لتأدية عمله، بإكمال واجبه، سار الليل مع المسافرين، كانت تلك الله حكاية صاحب السلامات، هي التي سيطرت على أحداث النقاط الحدودية، وكلما ذكروها، ضحكوا على سرعة تطور الأحداث، وتساءلوا ما سر أغينه سلامات وما علاقتها بحسن، جاء صباح اليوم التالي مشرقا جميلا، تواكب المسافرون حاملين معهم قصة المجنون أبو سلامات، والذي ما أن دبت الحركة في نقطة التفتيش، والعبور، حتى أخذ مكانه يسلم على كل مسافر، وسيارة تمر بكلمة سلامات .. سلامات، لم يعرف أي شخص حتى هذه الساعة، ما سر هذا المجنون، ولا سر السلامات الكثيرة التي يرددها وعلاقتها بحسن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى