السبت ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

حديقة الحيوانات

دخل صديقي الكنغر بقذال غائرة بين كتفيه وفي يده كيس. هو هكذا دائما، يأتيني صبيحة كلّ يوم أحد في الساعة الثامنة بالضبط. هل يعتقد أنّني أفيق الفجر. ولم أكن قد تناولتُ فطوري بعد:
ـ إليك الفطور! قال. وأخرج من كيسِه قنّينة (فودكا) بحجم 75 سنتلتر وبدرجة 45 كحولية.
ـ أنا لا أشرب الكحول كما تعلم. فأخرج أربع تنكات بيرّة مستوردة.
ليكُن! سنتحامق في هذه الصبيحة، وليغفر الله لنا جميعا.

صديقي الكنغر مُستخدم في وزارة الثقافة، وهو أوّل من أصدر جريدة محلّية بمدينة المحمدية. ولكنّه مدمنُ خمر إلى أبعد الحدود.
في أحد المؤتمرات السياسية، كان قد عبَّ الكثير من (الفُودْكا) وعندما أعطوه الميكروفون لكي يعبِّر عن رأيه في (مسألة الديموقراطية في المغرب)، شرع يمتصُّ رأسَ الميكروفون معتقدا أنّه قنّينة خمر.
وفي مناسبة عرض الكتاب، اشترط أن يتولّى (خيمة الكتاب المغربي) وأن تكون مُقابـِلةً لحانة (مِيلُودْ)؛ فكان يراقبُ (خيمتَه) من داخل الحانة ويشرب، وعندما يأتي (زبون)، كان يستنهضُ نفسه إليه ليعود إلى الشرب...

عند الثانية عشرة، دلف إلى شقّتي المتواضعة صديقي الشامبانزي وفي يده منحوتة كان واعدني بأن يُهديها لي للذكرى. المنحوتة سوداء، وهي تجسِّدُ امرأة زنجية يقول إنّه عرَفها بالفعل. وجعل لها صدرا ثخيناً، وردفين غليظين، وشفتين لاحمتين حمراوين. وانخرط معنا في الشُّرب. الشامبانزي قردٌ مبدع، لكنّ جميع إبداعاته من النوع الذي لن تقدِر على التفرُّج عليه إلاّ وأنت سكران.
يقول إنّه يهتمُّ بشؤون المهمَّشين. هذا حال % 90 من الأدباء والفنّانين المُهمّشين بالمغرب: يرسمون أناسا معطوبين، ومِزهريات متكسِّرة، وقُلوباً مُحطّمة، وطُفولة مُغتصبة؛ وينحتون الفقْرَ والألم.

قال الكنغر لِلشّامْبانزي:
ـ هل ستستمرّ في (التزَكُّك) على شرابنا مدى الحياة؟ أ لَمْ يخبرك حِسُّك الفنّي بأن (النديم لا تصِحُّ له الندامة إلاّ بعد أن يأتي ـ من حين لآخرـ بشيء من النبيذ؟).
فثارتْ أعصابُه، ونتشَ القنّينة من يدر الكنغر، وتزوّدَ منها جرعةً مُطوّلة، وقال:
ـ أنتَ حِمار ولا تفهمُ في النحت حتّى خِصية.

ثم دخل علينا صديقُنا النمس بكيس مليء بشتّى أنواع المشروبات الكحولية، فعمّت الفوضى في الغرفة الوحيدة التي في شُقّتي في ثقب في عمارة آية للسقوط. فكان أن أشعلها موسيقى ورقصاً وصخباً ومُجونة. وتحدّث في هاتفه المحمول؛ وبعد دقائق جاءت صديقتُه الجميلة الترغلة، وهي كاتبة وصولية قرأتْ بعض النقد و(استفادت) منه: نُقّاد الأدب يتحدثون عن (الإبداع النِّسوي) وعن كون المبدعات يعجبهنّ أن يتكلّمن عن (الجسد والحب والخيانة). هذه الصديقة الطائرة، استطاعت التحليق إلى مدينة الدار البيضاء لكي تلتقي بـ (فارس القصة القصيرة المغربي) (...)؛ واستطاعتْ بمكرها مؤخِّرتها أن تجعلَه يكتبُ لها مُقدِّمةً لروايتها الأولى؛ وهي هنا والآن، لا تلينُ ولا تريد أن تشرب أو تدخِّن أو تأكل... قد علمنا مرادَها: أن تتزوّج فقط سواءً بالأدب أو بغيره.

شدَّ النمسُ الترغلة من يدها وشرع يراقصُها على ألحان (ياك آ جرحي جريت وجاريت...) للمطربة المغربية (...) فحاول تقبيلها على شفتيها الصدِيّتين، ولكنّها تمنّعت. فهي تريد زوجاً، وهو متزوّج. عندها حرّرها وراح يصرخ: (آيْهادْ أُ دريم...)
(لديّ حلم...) للراحل (مالكوم إيكسْ). وهو مدرّس فلسفة فاشل.

جلست الترغلّة لصقي فألقيتُ عليها بذراعي وهممت بتقبيلها على شفتيها الرطبتين الآن، فتصنّعت الامتناع، ومع ذلك حدث التقبيل بنسبة %50 وقالت: طلّقْ زوجتَك، وأنا لك! وأنا ضاربٌ في الطويل وهي غارقة في القزامة، وأنا ألعن الارتباط المبني على الغدر والكحول.

وها هو التمساحُ يفتح الباب وليس له ما يملك عدا لحيةً شائبة؛ صحافي يدّعي أنّه قابَل العديد من ملوك العرب، ولكنّه فقير إلى الكحول. ذات مرّة هدّدَ إدارة تحرير جريدته بالانتحار إذا لم توافق على قرضه بعض المال. ولأنّه صحافي حِزبي أحمق، حقّقوا له رغبتَه وأعطوه ما أراد: 5000 درهما أنفقها بين عشية وضحاها في أحد الحانات بالدار البيضاء.
الطاووس شرب ملء لحيته، فاستدار جهة الغوريلا موديل الشامبانزي الذي هاتفها في سريّة واضحة:
ـ يا أ الله ما أجملك! قال لها. فردّت المنحوتَةُ الزنجية الحيّة:
ـ أراك سكرت يا أستاذ. وانحلّت منه.

بدأ المكانُ يضيق، ولكنّنا (نحن المغاربة) نؤمِن بأنّ السرير الذي يتّسِعُ لواحد يتّسع لاثنيْن (رأساً وَقاعا)، وأنّ الطعام الذي يكفي خمسة أفراد يُشبعُ عشرة بـ (البَرَكَة)، وأنّ الأنثى مثل الأرنبِ لا تُمسَكُ إلّ من أذُنيْها...
لذا زحفَ التمساحُ إلى الغوريلاّ بعينين دامعتين من الملح، وقال:
ـ أنتِ أجملُ امرأة ملوّنة رأتْ عينايّ...
فانهالتْ عليه بقُبلة ثقيلة خنقَتْ أنفاسَه، فرأيناه يتركّل ويضربُ برجليه الأرض. كاد التمساح يموت من الخنق لولا أنّ الكنغر عتَقه.

وكما هي العادةُ في المواقف الطبيعية والاجتماعية، أتتْ لحظةُ فُتور ٍ دامتْ دقيقةً كاملة. فدخل علينا الضفدعُ وهو من القُرّاء الرديئين، إذ كان ينتقدُ قصصي ورواياتي بشكل لا معقول؛ بالنسبة إليه، لا فرق بين الكاتب والرّاوي. كان يسألُني بدون تحفُّظ: هل صحيحٌ أنّك نِمْتَ مع زوجة الوزير؟... هل صحيحٌ أنَّ أميرة البلد الفُلاني طلبتْ منك الزواج ورفضْت؟... هل صحيحٌ أنّ (حَرگـْتَ إلى إسبانيا على مثن قارب متهالك وتِهتَ في مياه المحيط الأطلسي أحَد عشر يوما من دون ماء وغذاء؟... وهل صحيحٌ أنّك عاشرتَ ألف امرأة وامرأة؟...

للضفدع أنْفٌ أفطس، وعندما رآه الثعلبُ قال لي بلهجة وأسلوب المثقّفين الجُدد:
ـ أعتقِدُ... أعتقِد أنَّ صديقَك هذا دهستْه الأقدام وهو رضيع؛ انظُر إلى وجهِه؛ إنّه مثل (خُبْزة).

فحلَّ الليْل، وجاء الدُّبُ ومعهُ مُساعِدُه وحيدُ القرْن بصندوق من المشروبات الكحولية... أيُّ خير هذا الذي في المغرب؟ في غرفة ضيِّقة تجمهر قوْمٌ من السُّكارى المبدعين في الفنّ والأدب والصحافة والسياسة... الدُبُّ يتبعُ السياسة؛ فهُو رئيس القسم السياسي بولاية (المحمّدِية)... ماذا يفعلُ هنا؟
الدُبُّ يُحِبُّ الحُلْو؛ ولأجْلِه دسَّ خطْمَه في كوب من شراب (جوني)، ولم يستخْرجْه منه حتّى جحظتْ عيناه وصفَّرتْ أذُناهُ... آنذاك قال من بطْنِه:لأيِّ أمْر تخطِّطون أيُّها الوُحوش؟
فردَّ أحدُهم:
ـ (واشْ) أنْت بوليسي؟ إذا جئتَ للتّجسُّس فلن تجد عندنا ما يمكن وضْعُه تحت الضِّرس... نحن مجرّد سُكارى كما ترى.
ـ هل تراني ضبُعاً؟... ومن خطّطَ للإضراب غير المحدود لأصحاب سيارات الأجرة غيركم؟
ـ أصحاب (الطاكسيات) مواطنون واعون وليسوا في حاجة إلى من يُريهم ما يجبُ فِعلُه لانتزاع حقوقهم.

طرقتِ الفُقْمَةُ الباب (مع أنّه مُشرع) ودخلتْ ترتدي سترةً جلدية سوداءَ لصيقة، وفي يدِها حقيبة صغيرة مُزوّرة من جلد الثعبان. أفشَتْ السلام، ثمَّ التصقتْ بي:
ـ لم أجد النّعسان في وَلَدِيتِه (گـارسونْيير)... هل سيأتي؟
تسألُ عن (صديقِها) الخمسيني وهي في العِشرين. (أعتقِد... أعتقِد أنّها مُغرمة بي؛ ولكّنني كهلٌ وليس لنا أن نُسعِد بعضَنا... ثمَّ إنّها ما زالتْ تتبوّل في الفراش).
عندما انْتشتْ، بكتْ وحكَتْ كيف (يستبيحون جلدَها؛ كيف يُمزِّقونَها تمزيقاً ويجعلون من جلْدِها أداةً للمُتَع الرخيصة)
ـ الله يلعنْ... امّك! اخرجي أيّتُا القـ...! صرخ النعسان. وفي طرفةِ عين كانتْ عنده.
ـ هل هو أبوها؟ سأل الدُّب؟

ليتك ترى كيف صارت غرفتي وقد جلس النُّدماءُ ومدّدواْ أرْجُلَهم مثل سمك السردين في تَنْكة صغيرة. والمفروغات في كلِّ ناحية، والكلامُ على بعضِه، واللّغَطُ والتحرُّشُ والصّفعُ وعِناقُ الصُّلْح والتسامح، ووعود الوفاء... حتّى الفجر.
حيواناتُ مُعذّبة تبحثُ عن إنسانيتِها. مثقَّفون يستصعِبون العيش. والسُّكْرُ قد يحدُثُ من مراقبة الشفق...
إلى ذلك الحين، لم أجدْ من يُساعدني على تنظيف وترتيب المكان سوى صديقي الكنغر حفظه الله.
في حديقة الحيوان، لستُ لا أسداً أو فيلا... أنا ـ بكلِّ صراحة ـ مصّاصُ دماء...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى