الأحد ٣١ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم مهند النابلسي

الفيلم الجزائري «الخارجون عن القانون»

الفيلم رائع ويعد بحق مفخرة للسينما الجزائرية أو العربية من حيث نمط اخراجه العالمي، واحتواءه على مشاهد سينمائية ابداعية متميزة، كمشهد الاستهلال الدال (الذي يعود للعام 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية)، عندما يتم طرد عائلة الفلاح الجزائري البسيط مع زوجته وأولاده الثلاثة الصغار من أرض الأباء والأجداد بحجة عدم امتلاكه لحجة تمليك مكتوبة، وكمشهد وتفاصيل مجزرة سطيف البالغ الاستفزاز والمعبر تماما عن وحشية الاستعمار الفرنسي وتنكيله بالمدنيين العزل، ومن ثم مشهد النهاية التراجيدي وملابسات مصرع الشقيقين مسعود وعبد القادر وما رافقه من ملاحقات عنيفة ومواجهات دموية صاخبة، لخصها قائد الأمن الفرنسي عندما شعر بالهزيمة، موجها كلامه المجازي لجثمان عبد القادر المضرج بدمائه وهو ملقي على رصيف مترو باريس: لقد فزتم أخيرا !

يبدو ان مخرج الفيلم رشيد بوشارب معجب لحد الشغف بشريط الأب الروحي لفرانسيس فورد كوبولا، لدرجة أنه استوحى منه نمط الاخرج المشوق كما اقتبس العديد من اللقطات والمشاهد السينمائية المعبرة، تبدأ بانتقام سعيد (الأخ الأصغر) من الوالي الجزائري الظالم (الذي شردهم من أرضهم)، بطعنه في خاصرته وهو يسترخي على كرسي القيلولة، وضمن حوار يذكرنا تماما بطريقة طعن دون كوروليوني (روبرت دي نيرو) لزعيم المافيا الصقيلي العجوز، منتقما ومذكرا اياه بقتل والدية، ثم تتكرر مشاهد الاقتباس باسلوب اغتيال قائد اليد الحمراء الضابط الفرنسي بواسطة عبد القادر، وذلك عندما نجح مسعود في تهريب المسدس له لداخل مبنى الأمن المحصن جيدا، وعندها أطلق عبد القادر برباطة جأش عدة رصاصات على رأس الضابط الفرنسي في مشهد يذكرنا لحد بعيد بطريقة اغتيال آل باشينو لزعيم العصابة التركي وقائد الشرطة المرتشي في مطعم ايطالي هادىء في ضواحي نيويورك، وتتكرر هذه المشاهد المستوحاة من العراب بطريقة اغتيال الاخوة الثلاثة "لرئيس العمال" الجزائري المتعاون مع الفرنسسين في مصنع رينو للسيارات، وذلك عندما خنقه مسعود بحبل رفيع وهو يتناول طعامه، ثم في حادث مقتل الشقراء الفرنسية الجميلة المتعاونة مع الثورة، والتي يعشقها عبد القادر، عنما يتم اغتيالها بواسطة سيارة مفخخة ! وحتى طريقة وسيناريو لقاء الا خوة الثلاثة مع قائد الأمن الفرنسي وحاشيته، فهي تذكرنا لحد بعيد بلقاء العراب مع منافسيه وخصومه قبل أن تبدأ التصفيات الجسدية، وذلك من حيث برودة اللقاء المشحون بالنوايا الخفية وكذلك الديكورات والاضاءة الخافتة والموسيقى المصاحبة، وأعتقد أن بوشارب ربما يكون فد طلب من ممثليه الثلاثة مشاهدة فيلم العراب مرارا، ليتمكنوا ببراعة من تقمص نمط الشخصيات الثلاث في الفيلم الشهير.

عبد القادر هذا الذي يخرج من السجن الفرنسي ليصبح قائدا في الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر، يتماهى أيضا قي تقمصه اللافت مع اسلوب آل باشينو من حيث تقديسه المتطرف وحماسه الشديد لقضية الثورة وتحرير الجزائر، وكذلك في تضحيته بمصالحه الذاتية وعواطفه ممارسا الانضباط والصرامة والقسوة، حتى أنه يفكر في أحد المشاهد في قتل أخاه الأصغر سعيد لرفضه مطالبهم في الغاء حفل الملاكمة، كما أن سعيد بنزقه وحبه للمال والترف والحياة الرغيدة وانغماسه في الملذات والملاهي يتماهى مع سلوكيات الأخ الأوسط في العراب، وبالرغم من هذا التماهي المبالغ به، الا أن الفيلم يبقى ممتعا ومشوقا، ولكن بوشارب بفعل تأثره الزائد بفيلم كوبولا انزلق في احيان كثيرة لصنع فيلم عصابات، ونسي أنه يصور فيلما عن الثورة الجزائرية التي كانت نموذجا تاريخيا ملهما للكثير من ثورات التحرير الشعبية في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، وحتى يبرر قسوة ردود الأفعال فقد استهل الشريط بمجزرة سطيف الشهيرة، وكذلك استعرض الممارسات الوحشية لفرقة اليد الحمراء الفرنسية بحق الجزائريين في فرنسا.

وأثناء سعيه الطموح لنيل الاوسكار أو السعفة الذهبية في كان، لم يستطع مقاومة اغراء تقليد مشاهد العنف والقتل في فيلم المافيا الشهير، ناسيا أنه يخرج فيلما سياسيا دراميا بامتياز، ولكن ويالرعم من ذلك فقد نجح في اختياره للممثلين الثلاثة اللذين برعوا تماما في تقمص أدوارهم، كما نجح في بناء سيناريو محكم ومقنع يربط الأحداث والمشاهد بطريقة تصاعدية، مع موسيقى تصويرية معبرة وانتاج ضخم (حيث تم التصوير في سبعة مواقع وستة بلدان منها أمريكا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا)، وكان تصويره للفيلم آخاذا أعطاه نكهة عالمية ومحلية في أن واحد قل أن تجدها في معظم الأفلام العربية، مما جذب الجمهور العالمي مع تنوع الأطياف والأذواق، وحيث انك لا تملك كمشاهد الا ان تصفق اعجابا وبحماس متأثرا بأحداث النهاية ومصير الاخوة الثلاثة الدرامي وتضحياتهم العظيمة، والتي توجت بمشاهد وثائقية معبرة عن انتصاؤ الثورة الجزائرية في العام 1962.
في علم الادارة لا ضير في تبني نموذج ما ومحاكاته فيما يعرف " بالمرجعية القياسية"، ولكن صناعة السينما تعتمد كثيرا على عناصر الابداع والتجديد والترفيه والتشويق، وربما لا ضير هنا أيضا في محاكاة نماذج أفلام كلاسيكية مشهورة سواء في نمط الاخراج أو في اقتباس لقطات بعينها، وربما نجد أمثلة لا تحصى على هذا النوع من الاقتباس الابداعي والتماثل، والأهم هو وضع اللقطات المقتيسة في سياقها العضوي داخل نسيج الفيلم دون ان نشعر بغرابة اقحامها! ثم ان أي ثورة تحرير شعبية لا تدار بالترويع والقتل والارهاب المضاد حتى لا تفقد شرعيتها وتقبل الجماهير لها، ولنا في ثورة ليبيا مثال معبر، حيث انزلقت الثورة الشعبية بسرعة وتبنت الحل العسكري وأقحمت المستعمر الأجنبي وحلف الأطلسي حتى كادت تتحول لانقلاب عسكري وصراع محموم على السلطة والنفوذ واقتسام ثروات هذا البلد العربي ، وظهر التناقض واضحا بين بساطة الثوار ومظاهرهم الكادحة وأسلحتهم البسيطة ونواياهم البريئة وبين انتهازية متسلقي الثورات ومنظري التلفزيون وبزاتهم الأنيقة ووجوههم المتوردة، وهذا التناقض لاحظناه بوضوح في بعض لقطات الفيلم، ومنها مشهد خنق العامل الجزائري البسيط فقط لأنه تجرأ واستخدم بعض المال لشراء ثلاجة لاسرته المتواضعة، فيما تلاحظ مظاهر الاكتفاء لكي لا أقول البذخ في نمط حياة الاخوة الثوار الثلاثة، وشعرت بحق بأن هذه اللقطة مقحمة على السياق وغير مبررة، وبدا مسعود وهو يخنق العامل المسكين بحبل رفيع وبرودة قاتل محترف بعد اعترافه، وكأنه مايكل كوروليوني وقد أصدر أمرا بقتل زوج اخته بنفس الطريقة البشعة وذلك بعد اعتراف الأخير باستدراج الأخ الأكبر لمصيدة اغتيال مروعة في لقطة خالدة من مشاهد العراب!

كذلك فان أي ثورة شعبية مسلحة شاملة تستند أساسا للجماهير العريضة وتنظيماتها وتتفاعل مع نبضها ومتطلباتها، ولا تعمل بنظام عصابات المافيا التي تستند للخلايا العائلية وتسلط العصابات، وتدار بنظام تراتبي أبوي فردي متشدد وغير متسامح، وهذا ما شاهدناه في هذا الشريط: فعبد القادر يدير الثورة بالتفرد والتسلط والقهر (بالتعاون مع مسعود)، وكأنه بالفعل زعيم عصابة لا ثورة مجيدة خطفت أبصار العالم في ستينات القرن الماضي. وللمقارنة الطريفة فقد كشف ربيع الثورات العربية المتأجج أن معظم الدول العربية تدار بنفس النمط المافيوزي من حيث تحقيق مصلحة العائلة او النظام وحاشيته وسرقة مقدرات الشعوب والتنكيل بها وازدهار الفساد واستعباد الخلق والعباد!

العلاقة مع فيلم ميونيخ لستيفن شبيلبيرغ:

هناك تماثل ابداعي بين مشهدي التفاوض مع ممثل الأمن الفرنسي في اجتماع هادىء ضمن ديكورات باذخة، ومن ثم التحول للاقتتال العنيف صبيحة اليوم التالي، ويتماثل ذلك مع النقاش والتناظر السياسي ما بين أفنر ( قائد وحدة الموساد للاغتيالات في فيلم ميونيخ) ومناضل فلسطيني، لينقلب الأمر نهارا الى مواجهة مسلحة عنيفة يسعى فيها كل طرف للقضاء على الطرف الآخر.

وكما استند بوشارب لمذبحة سطيف، سعى شبيلبيرغ في فيلمه المنتج في العام 2005 لعرض لقطات تسجيلية لحادث تصفية أحد عشر لاعبا رياضيا اسرائيليا في اولمبياد ميونيخ في العام 1972 ( من قبل منظمة أيلول الأسود )، وكأنه يبرر قسوة ودموية الرد الاسرائيلي في سعيه لتصفية قادة منظمة التحرير المسوؤلين عن العملية في عدة عواصم اوروبية،وذلك استجابة لطلب غولدامئير المباشر.

يتطابق الشريطان من حيث التصوير المدهش لمشاهد الاغتيال الخاطفة والدموية والتي لا مجال للخطأ في تنفيذها، كما أن شبيلبيرغ يلجأ لسجله السينمائي العتيد، فيقتبس مشاهد تشويق من فيلمه الشهير " الفك المفترس" (كمشهد انتظار خروج الطفلة لتنفيذ عملية الاغتيال بواسطة عبوة ناسفة مزروعة في التلفون !)، ولا ينسى كذلك ان يقتبس من فيلمه ألآخر الحائز على الاوسكار "قائمة شندلر"، وهو بالرغم من اخلاصه ليهوديته وشغفه باسرائيل، الا أنه يحاول أن يظهر نوعا من الحيادية وتقبلا لوجهة النظر الاخرى في شريطه هذا المثير للجدل، وذلك عندما يظهر امرأة فلسطينية تتحدث عن أربعة وعشرين عاما من القتل الاسرائيلي المستمر، ومن ثم يظهر مندوبا لمنظمة التحرير يتحدث عن أنه آن ألأوان لايجاد دولة للشعب الفلسطيني المشرد، وللمفارقة المضحكة أليس اوباما الرئيس الامريكي الديموقراطي الأسمر (الذي استهل حكمه بخطب رنانة حول العدل والحرية والمساواة وتفاهم الحضارات)، هو الذي يقف اليوم عقبة في طريق اعلان الدولة الفلسطينية في شهر أيلول المقبل دعما لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، مستهترا بالارادة الفلسطينية والعربية، وفي تناقض واضح مع دعمه (الكاذب) لثورات الربيع العربي الساعية للحرية والديمقراطية والتحرر من الطغاة وممارساتهم وفسادهم، أم أن كل المبادرات تتوقف وتتراجع امام سحر بني صهيون ونفوذهم السرطاني وتلا قي مصالحهم مع المصالح الاستعمارية لأمريكا والغرب المنافق!

يستند فيلم ميونيخ لرواية ناجحة اسمها " الانتقام " ألفها جورج جوناس وحولت بنجاح لسيناريو سينمائي، فيما يبدو أن قصة فيلم الخارجون عن القانون قد كتبت خصيصا للسينما بتمويل فرنسي مكلف. لقد نجح بوشارب في بناء شخصيات فيلمه المتميز هذا بتوازن وعمق مستنطقا التاريخ وعبق المكان والزمان ومشروعية النضال الجزائري للتحرر من كابوس الاستعمار الفرنسي الغاشم (بالرغم من استناده لممثلين جزائريين غير معروفين عالميا)، فيما فشل شبيلبيرغ (بالرغم من تاريخه السينمائي الحافل وقدراته الاخراجية الفذة) في بناء الشخصيات وتبرير العنف ودموية القتل والاغتيال، وليس من الناحية السينمائية والابهار التقني اللافت (فقد استند لمجموعة ممثلين عالميين مشهورين)، وانما لأنه يعلم في أعماق نفسه أن قضيته خاسرة أخلاقيا وانسانيا، فلا يوجد انسان صادق مع نفسه حتى لو كان يهوديا أمريكيا يمكن ان يتعاطف حقيقة مع عصابة من المغتالين القتلة، اللذين يتنقلون من عاصمة اوروبية لاخرى بتواطؤ ودعم واضح خفي من مخابرات وأجهزة هذه الدول، التي أنشأت اسرائيل وتعاطفت ولا تزال تتعاطف معها و تدعم غطرستها واجرامها المزمن بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة.
وأخيرا فاني سأذهب فيما ذهب اليه الفقهاء من شعار: ان رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى