الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم منهل السراج

على ورق الورد

هكذا.. ستقترب منه حتى تختلط الأنفاس والرائحتان، حتى تلمح زغب الوجنتين والجبهة، وترى بقايا منه في زوايا العينين، عند أطراف الشفتين المختبئتين في دغل رمادي تطل منه الشفة السفلى سخية عذبة:

ـ مي..

انطلق اسمها ليوقف الدنيا من حولها. لما ترف العين بعد، لما تتبادل الهواء مع المحيط بعد، لن تبتلع ريقها.

للأنامل سطوة، ولتلك العاطفة هيبة سكرى، تتسمر أمامها، تعيد ترتيب ما فزع وهرب منها. إنه الحب صاحب النظرة الأولى، إنه هو من انتظرت دون أن تنتظر. تحرك هدباه في دعوة أخرى.

أخذت حصة من الهواء، دبق، ثقيل، بنفسجي اللون.

ـ أحبه

ستختلج ثنيات خده في شبه ابتسامة تتسمّر أمامها مرة أخرى. يدهشها بكل ما فيه. سوف يندس في لمحة كالهواء في مطوى العنق، يلفحها برغبة عتيقة.

مالت برأسها تخبئ لوناً لم تصنعه.

سيقبّل المعطف أولاً..

لن يكتفي بقبلة القماش الأسود. فالرغبة تمور في العنق والكتفين والساعدين المتمددين بأرستقراطية تنتظر من ينتهكها.

سوف يعانقها أولاً، يشبك أصابعه بأصابعها، يضغطها، ثم يرفعها إلى شفتيه. يغمض عينيه وبابتهال يقبلها إصبعاً، إصبعاً، لافحاً يدها بأنفاس دافئة، تنحدر هسهسة اللمسة والقبلة إلى الثنايا، إلى باطن الكف التي تحتوي، على مهل، خده، فتسترخي شعيرات السالفين في اطمئنان، حالمة باللمسة الأبدية.

ـ ألن نجلس؟

سيجيبها مبتسماً : تفضلي.. ويباغتها بشد المعطف عنها قبل أن تجلس، أو فيما تهم بالجلوس. سيضحكان حين يعلق الكمّ فيضطران إلى قلب المعطف على الوجه الآخر. سيتوق بلهفة إلى رؤية ما تبقى من يديها تحت الأغطية.

فكرت: هل اللون سكري؟ أم اللون زيتي مموه بالعسلي. ربما اللون صباحي ينساب دون ثنية أو جيب، معطياً انحناءات الجسد حقها. وليكن بلون الماء.

تخيلته بقميص قطني فوق بنطال صيفي خفيف بلون الرماد وملمسه.

همست:

ـ ارتد ما شئت، فعضلات جسدك الرياضية تعبر عن نفسها من وراء مئة حاجز. كما يكفيني شعر زنديك المتوسط الكثافة.

وبعد تنهيدة:

ـ هكذا .. كما أحب. يكفيني أصابع قدميك السمراء المتناسقة منبعثة من خف إسفنجي يأخذ انحناء باطن قدمك.

شعرت بألم الوجد. فكرت بلون الحنطة.

تخيلت أقدامهما الحافية ترسم على غبار الأرض خطوطها الخاصة. سيمتلئ الهواء بهما، تنبت الأشجار، تنطلق العصافير، تنبعث الينابيع.

سوف تستدعي قبلاته، لمساته، بل تبادله الحب، تبقى بجانبه، تلحق به في تحركه. تعد القهوة بنفسها، تؤنبه لأن حافة فنجان القهوة سميكة ولونه فاقع غير عتيق. تقول: ذوقك يحتاج أناملي كي تنحت فيه، يقاطعها مقبّلاً يدها: أناملك من الماس ، أما أنا .. "يباح .. يباح .. يا عروق التفاح، هون بحرة صغيرة .. إجى العصفور ليتوضأ، بإيده إبريق فضة.. سوف يمسك الخنصر متابعاً: هذه أمسكته، ثم يحتوي البنصر: وهذه ذبحته، أما الوسطى نتفته والسبابة طبخته، يقبض على الإبهام معاقباً: أما الشيخ الكبير ييتدعكل عالحصير .. دبدبينة " * تدب أنامله على بلور زندها تدغدغ، تفضح أسرار وخبايا الإبط الرقيق. حدقت في باطن كفها، أخاديد وألغاز: هنا البحرة التي سيشرب العصفور منها، هاهي الأنامل تنتظر أن تقبض عليه، ثم تقبّله، تكثر من القبلات وغيرها. لرائحة رأسه لون نفاذ، يتطاول في اللوحة ويتمطى بدلال لذيذ.

" دار القمر دورة، على سطوح الحورة، إمي بتربيني والساقية بتسقيني والناعورة بتبرم وبتطعميني " تخيلته يغني الأغنية، يشير في كل كلمة إلى موضع ما: أنا الحور، أنا الأم التي تسقي، تطعم.

ـ سوف يفعل كل هذا، بل سيدهشني بأكثر مما أتوقعه، يغني لفيروز.

تردد أغنية فيروز متخيلة أبواب البيوت مغلقة غافلة عن حفلهما الموعود. سيكون بكل الألوان، بكل حاسة منحها الرب، عرفتها أو لم تعرفها.

يمسح على شعرها، يشده برفق مؤنباً:

ـ هذه العيون لن تنظر إلى غيري، لن تؤخذ بلون غير لوني، هذا الأنف النزق سيبقى شامخاً هكذا، أما هاتان الشفتان.. تنفرج شفتاه يرسل السفلى بسخاء: فسوف أمزقهما إن ..

رطبت شفتيها. ترى هل اللون الوردي مناسب هنا؟

مضت تشكل لقاءهما المنتظر، تلون حكايات وألغازاً لا بد أن تحدث إن التقيا.

شردت:

ـ ترى ما الذي سيصفني به؟ مثلما أقرأ في قصائد العاشقين؟ خوخ ودراق؟ أم سيكتفي بإشارات من عينيه وأنامله؟ واللون ربما رماني أو شرابي.

ضحكت: سوف أمرح جيداً.

خلعت خفها.

ـ ترى كيف يكون شكل قدميّ بالخف الذي سأجده في حمامه. قد أنزلق فيما يشدني هو كي يريني صوره.. طفل جالس على حصان خشبي يبكي لسبب ما، أو صورته في حضن أمه بجانبه أخته التي تكبره وربما تغار منه.

استرسلت: سيمضي الوقت، سيأتي غداً، لا بد أن يأتي، كل يوم يأتي غداً.

ألقاه فأجده متلهفاً، للقائي، واللون سماوي محمر.

نظرت إلى سماء تلك الليلة، سوداء، صامتة. لمعان النجمات ضئيل، باهت. لم تر غير هذا، قلقت، حدّقت طويلاً، عبثاً، مازال الأسود كثيفاً تقطعه نجمات بعيدات، زفرت: لن أشوّه انتظاري السماوي بالبحث عن لون المحيط، فلأدع الألوان تلهو وحدها.

خرجت إلى حديقة البيت الصغيرة، أحواض زرع ضيقة، فقيرة. وجدت وردة حمراء متفتحة على آخرها، اقتربت لمستها: متى تفتحتِ ؟ متى " انفلشت " هكذا ؟ غابت بلونها المخملي عن عينيها اليقظتين، قطفتها بلا تردد: ماذا تفعلين بهذا الحر في تربتك المالحة؟ شدت تويجاتها فتهالكت، سقطت في راحتها، فردتها، تركت بقايا الوردة مرمية. وجلست تكتب على كل تويج مخملي كلمة: اسمها، اسمه، اسمهما معاً، أحبك، أشتاق إليك .. غنت: على ورق الورد ح اكتبلو.....

ابتسمت ساخرة من حلمها. سوف تعطيه منديلاً ملفوفاً على كلماتها الطرية، سينثر الكلمات فوق شعرها، يضحكان:

ـ أسقطتَ اسمي

ـ مي أوقعت " أحبكَ "، مي دعينا نحتفظ بهذه الوردة التي مزقتها.

ـ قبل يدي.

يقبلها ثم يعضها..

ـ مخادع

ـ أحبك.

خلعت بلوزتها، وراحت تغني وهي تطيّر أشياءها:

ـ هذا الحرير الأسود ليل صيفي، وهذا الفضي المتلألئ نجم، وهذا الأبيض ضحى يوم الربيع. نعلاي غيمتان، أما لون شعري فظهيرة خريفية، وتلك الرائحة نسائم أخضر مبلول.

أخذت ترقص، ألف حاسة اخترقتها.

تحتاج مساحة بياض أكبر لهذا الحنين.

أمسكت الأزرق وعصرته على البياض، ابتعدت قليلاً. تناولت فرشاة عريضة، شدت الخطوط فاستطالت وانتشرت بلعبة غامضة.

توشوشت الألوان والخطوط. هطلت السيول حتى كادت أن تفيض عن اللوحة.

بعد قليل تزحف العتمة، يغيب الضوء تماما وتنام الألوان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى