الاثنين ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم جميل حمداوي

مفهوم الحقيقة في الفكـــر الإســــلامي

توطئــــة:

تعد الحقيقة من أهم المفاهيم الفلسفية الشائكة التي انشغل بها الفكر الإسلامي قديما وحديثا؛ وما زالت الحقيقة تفرض ذاتها على الباحثين والمفكرين والفلاسفة سواء أكان ذلك في الغرب أم في الشرق، نظرا لقيمتها الأخلاقية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي من أجل تحقيق الفضيلة، وتحصيل السعادة الكبرى عاجلا وآجلا ، أو لقيمتها الوجودية التي بها تتم معرفة الخالق والمخلوقات، أو لقيمتها المعرفية الضرورية لتقدم العلم والفنون والآداب والتكنولوجيا، بغية تحقيق الرقي والازدهار والتقدم ، والرفع من مستوى الإنسانية ماديا ومعنويا.
وقد رأينا في أوراق الفكر الإسلامي ، وذلك مع المفكر المغربي الدكتور عابد الجابري (1935-2010م) في كتابه" بنية العقل العربي"، أن الفلاسفة كانوا يحصرون الحقيقة في البرهان العقلاني، بينما المتصوفة كانوا يحصرونها في العرفان الوجداني والمعرفة الذوقية واللدنية0 في حين، نجد أهل الظاهر يحصرونها في البيان وظاهر النص، بينما علماء الكلام من معتزلة وأشاعرة وماتريدية وشيعة وخوارج ومرجئة يعتمدون على آلية الجدل والحجاج والبيان للوصول إلى الحقيقة #.

هذا، وتعتمد الحقيقة على آليات متنوعة وأنساق فلسفية مختلفة ومتباينة المنظور والتصور. والغرض من هذه الدراسة هو إدراك التحولات التي طالت مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي عند علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة. إذاً، ماهي الحقيقة في اللغة والاصطلاح؟ وماهو مفهوم الحقيقة عند علماء الكلام؟ ومامفهومها عند الفلاسفة والمتصوفة؟ وهل يمكن الحديث عن حقيقة واحدة أم عدة حقائق؟ وماهي السبل أو الطرائق الموصلة إلى إدراك الحقيقة سواء أكانت مطلقة أم نسبية ؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الورقة المتواضعة.

 مفهـــوم الحقيقـــة:

من المعروف أن الحقيقة في اللغة هي الثبات والاستقرار والقطع واليقين ومخالفة المجاز. ومن ثم، فالحقيقة في " لسان العرب" بمعنى الحق، والصدق، والصحة، واليقين، والوجوب، والرصانة، ومقابلة التجاوز. وفي هذا الإطار يقول ابن منظور في لسانه:" بلغ حقيقة الأمر أي يقين شأنه. وفي الحديث: لايبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لايعيب مسلما بعيب هو فيه؛ يعني خالص الإيمان ومحضه وكنهه. وحقيقة الرجل: مايلزمه حفظه ومنعه ويحق عليه الدفاع عنه من أهل بيته؛ والعرب تقول: فلان يسوق الوسيقة وينسل الوديقة ويحمي الحقيقة... والحقيقة ما يحق عليه أن يحميه، وجمعها الحقائق. والحقيقة في اللغة:ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز ماكان بضد ذلك، وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة: وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة،...وحق الشيء يحق، بالكسر، حقا أي وجب... وأحققت الشيء أي أوجبته. وتحقق عنده الخبر أي صح. وحقق قوله وظنه تحقيقا أي صدق. وكلام محقق أي رصين... والحق: صدق الحديث.والحق: اليقين بعد الشك.#"

أما الحقيقة في كتاب" التعريفات" لأبي الحسن الجرجاني، فهي :" اسم لما أريد به ما وضع له. وهي فعيلة من حق الشيء إذا ثبت ، بمعنى فاعلة، أي حقيق، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية، كما في العلامة، لا للتأنيث. وفي الاصطلاح، هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب، والشيء الثابت قطعا ويقينا. يقال حق الشيء إذا ثبت. وهي اسم للشيء المستقر في محله، وما به الشيء هوهو كالحيوان الناطق للإنسان".#

وترتبط الحقيقة في معجم لالاند (Lalande) بالمعنى الحقيقي. وضمن هذا السياق، تتعارض الحقيقة مع الخطإ. كما أن الحقيقة تحيل على الواقع بالمفهوم المنطقي، فكل ماهو موجود فهو حقيقي، وما ليس موجودا فهو خطأ#.

والحقيقة في الاصطلاح هي كل ماهو صادق وواقعي وثابت ويقيني، أوهي مطابقة الفكر للفكر، أو مطابقة الفكر للواقع ، أو كما يقول العرب:"الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان". وتتناقض الحقيقة مع الكذب والغلط والوهم والظن والشك والتخمين والرأي والاعتقاد والباطل.

ويلاحظ جليا أن الحقيقة تتخذ مفهوما معرفيا وقيميا. فعلى المستوى المعرفي، الحقيقة هي التي يتطابق فيها الحكم مع الموضوع المرصود، أو يتوافق فيها الحكم النظري مع الممارسة العملية. كما يقصد بالحقيقة على المستوى القيمي كل ما هو صادق وحسن ويقيني وثابت، وذلك في مقابل الكذب والسيء والزائل . لذا، يقول هيجل Hegel (1770-1831م) في موسوعته التي خصصها للعلوم الفلسفية :" عادة مانطلق لفظ الحقيقة على مطابقة موضوع ما لتمثلنا، وفي هذه الحالة فإننا نفترض وجود موضوع ينبغي أن يتطابق مع تمثلنا له. وعلى العكس من ذلك، فالمعنى الفلسفي للحقيقة يقتضي- بتعبير عام ومجرد- مطابقة محتوى ما لذاته. وهذه دلالة أخرى للفظ الحقيقة، مغايرة للدلالة المذكورة آنفا. أما الدلالة الفلسفية الأكثر عمقا للحقيقة، فهي توجد- في جزء منها- أيضا في استخدام اللسان. هكذا، نتحدث مثلا عن صديق حقيقي، ونعني به صديقا يسلك بطريقة مطابقة لمفهوم الصداقة.كما نتحدث أيضا عن منتوج حقيقي.أما اللاحقيقي فيتخذ نفس المعنى الذي يتخذه ماهو سيء أو قبيح، أي ما ليس ملائما في حد ذاته. وبهذا، المعنى فالدولة السيئة هي دولة غير حقيقية، وماهو سيئ هو غير حقيقي.وبشكل عام، فاللاحقيقي يكمن في التناقض الموجود بين التحديد أو التصور من جهة، ووجود الموجود من جهة أخرى."#

ويعني هذا أن مفهوم الحقيقة مفهوم ملتبس وغامض وشائك، ومتعدد الدلالات من حقل إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، وذلك حسب تصوره النظري ونسقه الفلسفي. وعلى الرغم من تعدد التعاريف والدلالات، فالحقيقة مرتبطة في جوهرها بالصدق، واليقين، والفضيلة، والسعادة، والكمال، والمعرفة العلمية الحقة.

 الحقيقـــــة في الفكــــر الإسلامـــي:

يتضمن الفكر الإسلامي أربع مراحل كبرى: مرحلة علم الكلام، ومرحلة الفلسفة الإسلامية، ومرحلة التصوف، ومرحلة فكر عصر النهضة. وكل مرحلة لها خصوصيات نظرية ومنهجية و سياقية. وبالتالي، فالباحث مطالب باستحضار كل هذه الخصوصيات الفكرية والواقعية حين التعامل مع محطات الفكر الإسلامي الكبرى.

1- مفهوم الحقيقة عند علماء الكلام:

تناول علماء الكلام ، وذلك بعد نشوب الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وظهور مجموعة من الفرق الكلامية كالمرجئة، والشيعة، والخوارج، والمعتزلة، والماتريدية، والأشاعرة، مجموعة من القضايا المتعلقة بحقائق أصول الدين والعقيدة، كالتوحيد (رؤية الله- كلام الله- صفات الله)، والعدل(نظرية الصلاح والأصلح- نظرية الحسن والقبيح...)، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولقد اختار علماء الكلام منهج الجدل والمناظرة من أجل الدفاع عن هذه الحقائق الدينية، وإبداء وجهة النظر في المسائل الدينية والسياسية العويصة التي فرضها الواقع السياسي ، وذلك في علاقة بفقه النص وفقه الواقع. ومن المعروف أن الجدل والمناظرة يخضعان نظريا لمجموعة من الثوابت المنهجية، مثل: وجود المدعي والمدعى عليه، ووجود دعوى الاعتراض، والارتكان إلى الدليل (البينة، والشاهد، والبرهان، والوثيقة، والحجة...)، واستعمال العقل والمنطق في التناظر، والابتعاد عن التعصب والعنف والتجريح والقذف ، واستعمال الحوار البناء القائم على الموعظة والحكمة الحسنة، واستقصاد الحقيقة الهادفة، وعدم الوقوع في التناقض، والانطلاق من المسلمات والبدهيات بغية الحجاج والتأثير والإقناع....

ويلاحظ أن أهم الفرق الكلامية التي كان لها باع كبير في عملية الحجاج، نذكر منها: المعتزلة والأشاعرة، فالفرقة الأولى كانت عقلانية تعطي الأولوية للعقل قبل ورود النص، فترى العقل هو المعيار الوحيد لمعرفة الصواب من الخطإ، والتمييز بين الخير والشر، والتفريق بين الحسن والقبيح. وقد دافعت عن حرية الإنسان في خلق أفعاله ، وذلك على غرار القدرية (معبد بن خالد الجهني ، وغيلان الدمشقي)، ضد الجبرية (جهم بن صفوان ت.128هـ)، التي كانت تقول بأن الإنسان مجبر على أداء أفعاله خيرا وشرا، وقد قالت المعتزلة كذلك بنظرية الصلاح والأصلح. في حين، كان الأشاعرة (نسبة إلى أبي الحسن الاشعري ت.324هـ)نصيين، يعطون الأولوية للنص على حساب العقل، وقد قالوا بنظرية الكسب على مستوى أفعال الإنسان. ويعني هذا أن الإنسان ليس حرا حرية مطلقة، وليس مجبرا جبرية مطلقة . بمعنى أن الإنسان يكسب ما يشاء من أفعال الخير والشر التي خلقها الله، فيستعملها بإرادته ومشيئته كما يريد ثوابا وعقابا. بمعنى أن الله الذي خلق الإنسان، يخلق فيه نوعا من القدرة والاستطاعة يحسه الإنسان أثناء الفعل ومعه. هذا النوع من القدرة والاستطاعة يسميه أبو الحسن الاشعري كسبا. أي: إن الإنسان يكسب القدرة على الفعل حين القيام به، ولكن لايستطيع الكسب إلا بقدرة من الله.

وإذا كان علماء الكلام يستعملون العقل والمنطق والبرهان في الدفاع عن الحقائق الدينية والسياسية، ويستعملون التأويل في قلب الظاهر، واستكشاف الباطن، و تحويل الحقيقة إلى المجاز، وذلك، درءا لكل تشبيه وتجسيد وتشخيص، وإبعاد لقياس الغائب على الشاهد، فإن ثمة انتقادات توجه إلى علم الكلام فيما يخص المنهج والتأويل، فابن رشد – مثلا- يرى أن منهج علماء الكلام منهج افتراضي قائم على الجدل والاحتمال، ينطلق من مقدمات افتراضية، ويصل إلى نتائج افتراضية. ويشبه هذا المنهج منهج الشكاك من السفسطائيين الذين كانوا ينطلقون من نتائج خاطئة، فيصلون إلى نتائج خاطئة. في حين، أن منهج الفلاسفة منهج برهاني ينطلق من نتائج يقينية ليصل إلى نتائج يقينية، أما منهج الفقهاء والجمهور من عامة الناس، فمنهجهم ظاهري وخطابي. وفي هذا النطاق، يقول ابن رشد:" وقد يعرض للنظار في الشريعة تأويلات من قبل تفاضل الطرق المشتركة بعضها على بعض في التصديق، أعني إذا كان دليل التأويل أتم إقناعا من دليل الظاهر، وأمثال هذه التأويلات هي جمهورية، ويمكن أن تكون فرض من بلغت قواهم النظرية إلى القوة الجدلية، وفي هذا الجنس يدخل بعض تأويلات الأشعرية، والمعتزلة، وإن كانت المعتزلة ، في الأكثر، أوثق أقوالا.

وأما الجمهور ، الذين لايقدرون على أكثر من الأقاويل الخطابية، ففرضهم إمرارها على ظاهرها، ولايجوز أن يعلموا ذلك التأويل أصلا.

فإذاً، الناس في الشريعة على ثلاث أصناف:

صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا، وهم الخطابيون، الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق.

وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون، بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة.
وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون، بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة."#

هذا، وقد عاب ابن رشد على الفرق الكلامية تصريحها بتأويلاتها الجدلية ، فكانت وراء اندلاع فتن كثيرة، وماكان عليها أن تصرح بذلك إلا لأصحاب التأويل وأهل العلم والنظر والعارفين بالله، وماكان عليها أن تخرج بذلك على أهل الظاهر وعامة الناس، كما فعل الحلاج المتصوف الذي خرج على الناس قائلا: أنا الله. فماكان من الفقهاء و عامة الناس إلا أن صلبوه عقابا له على كفره وزندقته. وفي هذا السياق، يقول ابن رشد: " ومن قبل التأويلات، والظن بأنها يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام، حتى كفر بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا، وبخاصة الفاسدة منها.

فأولت المعتزلة آيات كثيرة، وأحاديث كثيرة، وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، وإن كانت أقل تأويلا. فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق.

وزائدا إلى هذا كله أن طرقهم التي سلكوها في إثبات تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص، أما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر، وأما مع الخواص فلكونها إذا تؤملت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان.وذلك يقف عليه، بأدنى تأمل، من عرف شرائط البرهان.

بل كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية، فإنها تجحد كثيرا من الضروريات، مثل: ثبوت الأعراض، وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات، والصور الجوهرية، والوسائط، ولقد بلغ تعدي نظارهم، في هذا المعنى، على المسلمين، أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود الباري سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم، وهم الكافرون والضالون بالحقيقة.

ومن هنا، اختلفوا، فقال قوم: أول الواجبات النظر. وقال قوم: الإيمان، أعني من قبل أنهم لم يعرفوا أي الطرق هي الطرق المشتركة للجميع، التي دعا الشرع من أبوابها جميع الناس، وظنوا أن ذلك طريق واحد، فأخطأوا مقصد الشارع، وضلوا وأضلوا."#

وعليه، فقد تسلح علماء الكلام بالجدل والمناظرة من أجل الدفاع عن الحقيقة الربانية، وتنزيه الذات الإلهية من كل نقص أو عجز أو تجسيد بشري. و لو أخذ المسلمون بالمنهج الاعتزالي في إدراك الحقائق، بدلا من اتباع المنهج الأشعري، فاستخدموا العقل والبرهان ، ثم دافعوا عن حرية الإنسان في الخلق والتصرف والاستكشاف والابتكار، لكانوا في مكانة أحسن من مكانتهم الاتكالية التي أصبحوا عليها الآن!

2- مفهوم الحقيقة عند فلاسفة الإسلام:

يذهب الفلاسفة المسلمون بما فيهم: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن طفيل، وابن باجة، وابن رشد... إلى أن الحقيقة هي الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الإنسان الفيلسوف، وهي أس الكمال والسعادة والفضيلة. وبالتالي، لا تتحقق هذه الحقيقة إلا عن طريق استخدام العقل والبرهان والنظر المنطقي. لكن هؤلاء الفلاسفة كانوا يعترفون بأن ثمة حقيقتين: الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشرعية. ومن ثم، تحيل هاتان الحقيقتان على مستوى التفسير الانعكاسي على الصراع الجدلي الذي احتدم في الواقع العربي الإسلامي بين الفقهاء والفلاسفة، وخاصة في العصر العباسي. إذ يحاول الفلاسفة الدفاع عن الفلسفة بصفة عامة، والفلسفة اليونانية بصفة خاصة، باحثين عن الشرعية النصية والقانونية والفقهية والواقعية التي تسمح لهم بممارسة فعل التفلسف، والاشتغال بفعل التمنطق. لكن هؤلاء الفلاسفة وجدوا معارضة كبيرة من قبل الفقهاء الذين كانوا ينطلقون من الظاهر النصي، فيحاربون الفلسفة جملة وتفصيلا ، ثم يربطونها بالكفر والزندقة، قائلين: من تمنطق تزندق. والدليل على ذلك ما فعلوه مع ابن رشد في الأندلس، حينما أحرقوا كتبه الفلسفية والمنطقية إبان الدولة الموحدية. لذلك، اضطر الفلاسفة الملسمون إلى عملية التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وذلك من أجل إثبات حقيقة أساسية، ألا وهي: أن الحق لايضاد الحق. وهذا ما نجده واضحا جليا عند الفيلسوف المسلم الأول الكندي(803-873م).

أما إذا انتقلنا إلى أبي نصر الفارابي (259-339هـ)، فقد اعتمد على نظرية الفيض للتوفيق بين الدين والفلسفة، لكنه سقط في عملية التلفيق، وذلك حينما جمع بين أفلوطين وأفلاطون المثاليين، معتقدا أنه كان يوفق بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي. ومن ثم، يرى الفارابي أن الحقيقة لايتم إدراكها إلا عن طريق العقل والحكمة، وأن الحقيقة الأولية والأزلية هي حقيقة الله أو حقيقة الوحدة التي صدرت عنها كثرة الموجودات والخلائق. وفي هذا الصدد يقول الفارابي:" العلم بالحقيقة ماكان صادقا ويقينا في الزمان كله لا في بعض دون بعض وماكان موجودا في وقت وأمكن أن يصير غير موجود فيما بعد. فإنا إذا عرفنا موجودا الآن فإنه إذا مضى عليه زمان ما، أمكن أن يكون قد بطل، فلاندري هل هو موجود أم لا، فيعود يقيننا شكا وكذبا، وما أمكن أن يكذب فليس بعلم ويقين. فلذلك، لم يجعل القدماء إدراك ما يمكن أن يتغير من حال إلى حال علما، مثلما علمنا بجلوس هذا الإنسان الآن، فإنه يمكن أن يتغير فيصير قائما بعد أن كان جالسا، بل جعلوا العلم هو اليقين بوجود الشيء الذي لايمكن أن يتغير، مثل: أن الثلاثة عدد فرد؛ فإن فردية الثلاثة لا تتغير ، وذلك أن الثلاثة لا تصير زوجا في حال من الأحوال ولا الأربعة فردا...

الحكمة علم الأسباب البعيدة التي بها وجود سائر الموجودات كلها ووجود الأسباب القريبة للأشياء ذوات الأسباب، وذلك أن نتيقن بوجودها ونعلم ما هي وكيف هي وأنها- وإن كانت كثيرة – فإنها ترتقي على ترتيب إلى موجود واحد هو السبب في وجود تلك الأسباب البعيدة ومادونها من الأشياء القريبة، وأن ذلك الواحد هو الأول بالحقيقة...، وأنه لايمكن أن يكون إلا واحدا فقط، وأنه هو الواحد في الحقيقة، وهو الذي أفاد سائر الموجودات الوحدة التي بها صرنا نقول: لكل موجود إنه واحد، وأنه الموجود الواحد هو الحق الأول الذي يفيد غيره الحقيقة، ويكتفي بحقيقته عن أن يستفيد الحقيقة عن غيره...ولا وجود أتم من وجوده، ولا حقيقة أكبر من حقيقته، ولا وحدة أتم من وحدته، ونعلم مع ذلك كيف استفاد منه سائر الموجودات الوجود والحقيقة والوحدة، وما قسط كل واحد منها من الوجود والحقيقة والوحدة."#
وتحيلنا هذه القولة على نظرية الفيض التي تبحث في كيفية صدور الكثرة عن الوحدة الإلهية ، وذلك في شكل انبثاق هرمي للموجودات عن الواحد الكل. ومن ثم، فالحقيقة الجوهرية هي حقيقة الذات الربانية التي خلقت العالم من العدم. وبالتالي، فالحقيقة هي التي تقترن بالثبات واليقين والوحدة.

هذا، ويتسم التوجه الفلسفي عند الفارابي في بحثه عن الحقيقة بالطابع التوفيقي والتمجيدي للبرهان الفلسفي ، كما يتضح ذلك بجلاء في كتابه:"الحروف" الذي يعتبر فيه الفارابي كل من حاد عن المنهج البرهاني ، فقد اعتمد على مجرد انطباعات حسية وآراء شائعة مشتركة بين عوام الناس. أما من تمثل سبيل البرهان، فهو من فئة الخواص. وبالتالي، فقد عرف الطريق الصحيح الموصل إلى الحقيقة الصادقة . وبالتالي، فقد سلك مسلك تحصيل اليقين الحقيقي:"ولا يزالون يجتهدون ويختبرون الأوثق إلى أن يتفقوا على الطرق الجدلية بعد زمان، وتتميز لهم الطرق الجدلية عن الطرق السوفسطائية...فلا تستعمل إلى أن تكمل المخاطبات الجدلية، فتبين بالطرق الجدلية أنها ليست هي كافية بعد في أن يحصل اليقين... فالتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخطابية أو بالشعرية".#

ويظهر لنا أن الفارابي والكندي ومن سار مسارهما مجرد تابعين من توابع الفلسفة الأرسطية المشائية، تلك الفلسفة التي تجعل من الفلسفة والبرهان آليتين من آليات المعرفة الحقيقية الصادقة. ويعني هذا أن العقل والمنطق- كما يتشخصان في الفلسفة اليونانية- من أهم الوسائل الناجعة للوصول إلى الحقيقة اليقينية سواء أكانت حقيقة أنطولوجية تتعلق بالوجود، أم كانت حقيقة إبستمولوجية تتعلق بالمعرفة، أم كانت حقيقة أكسيولوجية تتعلق بالقيم والأخلاق.

وإذا كان الفارابي فيلسوف العقل، فإن ابن سينا (370-428هـ) فيلسوف النفس، ويعني هذا أنه قد اشتغل كثيرا بحقائق النفس الإنسانية روحا وتصوفا، ولاسيما في كتابه" الإشارات والتنبيهات"#. وقد حاول ابن سينا، وذلك اعتمادا على نظرية الفيض الأفلوطينية، التوفيق بين الدين القائل بحدوث العالم والفلسفة القائلة بقدم العالم ، مستوحيا في ذلك أفكار وتصورات أستاذه الفارابي. وهكذا، فقد أثبت وحدة الحقيقة الربانية التي تصدر عنها الموجودات المتعددة فيضا وانبثاقا هرميا، كما أثبت أن السعادة الحقيقية تنتج عن طريق تنقية الروح ، وتطهير النفس ، ولم يعط الجسد أو البدن أي اهتمام في ذلك؛ لأن الإنسان يبعث روحا، ولايبعث جسدا .
وإذا كان المؤلفون القدامى والباحثون المعاصرون يتفقون في القول:" إن الشيخ الرئيس أبا علي ابن سينا لايختلف، في آرائه الفلسفية، عن الفارابي إلا في بعض التفاصيل والجزئيات.بل إن منهم من يذهب إلى القول بأن ابن سينا لم يعمل في الحقيقة إلا على توضيح وتبسيط الأقاويل التي قررها الفارابي من قبل: فما أعطاه الفارابي موجزا مجملا، قدمه ابن سينا مبسطا مفصلا."#، فإن الدكتور محمد عابد الجابري يرى أنه مهما كان هناك من اتفاق على المستوى النظري، فهناك اختلاف كذلك على المستوى المرجعي والإيديولوجي :" إن ابن سينا حينما تبنى المنظومة الميتافيزيقية الفارابية، تبناها كمنظومة معرفية وليس كحلم إيديولوجي. ولم يكن هذا راجعا إلى قراره واختياره، بل كان ذلك هو قرار التاريخ."#

ويدل هذا على أن الفارابي كان يحلم بدولة قوية موحدة السلطة، مركزها العقل والإخاء الفلسفي، في حين أن ابن سينا كان يعبر عن دولة بدأت تتفكك إلى إمارات متعددة، تنعدم فيها وحدة السلطة واستمرارية الدولة . ويعني هذا أن هناك انتقالا من حلم المدينة الفاضلة القائمة على وحدة السلطة والعقل كما هو الحال عند الفارابي، إلى حلم ضائع مبني على مدينة مفككة في عهد ابن سينا. إذاً، هذا هو الاختلاف الإيديولوجي الذي كان يميز بين الفيلسوفين ، وذلك على الرغم من وحدة التصور الفلسفي والتأمل النظري#.
وإذا انتقلنا إلى فيلسوف آخر ألا وهو الغزالي (1057-1111م)، فإنه يرى الشك هو السبيل الوحيد إلى الوصول إلى الحقيقة اليقينية، وقد سبق في ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650م )الذي اعتمد معيار الشك للتأكد من حقيقة وجوده ، ووجود الله والعالم الخارجي على حد سواء(نظرية الكوجيطو). وقد ارتأى الغزالي أن الحس بمفرده غير كاف للوصول إلى الحقيقة، حتى العقل بمفرده غير قادر على استكشاف الحقيقة، فلابد من ممارسة الشك من أجل تحقيق الهدف الأسمى الذي يتمثل في الوصول إلى الحقيقة. وبتحصيل الحقيقة، تتحقق السعادة والفضيلة والكمال. وهكذا، يرى الغزالي أن الحقيقة تنبني على الشك اليقيني سواء أكان ذلك الشك قائما على الحس أم العقل أم القلب الصوفي:"ثم فتشت علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لامطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات. فلابد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من لغط في الضروريات، من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لاغدر فيه ولاغائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؛ فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذت تتسع للشك فيها...فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه... ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لابحكم النطق والمقال، حتى شفي الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف.فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة."#

هذا، ويرى أبو حامد الغزالي في كتابه:" إحياء العلوم" أن الحقيقة المطلقة يتم تحصيلها عن طريق القلب والإلهام عند الصوفية والأولياء والأصفياء، ويتم تحصيلها عن طريق الوحي عند الأنبياء، وتكتسب عن طريق الاستدلال والاعتبار والاستبصار عند العلماء:" اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية- وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال- تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لايدري، وتارة تكتسب بطريقة الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى مالايدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل؟ وإلى مايطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاما ونفثا في الروع، والثاني: يسمى وحيا وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله- وهو المكتسب بطريقة الاستدلال- يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة- التي سبق ذكرها- فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها."#

وقد انتقد الغزالي الفلاسفة المسلمين في كتابه:" تهافت الفلاسفة"#، وذلك في عشرين مسألة، معتمدا في ذلك على الدين والمنطق، حيث بدعهم في سبع عشرة مسألة، وكفرهم في ثلاث مسائل أو حقائق فلسفية، ويمكن حصرهذه الحقائق الثلاث في القضايا التالية:

1- مسألة قدم العالم وأزليته، حيث قال الفلاسفة باستحالة صدور حادث عن قديم أصلا.

2- قضية العلم الإلهي، حيث يذهب الفلاسفة إلى أن الله يعلم الكليات دون الجزئيات.

3- حشر النفوس دون الأجساد، حيث يرى الفلاسفة المسلمون أن الله سيبعث النفوس دون الأجساد.

وهكذا، فالغزالي يخالفهم في ذلك ، إذ يثبت أن الله يعلم الكليات والجزئيات على حد سواء، وأن الله أيضا سيبعث النفوس والأجساد معا، ويؤكد كذلك بإمكان صدور الحادث عن القديم أصلا. ومن ثم، فقد وضع الغزالي حدا نهائيا للميتافيزيقا الإسلامية، واختار منهجا آخر في المعرفة ، ألا وهو المنهج الصوفي ؛ حيث اعتبر الخلوة مصدرا للمعرفة ، وطريقا مؤديا إلى الحقيقة الربانية السرمدية.

أما إذا انتقلنا إلى الفلسفة بالغرب الإسلامي، فقد كانت الحقيقة الربانية حاضرة ، إلى جانب حقائق أخرى كحقيقة الوجود، وحقيقة المعرفة، وحقيقة القيم بما فيها: الخير، والسعادة ، والعدل ، والجمال... بيد أن أهم ماتميزت به الفلسفة المغربية هي الانشغال بترجمة كتب أرسطو، والاهتمام بالميتافيزيقا والمنطق، والتوفيق بين الدين والفلسفة على أن الشرع منفصل عن الحكمة، لكن هدفهما واحد ألا وهو استخدام العقل من أجل إدراك الحقيقة ، حقيقة الصانع وحقيقة المصنوعات والموجودات التي خلقها هذا الصانع الماهر. ومن أهم الفلاسفة الذين انشغلوا بعملية التوفيق بين الدين والفلسفة، نستحضر: ابن باجة، وابن طفيل، وابن حزم، وابن رشد، وموسى بن ميمون...#

فإذا بدأنا بالفيلسوف الأندلسي ابن باجة (ت.532هـ) في كتابه:" تدبير المتوحد"، فقد رفض هذا الفيلسوف العقلاني المنهج الصوفي في إدراك الحقيقة كما عند ابن سينا، واعتبر العقل أو البرهان هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى امتلاك الحقيقة اليقينية (حقيقة معرفة الله)، وقد تأثر في ذلك بالفارابي كل تأثير. ويقول الدكتور محمد علي أبو ريان عن ابن باجة:" ومما تجدر الإشارة إليه أنه كما كان ابن مسرة يمثل في المغرب اتجاها يميل إلى التصوف وإلى الإدراك الذوقي لحقائق الوحي والألوهية وتحقيق السعادة واللذة عن طريق المشاهدة الصوفية ( وقد سار ابن عربي فيما بعد على هذا الدرب) ، نجد أن ابن باجة يرفض هذا الاتجاه ، وينتقد موقف الغزالي في المشرق الذي قال بأن العالم العقلي لاينكشف للانسان إلا بالخلوة، فيرى الأنوار الإلهية ، ويلتذ بها لذة كبيرة، ويقول ابن باجة: إن الغزالي حسب الأمر هينا حينا ظن أن السعادة إنما تحصل للمرء عن طريق امتلاكه للحقيقة بنور يقذفه الله في القلب. بل الحق أن النظر العقلي الخالص الذي لاتشوبه لذة حسية هو وحده الموصول إلى مشاهدة الله، أما المعرفة الصوفية بما تنطوي عليه من صور حسية فإنها تكون عائقا عن الوصول إلى معرفة الله إذ هي تحجب وجه الحقيقة.

فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الإنسان إلى معرفة نفسه بنفسه ومعرفة العقل الفعال، وقد تأثر ابن رشد بموقفه هذا.

وكتاب" تدبير المتوحد" لابن باجة يبين معالم الطريق الموصول إلى العقل الفعال.
وتقال لفظة التدبير على ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، وليست هذه الغاية سوى الاتحاد بالعقل الفعال، ولهذا فإن الطريق الذي يرسمه الكتاب هو المنهج الذي يسير عليه الإنسان حتى يبلغ هذه الغاية المنشودة.

ولكن هذا المنهج ليس منهجا صوفيا يستخدم فيه المريد أسلوب المجاهدة والتطهير، بل هو تدبير الأعمال بالعقل، واستخدام الرؤية، ولايقدر على هذا غير الإنسان."#

وقد سبق لابن طفيل أن حاول التوفيق بين الدين والفلسفة ، وذلك في كتابه " حي بن يقظان"، حيث يمثل آبسال الحقيقة الدينية التي توصل إليها عن طريق النص والشرع والوحي. في حين، يمثل حي الحقيقة العقلية التي توصل إليها عن طريق البرهان والاستبصار والتأمل المنطقي. وحينما التقيا على أرض الجزيرة، وجدا أن حقيقة الدين النصية والحقيقة الفلسفية العقلية لاتتعارضان إطلاقا مع حقيقة الفلسفة العقلانية والبرهانية.

وإذا كانت الفلسفة المشرقية - كما هي عند الفارابي وابن سينا- قائمة على فلسفة الاتصال بين النص والعقل، والخلط بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي ، وذلك من خلال استحضار أفلوطين المثالي الهرمسي أثناء عملية التوفيق، والوقوع في التلفيق أثناء المؤالفة بين الحكمة والشريعة، فإن فلاسفة المغرب قد انطلقوا منذ البداية بأن الفلسفة ليست هي الشريعة، ولكن هدفهما واحد، مادام الشرع يدعو إلى استخدام العقل والنظر البرهاني، فكذلك الحكمة أو الفلسفة فهي تنادي إلى استخدام العقل في معرفة المصنوعات ومعرفة الصانع. ومن هنا، فالدين ليس هو الفلسفة، ولكن يتفقان من حيث الهدف ألا وهو استخدام العقل. وبما أن هدفهما واحد، فلابأس من الاستعانة بعلوم الأوائل، ودراسة الفلسفة والمنطق كما لدى اليونان، وهذا ما يذهب إليه ابن رشد كذلك.

وبناء على ماسبق، يقول محمد عابد الجابري معقبا على فلسفة ابن طفيل:" ومما هو جدير بالملاحظة أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية كما وضعهما في البداية.لقد فشل حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل، فشل حي في ذلك وعاد إلى جزيرته الشيء الذي يعني فشل المدرسة الفلسفية في المشرق التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة . أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة."#

ويعني هذا أن فلاسفة الغرب الإسلامي – حسب محمد عابد الجابري- بعمليتهم التوفيقية هاته ، والقائمة على الفصل بين الشرع والفلسفة، قد أسسوا بشكل من الأشكال مدرسة فلسفية مغربية مستقلة، تتميز كثيرا عن المدرسة الفلسفية المشرقية التي سقطت في التلفيق والخلط المنهجي ، وتوظيف المؤثرات الدينية الهرمسية والغنوصية والأفلوطينية... وقد اتضحت هذه المدرسة الفلسفية المغربية مع ابن رشد على سبيل الخصوص. وفي هذا النطاق، يقول الجابري:" ننظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد الدولة الموحدين، كمدرسة مستقلة تماما عن المدرسة- أو المدارس- الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، ومفاهيمها الخاصة، وإشكاليتها الخاصة كذلك.لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق، مدرسة الفارابي وابن سينا بكيفية أخص، تستوحي آراء الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة، خاصة مدرسة حران، والمتأثرة إلى حد بعيد بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة إلى حد كبير بالحركة الإصلاحية، بل بالثورة الثقافية، التي قادها ابن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، التي اتخذت شعارا لها:" ترك التقليد والعودة إلى الأصول". ومن هنا، انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول... ولفلسفة أرسطو بالذات.

إن الانفصال الظاهري بين المدرستين بوصفهما تنتميان إلى مااصطلح على تسميته بـ" الفلسفة الإسلامية " أو " الفلسفة في الإسلام"، لاينبغي أن يخفي عنا " انفصالا" أعمق بينهما.لقد عالج فلاسفة الإسلام، بالفعل، نفس الموصوعات، وتناولوا نفس المشاكل، ولكن ما يميز فكرا فلسفيا معينا- كما يقول برييه- ليس الموضوع الذي يتناوله، ولا النظريات التي يدافع عنها، " إن الأهم من ذلك هو النظر إلى الروح التي يصدر عنها والنظام الفكري الذي ينتمي إليه". ونحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريان في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمس في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية."#
ويعني هذا أن هناك قطيعة إبستمولوجية بين المدرستين المغربية والمشرقية في مجال الفلسفة ، وذلك على مستوى الطرح النظري، وعلى مستوى المنهج والمعالجة، وعلى مستوى البعد المرجعي والإيديولوجي.

وبناء على ماسبق، نستحضر ابن رشد (520-595هــ)، وذلك باعتباره من أهم فلاسفة المدرسة المغربية ، فقد تميز بالعقلانية التي كانت أساس النهضة الأوربية، وقد تجلت هذه العقلانية الرشدية في ترجمة كتب أرسطو وشرحها، ولاسيما كتبه المنطقية والميتافيزيقية، كما توفق في التوفيق بين الدين والفلسفة داخل أرضية شرعية .

هذا، ويذهب ابن رشد في كتابه " فصل المقال" #إلى أن هناك حقائق عدة توصل الإنسان إلى حقيقة يقينية واحدة، وهي الحقيقة الربانية القائمة على التوحيد، ونبذ التعددية والشرك الوثني. وهكذا، نجد أن هناك من يعتمد على الخطابة للوصول إلى الحقيقة كالفقهاء، وهناك من يختار الجدل كعلماء الكلام (المعتزلة والأشاعرة والماتريدية...)، وهناك من يعتمد على العرفان كالمتصوفة، وهناك من يفضل البرهان كالفلاسفة للوصول إلى الحقيقة الصادقة. لكن ابن رشد يرى أن الحقيقة اليقينية لايمكن الوصول إليها إلا عن طريق البرهان العقلي، ذلك البرهان الذي لايتعارض مع الشرع الرباني مادام الحق لايضاد الحق، بل يوافقه ويلائمه هدفا ووظيفة ومقصدا. ويتمثل ذلك في معرفة الحق، والتأكد من وجود الله عز وجل صانع هذا الكون الأرحب والمعجز. وبهذا، يعمد ابن رشد إلى التوفيق بين الفلسفة والشريعة على غرار الفلسفة المغربية كما عند ابن طفيل وابن باجة مثلا، مع الاستفادة بشكل من الاشكال من الفلسفة المشرقية كما هي عند الكندي، والفارابي، وابن سينا، و الغزالي...

ويقول ابن رشد في كتابه" فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ":"وإذا كنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا، هذه الإلهية، حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة. ودعت إليها التي هي المعرفة بالله عز وجل، وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.

وإذا كانت الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع، أنه لايؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ماورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له."#

وهكذا، يتبين لنا بأن المشروع الرشدي ينطلق من مبدإ عام هو:" إن الحقيقة واحدة وإدراك الناس لها يختلف بالدرجة فقط، وليس بالنوع"، وفي ضوء هذا الفهم للحقيقة، وأهلية الناس على إدراكها، يناقش ابن رشد إشكالية العقل والانغلاق المذهبي، ويحاول أن يعيد رسم حدود العلاقة بين الدين والفلسفة أو العقل والوحي، بما يحفظ لكل منهما حضوره ووظيفته ونشاطه على مستوى القول المعرفي والبناء الاجتماعي."#

ويعني هذا أن ابن رشد قد تناول وحدة الحقيقة على مستوى الهدف والمقصد(وحدة الحقيقة الربانية). وتحدث، في الوقت نفسه، عن تنوع المنهج في الوصول إلى الحقيقة (المنهج البياني ، والمنهج البرهاني، والمنهج العرفاني). وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على انفتاح ابن رشد على الخطابات الفكرية والفلسفية الأخرى، وتجنب الانغلاق والتعصب في مجال الفكر والتأمل، مع الأخذ بفلسفة التسامح والتفاهم والتعايش في التعامل مع أطروحات الآخرين ، بما فيهم الفلاسفة اليونانيون.

ومن هنا، فقد رد ابن رشد على الغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه:" تهافت الفلاسفة"#، فصنف كتابا تحت عنوان:" تهافت التهافت" ، وذلك للرد على الغزالي في ثلاث مسائل أو حقائق كبرى كفر فيها فلاسفة الإسلام، معتمدا في ذلك على المنطق أولا، والدين ثانيا. وهذه الحقائق الفلسفية هي: قدم العالم، وعلم الله الكليات دون الجزئيات، وحشر النفوس دون الأبدان أو الأجساد.

3- مفهوم الحقيقة عند المتصوفة:

وإذا كان الفقهاء يعتمدون على ظاهر النص في الوصول إلى الحقيقة الربانية، وعلماء الكلام يستندون إلى الجدل الافتراضي، والفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق أو البرهان الاستدلالي، فإن المتصوفة يعتمدون على الذوق والحدس والوجدان والقلب في إدراك هذه الحقيقة السرمدية. أي: إن لغتهم لغة باطنية تنفي الوساطة، وترفض الحسية، وتتجاوز نطاق الحس والعقل إلى ماهو غيبي وجداني وذوقي . ومن ثم، فاللغة قاصرة في ترجمة التجربة الصوفية اللدنية الجوانية. لذلك، يلتجئ المتصوفة إلى مصطلحات رمزية لها سياقات خاصة، وهذه المصطلحات كثيرة يصعب حصرها، استقيت من مجالات عدة . ومن هنا، يمكن الحديث عن اللفظ المشترك داخل الحقل الصوفي . ومن هذه العلوم التي نهلت منها الكتابة أو الممارسة الصوفية، نذكر: : علوم الشريعة،وعلوم العقيدة، والآداب، وعلوم اللغة، والفلسفة، وعلوم الآلة، فضلا عن القرآن والسنة وعلم الحروف والكيمياء...

ومن مشاكل الاصطلاح الصوفي التعدد في الألفاظ، والتعدد في المعاني، والاختلاف بين الصوفية في معنى مفهوم ما، وهذا راجع لاختلاف التجربة الصوفية من تجربة إلى أخرى. #
وعليه، فهناك مجموعة من القضايا والإشكاليات التي يجب الوقوف إليها عند المتصوفة، وهي: قضية العرفان ، وثنائية الظاهر والباطن، وإشكالية التأويل؛ لأنها هي التي ستميز الخطاب الصوفي عن الخطاب الفلسفي، والخطاب الفقهي، والخطاب الكلامي. فهذا أبو نصر السراج الطوسي ، وهو من أوائل المؤلفين في تاريخ التصوف في الإسلام، يعتبر المتصوفة من علماء الباطن. وبالتالي، فالتصوف هو علم الباطن، بينما الفقه هو علم الظاهر. وفي هذا يقول في كتابه" اللمع":"إن العلم ظاهر وباطن. وهو علم الشريعة الذي يدل ويدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة. والأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح وهي العبادات والأحكام... وأما الأعمال الباطنة فكأنما القلوب وهي المقامات والأحوال... ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد... فإذا قلنا: علم الباطن أردنا بذلك علم أعمال الباطن التي هي الجارحة الباطنة وهي القلب، وأما إذا قلنا: علم الظاهر أشرنا إلى علم الأعمال الظاهرة التي هو الجوارح الظاهرة وهي الأعضاء، وقد قال تعالى:" وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"(لقمان20). فالنعمة الظاهرة ما أنعم الله تعالى بها على الجوارح الظاهرة من فعل الطاعات، والنعمة الباطنة ما أنعم الله تعالى بها على القلب من هذه الحالات. ولا يستغني الظاهر عن الباطن ولا الباطن عن الظاهر، وقد قال الله عز وجل" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم"( النساء83)، فالعلم المستنبط هو العلم الباطن وهو علم أهل التصوف لأن لهم مستنبطات من القرآن والحديث وغير ذلك... فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن، وحديث رسول ( صلعم) ظاهر وباطن والإسلام ظاهر وباطن".#

ومن هنا، فإن المتصوفة يتجاوزون الحس والظاهر إلى استكناه القلب، واستنطاق مقاماته وأحواله لتأسيس تجربة روحانية، وتأصيل حضرة ربانية قوامها: العشق، والمحبة، والزهادة، وتأويلها عرفانيا ولدنيا، بينما يكتفي الفقهاء وعموم الناس بظاهر النصوص، والالتزام بسياقاتها السطحية، وذلك مخافة من التأويل، وإثارة الفتنة في المجتمع.

هذا، ويمكن الحديث عن نوعين من المصادر التي كانت وراء نشوء التصوف الإسلامي: أولا، المصادر الداخلية التي تتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمر منها الأمة الإسلامية.

ثانيا، المصادر الخارجية التي تتمثل في الفكر الغنوصي، والهرمسية، والأفلاطونية المحدثة، والتشيع، والفكر الباطني، ناهيك عن التيارات الهندية والفارسية والمسيحية واليهودية.
وإذا كان الزهد والتصوف الإسلامي السني لهما جذور داخلية بدون شك، فإن التصوف الفلسفي كما عند الحلاج، وأبي يزيد البسطامي، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والسهروردي، على الرغم من طابعه السني والشرعي في الكثير من النصوص و المواقف، فإن له جذورا خارجية؛ نظرا لتأثره بالفكر الهرمسي، كما يقول الدكتور عابد الجابري في كتابه:"بنية العقل العربي":"وإنما ذكرنا الإسماعيلية هنا لأنه عنهم كان ابن العربي يأخذ مواد عرفانيته، ومن نفس النبع الذي غرفوا منه كان يستسقي الهرمسية.".#

ويذهب ابن خلدون في كتابه "المقدمة" إلى أن المتصوفة المتأخرين قد تأثروا بالشيعة الغلاة والفكر الباطني المنحرف. ويقول ابن خلدون في هذا الصدد:" إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف، وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة، وملأوا الصحف منه، مثل: الهروي في كتابه "المقامات" وله غيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم".#

وتحيل نظرية الحلول ومحبة الله ولبس الصوف على العقيدة المسيحية ، بينما تحيل فكرة الفناء على النرڤانا البوذية، وتشير أفكار ذي النون المصري إلى تصورات أفلوطين، وتختلط أفكار ابن عربي بأفكار الشيعة الباطنية والهرمسية الشرقية.

وقد دفعت الشطحات التي كان ينطق بها المتصوفة كثيرا من المستشرقين ليربطوا التصوف الإسلامي بمؤثرات خارجية هندوسية وبوذية وزرادشتية، مثل: شطحات أبي يزيد البسطامي الذي قال:" رفعني- الله- مرة فأقامني بين يديه، وقال لي يا أبا يزيد:إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت: زيني بوحدانيتك، والبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك ، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك". ومن ذلك أيضا قوله:" أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت إلى وحدانيته فصرت طيرا جسمه من الأحدية وجناحاه من الديمومة، فلم أزل أطير في هواء الكيفية عشر سنين حتى صرت إلى هواء مثل ذلك مائة ألف مرة. فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية فرأيت فيها شجرة أحدية، ثم وصفت أرضها وأصلها وفرعها وأعضاءها وثمارها...فنظرت فعلمت أن هذا كله خدعة".#

فهذه الشطحات كثيرة في متون العرفانيين، أمثال: جلال الدين الرومي، والسهروردي، وابن عربي، وأبي يزيد البسطامي، والحلاج، وابن الفارض، وابن سبعين...

وهكذا، فقد ارتبطت الحقيقة عند المتصوفة في التاريخ الإسلامي بالقلب العرفاني تحلية وتخلية ووصالا، واقترنت بالروح الوجدانية حضرة وسلوكا ومقاما، واختلطت بالهذيان اللاشعوري تأويلا وإفصاحا وتعبيرا، وارتكزت على السحر الأسطوري فهما وتفسيرا، واستندت إلى الكرامات الخرافية الغيبية سردا وتخييلا وتخطيبا، واعتمدت على التصورات العجائبية الخارقة. كما ارتبطت الحقيقة الصوفية عند الفرق الطرقية بالتدجين، والاستلاب، واستغلال الناس، وخدمة السلطة الحاكمة الجائرة، وذلك على حساب الحقيقة الصادقة واليقينية.

هذا، وقد نشب خلاف كبير حول قيمة التصوف في المجتمع العربي الإسلامي، فهناك من يدافع عنه، ويعتبره فعلا إيجابيا . وهناك من ينظر إليه نظرة سلبية. ومن هؤلاء: الدكتور محمد عابد الجابري الذي اعتبر الفكر الصوفي العرفاني فكرا خرافيا أسطوريا، وسلوكا تواكليا، فالحقيقة عند الصوفية" ليست الحقيقة الدينية ولا الحقيقة الفلسفية ولا الحقيقة العلمية، بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الأسطورة".#

ولكن هناك من يشيد بالفكر الصوفي، ويعتبره مسلكا للنجاة والخروج من أزمات الحياة المعاصرة، لأن مشكلاتنا مشكلات أخلاقية، وأزمات روحية. كما أن الكثير من الطرق الصوفية قامت بدور هام في ميدان الجهاد، وطرد المستعمر، وحماية ثغور الوطن، وساهمت في خدمة المجتمع ، وذلك عن طريق الكرم والإنفاق والإحسان. زد على ذلك، أن التصوف أصبح اليوم علاجا سيكولوجيا؛ لأنه يحرر الإنسان من شرنقة أمراضه العضوية والنفسية، ويخرجه من عزلته الاجتماعية، ويداويه من القلق والكآبة والوحدة والاغتراب الذاتي والمكاني.

وما أشد حاجتنا اليوم إلى تصوف معاصر يساير الحداثة، ويواكب التقدم العلمي والتقني والفني! تصوف ينخرط في المجتمع انخراطا حقيقيا، وذلك عن طريق تقديم مقاربات أخلاقية ونفسية وروحية ، تعالج كل المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي المعاصر، ولاسيما أن أزمتنا المعاصرة هي أزمة ضمير وأخلاق، وتردي القيم الأصيلة، وانحطاط الإنسان كينونة ووجودا وقيمة.

وهكذا، فقد ناقش الفكر الإسلامي مجموعة من الحقائق الكبرى ، لكن تبقى الحقيقة الربانية (التوحيد) أهم هذه الحقائق وأسماها، فقد وجدناها مطروحة عند علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة. بيد أن ثمة حقائق أخرى قد تم مناقضتها في حقل الفكر الإسلامي كمسألة العقل والنقل، ومسألة الظاهر والباطن، ومسألة التأويل بين الحرفي والمجازي، ومسأالة التوفيق بين الشرع والحكمة، ناهيك عن مناقشة الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والميتافيزيقية التي طرحتها الفلسفة اليونانية من جهة، والواقع العربي الإسلامي من جهة أخرى.

ونخلص من كل هذا أن الفلاسفة والعلماء المسلمين قد انشغلوا بحقيقتين مترابطتين أو متلازمتين: الحقيقة الميتافيزيقية التوقيفية التي نوقشت في ضوء الدين والمنطق الافتراضي الصوري، والحقيقة العلمية التوفيقية التي نوقشت في ضوء مناهج الاستقراء والاستنباط والتجريب. وهناك حقيقة ثالثة وسيطية اهتم بها الفقهاء وعلماء اللغة والأدب، ونسميها الحقيقة البيانية التي نوقشت في ضوء الرواية والتقعيد والاستنباط والاجتهاد.

4- الحقيقة في الفكر الإسلامي الحديث:

ارتبطت الحقيقة في الفكر الإسلامي الحديث بالجواب عن سؤال جوهري: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ ويبرز هذا السؤال بطبيعة الحال إشكالية التقدم والتخلف، أو إشكالية النهضة والانحطاط، أو إشكالية الشرق والغرب. ويعني هذا أن الفكر الإسلامي قد تجاوز مجموعة من الإشكاليات التي تنوولت في العصور الوسطى، كإشكالية العقل والنص، وإشكالية الظاهر والباطن، وإشكالية التوفيق والتلفيق، بل أصبح همه الشاغل هو سؤال النهضة أو التقدم، وذلك من خلال الإجابة عن سؤالين مهمين: لماذا تخلف المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ وبالتالي، ما هي الحلول الناجعة والسبل الكفيلة للخروج من هذا التخلف والانحطاط؟ بتعبير آخر، لابد من تشخيص الداء، ووصف الدواء، ورصد العلاج. ومن ثم، فالحقيقة الكبرى التي قام عليها الفكر الإسلامي الحديث هي حقيقة النهضة والتنوير، وذلك في مقابل حقيقة التخلف والانحطاط. لذلك، سارع المفكرون المسلمون في وصف الواقع الإسلامي المنحط، وتشخيص سلبياته في جميع الميادين والمجالات، مع اقتراح الحلول المناسبة لإنقاذ المسلمين من أوضاعهم المزرية التي كانوا يتخبطون فيها على جميع المستويات والأصعدة.

وهكذا، يرى جمال الدين الأفغاني (1839-1897م)بأن سبب انحطاط المسلمين وتخلفهم يعود إلى ضياع الحقيقة الدينية في صفائها، وانقسام المسلمين إلى ممالك وإمارات ودويلات وطوائف ومذاهب، فاختلفت كلمتهم، وتفرق شملهم. فانتقل المسلمون سياسيا من نظام الخلافة إلى نظام الملك، فأصابهم التقهقر والانحطاط. ويعني هذا أن المسلمين عرفوا نوعين من التشتت: التشتت السياسي الذي يتمثل في كثرة الممالك، والتشتت الديني الذي يتجلى في كثرة الطوائف والمذاهب. كما تحول الدين إلى طقوس وشعائر وتعاليم ورسوم بلا معنى، وصارت العبادة ممارسات صوفية خارقة. وبذلك ، أساء رجال الدين فهم الشريعة، وذلك من حيث لايعلمون، وتفسير العقيدة الصحيحة، مبشرين بالتواكل والقضاء والقدر ، معتمدين في تأويلاتهم على الخوارق والأساطير. ومن ثم، كان ضعفهم في عدم فهم الدين على أساس النص أولا، فالواقع ثانيا. وهذا هو موطن تقاعسهم وتخلفهم. في حين ، تقدم الغربيون في شتى الميادين العلمية والمعرفية والتقنية ، وذلك بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى ؛ بفضل الوحدة والعزيمة والعلم والفكرة والعمل. وهكذا، فالحقيقة عند جمال الدين الأفغاني مبنية على فهم الدين فهما صحيحا ، وذلك على أساس الوحدة والعلم والعقل والإيمان والعمل.

هذا، وقد كان جمال الدين الأفغاني من دعاة الجامعة الإسلامية، بغية مقاومة الاستعمار الغربي بشتى السبل، والوقوف في وجه العدوان الصليبي ، عن طريق تكتل المسلمين ضمن جامعة إسلامية موحدة. وقد كانت هذه الفكرة السياسية الجريئة هي الأساس الذي قامت عليه الخلافة الإسلامية العثمانية في عهد عبد الحميد الثاني. وفي هذا المنحى، يقول الدكتور فاروق أبوزيد:" والأمر الذي لاشك فيه أن صحيفة (العروة الوثقى) التي أصدرها جمال الدين الأفغاني في باريس بمعاونة الشيخ محمد عبده قد لعبت الدور الرئيس في بلورة المحتوى الإيديولوجي لفكرة الجامعة الإسلامية، ويرجع إلى جمال الدين الأفغاني ومقالاته في (العروة الوثقى) الفضل في كون فكرة الجامعة الإسلامية لم تقف عند الحد الذي أراده لها السلطان عبد الحميد الثاني...فقد منحها جمال الدين الأفغاني محتوى تحرريا ومضمونا معاديا للاستعمار."#

هذا، وقد كانت فكرة الجامعة الإسلامية فكرة إيديولوجية مقبولة في المجتمع الإسلامي؛ لما لها من آثار إيجابية في مواجهة الاستعمار الغربي. وفي هذا الصدد، يقول الدكتور محمد الكتاني:"في هذه الظروف لقيت فكرة الجامعة الإسلامية من القبول والحماس ما لم تلقه في أي ظروف أخرى سابقة أو لاحقة، وكان جمال الدين الأفغاني هو فيلسوف هذه الحركة ورائدها، في مقدمة الواعين يومئذ بحقيقة الأوضاع واتجاهات الأحداث،أو بضرورة هذه الجامعة بين المسلمين من أجل مقاومة الاستعمار الغربي مقاومة فعالة، وإن كان هؤلاء المسلمون على علم بأن الدولة العثمانية، أو الخليفة العثماني المستبد هو الذي سيستفيد في البداية من هذه الحركة الدينية التي جعلت منه الخليفة الأول للمسلمين.نعم، لايمكن تحديد مفهوم الجامعة الإسلامية من غير الرجوع إلى جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية والسياسية في العالم العربي، عن طريق مابثه من آراء وتوجيهات في طائفة من تلاميذ، والمتأثرين به، كالإمام محمد عبده، ومصطفى كامل، وعبد الله النديم، وأديب إسحق، وعبد الرحمن الكواكبي، ورشيد رضا، في المشرق العربي، فضلا عمن تأثر به من مفكري المغرب العربي والشرق الإسلامي. وقد كان الأفغاني مهتما بتحليل أمراض العالم الإسلامي النفسية والأخلاقية والاجتماعية، كما كان مدركا لأوضاعه السياسية، ولما يحدق به من الأخطار من جراء ضعفه الداخلي وانحلاله الاجتماعي."#

بيد أن الحقيقة الدينية لدى جمال الدين الأفغاني قائمة على أساس الوحدة الدينية والسياسية. بمعنى أن السياسي في خدمة الديني، وأساس هذا السياسي هو الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعا، ونبذ التفرقة. وفي هذا يقول الأفغاني:" علمنا وعلم العقلاء أجمعين أن المسلمين لايعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم"# ، وكان الأفغاني يدعو المسلمين إلى تمثل الوحدة الدينية والسياسية منهجا في سلوكهم وحياتهم ، وذلك بأن:" يعتصموا بحبل الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي، والفارسي بالهندي ، والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة الجنسية." #

ويقول الأفغاني في موقع آخر مدافعا عن الوحدة السياسية والدينية:" هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لايتقيدون برابطة الشعوب وعصبيات الأجناس، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين. لهذا، نرى المغرب لاينفر من سلطة التركي ، والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يذعن لرياسة الأفغاني، لا اشمئزاز عند أحد منهم، ولا انقباض، وأن المسلم في تبدل حكوماته لايأنف ولا يستنكر مايعرض عليه من أشكالها وانتقالها، مادام صاحب الحكم حافظا لشأن الشريعة ذاهبا مذاهبها.#"

ومن ثم، يعتبر الأفغاني الحقيقة الدينية القائمة على الوحدة هي أساس الإصلاح والتثوير والتنوير، وتحقيق النهضة الإسلامية الحديثة، فقد كان الإصلاح عنده:" يعتمد على أساس ديني" ليس إلا#.

ومن جهة أخرى، يرى محمد عبده (1849-1905م) بأن انحطاط المسلمين بدأ مع العصر العباسي، وذلك حينما أبدل الخليفة المعتصم الجنود العرب بالجنود الأتراك، فانبثق عن ذلك الفساد السياسي، فالطغيان العسكري. وقد تأثر محمد عبده أيما تأثر بأستاذه جمال الدين الأفغاني ، وذلك حينما أرجع سبب تخلف المسلمين إلى ضياع الحقيقة الدينية الصافية، وابتعاد المسلمين عن الشريعة الإسلامية الحقيقية كما كان يطبقها السلف الصالح. لذلك، أدرج محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وشكيب أرسلان، وعبد الرحمن الكواكبي، ضمن رواد الحركة السلفية الحديثة. لأنه يعتبر الإسلام السبيل الوحيد لتحقيق النهضة المثلى، ولاسيما أن الإسلام هو دين العقل والعلم والإيمان والعمل. ومن ثم، فهو يهدف أولا وقبل كل شيء:" إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف ، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم، باعثا على البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل"#

بيد أن محمد عبده لايأخذ بالإصلاح الديني فقط، بل يركز على مجموعة من الإصلاحات الضرورية، كالإصلاح السياسي، والإصلاح اللغوي، والإصلاح التربوي، والإصلاح الاجتماعي. فعن الإصلاح اللغوي والأدبي، يقول محمد عبده :" أما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة، منشئا أو مترجما من لغات أخرى، أو في المراسلات بين الناس. وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين، كلاهما، يمجه الذوق ، وتنكره لغة العرب: الأول ماكان مستعملا في مصالح الحكومة وما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات رث خبيث غير مفهوم، ولايمكن رده إلى لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته، ولايزال شيء من بقاياه إلى اليوم عند بعض الكتاب من القبط ومن تعلم منهم، غير أنه والحمد لله قليل، والنوع الثاني ماكان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر، وهو ماكان يراعى فيه السجع وإن كان باردا، وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس ، وإن كان رديئا في الذوق، بعيدا عن الفهم، ثقيلا على السمع، غير مؤد للمعنى المقصود، ولامنطبق على آداب اللغة العربية، وهو وإن كان يمكن رده إلى أصول اللغة العربية في صورته، لكنه لايعد من أساليبها المرضية عند أهلها، ولايزال هذا النوع موجودا في عبارات المشايخ خاصة..."#.

ولقد اهتم أيضا بالإصلاح الاجتماعي من خلال دعوته إلى العدالة الاجتماعية القائمة على التكافل والجماعية، والوقوف أولا ضد الظلم الاقتصادي، وثانيا ضد التفاوت الطبقي الفاحش بين الفقراء والأغنياء، و ثالثا ضد تحكم رأس المال. ويقول عنه الدكتور محمد عمارة:" هذا الفكر الذي لا نقول عنه إنه كان فكرا اشتراكيا، وإنما نضعه في مكان بارز من الفكر"الإنساني" الطامح إلى لون من العدالة الاجتماعية يتناسب مع فهم الرجل لظروف عصره، والأحكام الكلية التي جاء بها الإسلام في هذا الميدان...فلم يكن الرجل محاميا عن الجماهير الكادحة في المجتمع، وإنما كان أقرب إلى تمثيل الطبقة الوسطى التي كانت تلعب دورا تقدميا وثوريا في عصره، ولكنه كان أيضا صاحب موقف " شمولي" في نظرته للمجتمع ، جعله يقف إلى جانب الفقراء أيضا...وهذه الملاحظة إنما تمثل بالنسبة للبحث قضية تتعلق بالمنهج الذي يجب أن نعالج به دراساتنا لفكر الأستاذ الإمام وأمثاله من أئمة المفكرين المسلمين."#

كما اهتم محمد عبده بالإصلاح السياسي، متأثرا في ذلك بأستاذه جمال الدين الأفغاني، حينما كان يصدران معا بباريس جريدة " العروة الوثقى" ذات الطابع الديني والسياسي. وفي هذا السياق، يقول محمد عبده:" وهناك أمر آخر كنت من دعاته، والناس جميعا في عمى عنه، وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بسبب خلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي، هذه الأمة، لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنا...دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته، هو من البشر الذين يخطئون، وتغلبهم شهواتهم ، وأنه لايرده عن خطئه ولايوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل...جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد..."#

بيد أن الإصلاح الذي كان يهتم به محمد عبده أيما اهتمام هو الإصلاح الديني والإصلاح اللغوي والتربوي:" نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع ولا الرئيس المطاع، غير أني كنت روح الدعوة، وهي لاتزال بي في كثير مما ذكرت قائمة، ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غرس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغرس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن والله المستعان."#

ولكن يبقى الإصلاح التربوي هو الأهم عند محمد عبده، إذ يرى أن السبب الحقيقي وراء تخلف المسلمين هو تردي الأنظمة التربوية والتعليمية في العالم الإسلامي؛ بسبب طغيان المناهج التقليدية العقيمة المبنية على التقليد، والانقياد، والاستسلام، والحفظ، والنظم، والجمود، والسطحية، والتخلف الفكري.أي: إن تخلف المسلمين راجع إلى اتباع أساليب تربوية عقيمة في الشكل والمحتوى؛ مما نتج عنه تخلف فكري كان سببا في انحطاط المسلمين وتقاعسهم. ويعني هذا أن الإمام محمد عبده يركز أساسا على الحقيقة التربوية – التعليمية تشخيصا واستشرافا:"أمر التربية هو قبل كل شيء...وعليه يبنى كل شيء..وأي إصلاح في الشرق والشرقيين لابد وأن يستند إلى الدين...والناس في التعليم طبقات ثلاث: العامة...
والساسة...والعلماء... ويجب تحديد مايلزم لكل واحدة من هذه الطبقات الثلاث من التعليم، كما ونوعا؟!"

ويضيف الإمام محمد عبده بأن إصلاح المجتمع المصري يكون بالعلم وإصلاح التربية:" نحن في بلاد رزقها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يسهلان على كل عائش فيها قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها وياللأسف منيت، مع ذلك، بأشد ضرور الفقر: فقر العقول والتربية"#. ومن هنا، يطالب محمد عبده الأغنياء والخواص ببناء المدارس لنشر التربية والتعليم، بغية تنوير المجتمع وتطويره، بدلا من الاتكال دائما على الحكومة لتقوم بهذا الدور. وهذه الفكرة وجيهة، وقد أخذت بها الدول الغربية المتقدمة ذات النظام الليبرالي، فالخواص من الأغنياء وغير الأغنياء هم الذين يقومون ببناء المدارس والمعاهد التعليمية سواء أكانت عامة أم خاصة:" على الأغنياء منا، الذين يخافون من تغلب الغير عليهم، وتطاول الأيدي الظالمة إليهم، أكثر من الفقراء، أن يتآلفوا ويتحدوا، ويبذلوا من أموالهم في سبيل افتتاح المدارس والمكاتب واتساع دوائر التعليم، حتى تعم التربية، وتثبت في البلاد جراثيم العقل والإدراك، وتنمو روح الحق والإصلاح، وتتهذب النفوس، ويشتد الإحساس بالمنافع والمضار، فيوجد من أبناء البلاد من يضارع بني غيرها من الأمم، فتكون عند ذلك معهم في رتبة المساواة، لهم ما لنا وعليهم ماعلينا...وعلى الحكومة في جميع ذلك أن تسن قوانين التعليم، وتلاحظ أحوال المعلمين والمتعلمين..."#

وتأسيسا على ماسبق، يصف الدكتور محمد عمارة تفكير الإمام محمد عبده في المجال التربوي بالمثالية والسذاجة ، مع انعدام الواقعية والشمولية في مقارباته وتصوراته :" من النظرة الشاملة إلى الفكر الذي قدمه الإمام في موضوع التربية والتعليم نجد أن الرجل كان صاحب نظرة مثالية، غير واقعية، إلى هذا الحقل من حقول الإصلاح...فهو عندما اعتقد أن التربية هي العصا السحرية التي تغير كل شيء، وتبدل كل سلبي فتجعله إيجابيا، وتعدل كل منقوص فتجعله كاملا، وتطلق كل مقيد فتجعله متحررا...إلخ...إلخ...عندما اعتقد ذلك قد أغفل الجوانب الأخرى في حياة المجتمع والمشاكل العديدة التي لابد من أن يسير المصلحون أو الثوار في حلها جنبا إلى جنب مع الإصلاح التربوي والنهضة بالتعليم.

فليست تكفي التربية لوجود حياة أسرية سعيدة ومستقرة، إذ لابد من حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية التي تطحن الأسرة،وتلقي في طريق سعادتها واستقرارها بالأشواك والعقبات.

وليست تكفي التربية للحاق بالأمم المتقدمة، إذ لابد لخلق المناخ الصالح للتربية من الدخول في معارك عديدة ضد مايعترض قيام هذا المناخ الصالح من عقبات ومعوقات...

كما لابد من تحديد أي أنواع التربية والتعليم هو الذي يمكننا من اللحاق بالأمم المتقدمة، وهو أمر يتوقف على تحديد ماهية التقدم، وارتباط معاييره بالعصر الذي نعيشه، والمهام التي على المجتمع أن ينجزها في هذه المرحلة المحددة من مراحل نموه وتطوره...إلخ...إلخ..."#

ولا أتفق مع توصيف الدكتور محمد عمارة، فنظرة محمد عبده كانت صائبة إلى حد كبير، فلايمكن للمجتمع أن يتغير سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ولغويا إلا بالإصلاح التربوي القائم على التعليم والتثقيف والتهذيب والتوعية العلمية. لذا، نجد بأن أول سورة من سور القرآن الكريم تنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم تحث على العلم. ومن ثم، يعتبره الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة. زد على ذلك، فقد أعطى الغربيون أهمية كبرى للعلم والتربية في بناء مجتمعاتهم المتقدمة، فقد قامت ثورتهم الإنسية إبان عصر النهضة على الاهتمام بالعلم، وتقديس العقل، ولم تقم نهضتهم العلمية على أساس الدين أو الاقتصاد أو السياسة؛ لأن أوروبا في تلك الفترة التي أعقبت العصور الوسطى مباشرة كانت تعيش في ظل أنظمة ملكية مطلقة، كما كنت تعيش في ظل الكنيسة التي كانت تقف في وجه العلم، وما حدث لجاليلي خير مثال على ذلك. وثمة دليل آخر على أن التربية هي أساس التقدم والازدهار والتنمية الحقيقية، فقد حقق اليابانيون تقدمهم العلمي والتقني منذ القرن التاسع عشر في عهد الإمبراطور موتسوهيتو، وذلك عن طريق التعليم والتربية والتثقيف، وتشجيع الصناعة، مع العلم أن اليابان لاتملك ثروات طبيعية، كتلك الثروات التي تملكها مصر أو بلدان العالم العربي، بل حتى نظامهم السياسي آنئذ كان نظاما إمبراطوريا فرديا وراثيا، وليس نظاما ديمقراطيا كما في دول أوروبا الغربية. وعليه، فالتربية هي أس التقدم والتفوق العلمي والتقني والثقافي، ومرتكز المدنية والحضارة والعمران البشري.

هذا، وقد اهتم الكاتب السوري عبد الرحمن الكواكبي (1869-1946م) كثيرا بالواقع السياسي العربي والإسلامي على حد سواء، فارتأى أن سبب التخلف والانحطاط ، كما في كتابه :" أم القرى" ، يعزو إلى سوء فهم الدين، وانتشار عقيدة الجبر، وفلسفة الاتكالية، والتعصب للمذاهب، والتدليس على الدين، وانعدام الحرية، واستبداد الأمراء، وفقد قوة الرأي العام، وانتشار الجهل، وفساد التعليم، ومعاداة العلوم الحية، و فقدان الرابطة الدينية، وعدم إشراك أهل الحل والعقد، والميل إلى التقليد الأعمى، وغلق باب الاجتهاد، وانتشار الاستبداد، وطغيان الحكم الفردي المطلق، وانعدام الشورى والعدالة السياسية الحقيقية....#

هذا، وقد فصل الكواكبي هذه الآراء السياسية بشكل دقيق في كتابه الثاني:" طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد#". بيد أن الكاتب قد ركز كثيرا على الحقيقة السياسية ، باعتبار أن الاستبداد مسلك للتخلف والانحطاط ، مادام ذلك الاستبداد يقوم على التجهيل، والتجويع، والاستغلال، وتضييع الدين...لذا، فالحل الحقيقي لتحقيق النهضة والتنوير يتمثل في تطبيق الشورى ، وذلك مصداقا لقوله تعالى:" وشاورهم في الأمر" #، ويقول جل شأنه في آية أخرى:" وأمرهم شورى بينهم"#. وفي هذا الصدد، يقول الكواكبي:" من الحكم البالغة للمتأخرين قولهم: "الاستبداد أصل لكل فساد"؛ ومبنى ذلك أن المبحث المدقق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أن للاستبداد أثرا سيئا في كل واد.

وقد سبق أن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، وإني الآن أبحث في أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده، ويقيم مقامه التمجد...والحاصل أن المجد هو محبب للنفوس، لاتفتأ تسعى وراءه، وترقى مراقيه، وهو ميسر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته، وينحصر في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الإمكان...

ويقابل المجد، من حيث مبناه التمجد. وماهو التمجد؟ وماذا يكون التمجد؟... التمجد خاص بالإدارت المستبدة، وهو القربى من المستبد بالفعل، كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالملقبين بنحو دوق وبارون، والمخاطبين بنحو رب العزة ورب الصولة، أو الموسومين بالنياشين، أو المطوقين بالحمائل، وبتعريف آخر: التمجد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف الإنسانية.

وبتوصيف أجلى: هو أن يتقلد الرجل سيفا من قبل الجبار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتحلى بسيور مزركشة تنبىء بأنه صار أقرب إلى النساء منه إلى الرجال. وبعبارة أوضح وأخصر: هو أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم.

قلت: إن التمجيد خاص بالإدارات المستبدة، وذلك لأن الحكومة الحرة، التي تمثل عواطف الأمة، تأبى، كل الإباء، إخلال التساوي بين الأفراد إلا لموجب حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية، كما أنها لا تميزه بوسام أو تشرفه بلقب إلا إعلانا لخدمة مهمة وفقه الله إليها، وبمثل هذا يرفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات."#

وهكذا، فقد حاول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه:" طبائع الاستبداد" أن يعرف الاستبداد، و يبين مفهومه، ويستجلي كل مرادفات الاستبداد من استعباد، واعتساف، وتسلط، وتحكم...كما استعرض أنواعا من الحكومات المستبدة. وبعد ذلك، يبرز ما للاستبداد من آثار سلبية على مجموعة من القيم الفكرية والاجتماعية، كالدين، والعلم، والمجد، والمال، والأخلاق، والتربية، والترقي. ويخصص الفصل الأخير بمبحث يتعلق بطرق التخلص من الاستبداد، عبر التركيز على ثلاث حقائق جوهرية لمحاربة الاستبداد:

1- الأمة التي لايشعر كلها، أوأكثرها، بآلام الاستبداد لاتستحق الحرية.

2- الاستبداد لايقاوم بالشدة، إنما يقاوم باللين والتدريج.

3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.#

والسبب في تركيز الكواكبي على الحقيقة السياسية ، وذلك باعتبارها الحقيقة الجوهرية التي يجب الاهتمام بها أولا وقبل كل شيء، هو وجود معظم العالم العربي في ظل الحكومة العثمانية المستبدة، ولاسيما حكومة عبد الحميد الثاني المطلقة، التي عملت على تتريك المجتمع العربي، وتجهيله، وتجويعه، وتفقيره، والتنكيل به بطشا وعسفا وقهرا.

ومن هنا، يتبين لنا بأن عبد الرحمن الكواكبي كان مفكرا سياسيا ثوريا، ومفكرا إصلاحيا تنويريا، يستند في أفكاره الجريئة إلى أن الحقيقة السياسية هي الأساس في كل إصلاح مجتمعي لتحقيق النهضة والتقدم والازدهار، ولكن لن يتحقق هذا التقدم إلا بالتحرر من الاستبداد، والتخلص من الحكم الفردي المطلق، وذلك عبر إرساء مؤسسات الشورى والحرية والديمقراطية الحقيقية. ولن يتم القضاء كذلك على الاستبداد إلا بالعلم والتربية والتعليم، وتهذيب الناشئة، وتنوير المجتمع علميا وسياسيا وثقافيا. ويقول الدكتور محمد عمارة في حق الكواكبي:" كان الكواكبي حقا داعية ثورية مدروسة، وتغيير جذري للمجتمع، لأن ذلك هو الطريق الوحيد المناسب لعظم أهدافه، وخطر القضايا التي كشف عنها فيما كتب من صفحات.

وأدركنا كذلك أن الثورة بالنسبة للكواكبي لايمكن إلا أن تكون النتيجة الطبيعية للمقدمات التي صاغها في شكل بحوث ومشاكل وقضايا واجهها واكتشفها في واقع المجتمع العربي في ذلك الحين، وحلول عملية وتغييرات جذرية قدمها لأمته كي تبعث ثانية، وتجدد عصبتها، وتلحق بالركب الإنساني المتطور، وتسهم في البناء الحضاري الإنساني بالقسط الذي يتلاءم مع ما لها من عراقة وأمجاد وتراث وتقاليد.

ذلك هو عبد الرحمن الكواكبي، في حياته ونضاله...ونظرياته وأفكاره...وسلوكه العملي الثوري، نقدمه، بناء إنسانيا وفكريا متكاملا، ليكون منارة في ضمير حاضرنا ومستقبلنا، كما كان منارة في ضمير امتنان أضاءت ولا تزال تضيء منذ نحو قرن من الزمان."#

وعليه، فعبد الرحمن الكواكبي من أهم دعائم التفكير الإسلامي الحديث، ويعد كذلك من أهم زعماء الإصلاح الحديث# ، وقد تأثر بشكل من الأشكال بمحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وابن خلدون، وجون لوك، وتوماس هوبز، وجان جاك روسو، ومونتيسكيو، ومكيافيلي...وما يهمنا في كتاباته أنه يعتبر الحقيقة السياسية هي أس الإصلاح، ولكن من خلال القضاء على الاستبداد السياسي المشين،واستبداله بنظام الحرية والشورى والأغلبية الديمقراطية.
أما المفكر والأديب السوري شكيب أرسلان (1869-1946م) ، فيرى بأن الحقيقة الدينية المبنية على أساس التضحية والجهاد هي الحقيقة المثلى للخروج من الانحطاط والتخلف. فقد عمد في كتابه:" لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟"# إلى تحديد أسباب ارتقاء المسلمين في الأمس، وسبب تقاعسهم في الحاضر، وذلك بالمقارنة مع الغربيين في ماضيهم وحاضرهم. ويعني هذا أن شكيب أرسلان يناقش قضية التقدم والتخلف في ضوء منهج المقارنة بين الشعوب. وقد استهل شكيب أرسلان كتابه بتبيان أسباب ارتقاء الأمة الإسلامية في الماضي، وقد عزا ذلك إلى التشبث بالديانة الإسلامية قولا وفعلا ومنهجا:"إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية، التي كانت قد ظهرت جديدا في الجزيرة العربية، فدان بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحا جديدة، صيرتهم إلى ماصاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة عثمان، وفي خلافة علي رضي الله عنهما، لكانوا أكملوا فتح العالم، ولم يقف في وجههم واقف..

والحقيقة أنهم لم يستقلوا استقلالا حقيقيا واسعا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم البعيدة، وتخضع لهم الممالك العظام، والقياصرة والأكاسرة، ويتحدث بصولتهم الناس، ولم يقعدوا من التاريخ المقعد الذي أحلهم في الصف الأول من الأمم الفاتحة إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم."#

وبعد ذلك، يحدد شكيب أرسلان أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم، فيحصرها في فقد المسلمين السبب الذي ساد به سلفهم، وخيانة بعض المسلمين لدينهم ووطنهم بخدمة الأجانب، واعتذارهم بالباطل، وتخاذل المسلمين وتعاديهم، وتقاعس المسلمين عن البذل لنشر الدين. ومن أهم الأسباب الأخرى وراء تأخر المسلمين، نذكر: الجهل والعلم الناقص، وفساد الأخلاق، ولاسيما فساد الأمراء والعلماء، والجبن والهلع، واليأس والقنوط، ونسيان المسلمين لماضيهم المجيد، وضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين.وهكذا،" فتأخر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة؛بل من الجهل بالشريعة، أو كان من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي."#

وانتقل شكيب أرسلان إلى رصد ماضي الغربيين وحاضرهم، فقد بين بأن أوروبا كنت تعيش إبان العصر الوسيط في الظلمات. في حين، كان المسلمون قد توسعوا في العالم لتحقيق مدنية الإسلام:" تنصرت الأمم الأوروبية في القرن الثالث، والرابع، والخامس، والسادس من ميلاد المسيح، وبقيت أمم في شرقي أوروبة إلى القرن العاشر حتى تنصرت، ولم تنهض أوروبة نهضتها الحالية التي مكنتها تدريجا من هذه السيادة العظمى بقوة العلم والفن إلا من نحو أربعمائة سنة. أي: من بعد أن دانت بالإنجيل بألف سنة، ومنها بعد أن دانت به بسبعمائة سنة، ومنها بثمانمائة سنة...إلخ

وهذه هي القرون المسماة في التاريخ بالقرون الوسطى، ولا نقول: إن الأوروبيين كانوا في هذه القرون بأجمعهم هائمين في ظلمات بعضها فوق بعض، بل نقول: إن العرب كانوا أعلى كعبا منهم بكثير في المدنية بإقرار مؤرخيهم."#

أما سبب تقدم الأوروبيين في حاضرهم، فيعود ذلك إلى أخذهم بالعلم والفكرة والإرادة والعزيمة والصناعة، والدفاع عن هويتهم القومية.

وخلاصة القول: إن شكيب أرسلان يتفق مع جمال الدين الأفغاني في أن الحقيقة الدينية هي الأساس لكل تنمية فكرية وعلمية ومدنية في العالم الإسلامي، وهي كذلك القاعدة الكبرى لكل تنوير نهضوي إسلامي، وذلك بفهم الحقيقة الشرعية فهما حقيقيا قائما على العقل والعلم والإيمان والعمل. وفي هذا النطاق، يقول شكيب أرسلان:"أما الإسلام فلاجدال في كونه هو سبب نهضة العرب وفتوحاتهم المدهشة، مما أجمع على الاعتراف به المؤرخون شرقا وغربا، ولكنه لم يكن سبب انحطاطهم فيما بعد، كما يزعم المفترون، الذين لاغرض لهم سوى نشر الثقافة الأوروبية بين المسلمين دون ثقافة الإسلام، وبسط سيادة أوروبة على بلدانهم، بل كان السبب في تردي المسلمين هو أنهم اكتفوا في آخر الأمر من الإسلام بمجرد الاسم، والحال أن الإسلام اسم وفعل."#

بيد أن هذه الحقيقة الدينية لايمكن أن تتحقق في الواقع العملي ، وتعطي ثمارها المرجوة ، إلا بالتضحية والأخذ بالجهاد في سبيل الله لنصرة الدين والمسلمين والأوطان:" إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا، ويعرجوا في مصاعد المجد، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم، هو الجهاد بالمال والنفس، الذي أمر به الله في قرآنه مرارا عديدة، وهو مايسمونه اليوم (التضحية)."#

ومن ثم، فالتضحية أو الجهاد بالمال والنفس:" هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به، دانت لها سائر العلوم والمعارف، ودنت منها جميع القطوف والمجاني."#

وعلى العموم، فالحقيقة عند شكيب أرسلان هي الحقيقة الدينية المبنية على تمثل روح الإسلام قولا وعملا وسلوكا، والأخذ بفكرة التضحية والجهاد في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين على حد سواء:" المسلمون يمكنهم إذا أرادوا بعث العزائم، وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم أن يبلغوا مبالغ الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء، وأن يبقوا على الإسلام، كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى، فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي يعوزنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال، فلننفض غبار اليأس، ولنتقدم إلى الأمام، ولنعلم أننا بالغون كل أمنية بالعمل والدأب والإقدام وتحقيق شروط الإيمان في القرآن."#

وعليه، يتفق شكيب أرسلان وجمال الدين الأفغاني معا في أن الحقيقة الدينية هي أساس تحقيق النهضة الإسلامية، إلا أن جمال الدين الأفغاني يركز كثيرا على الوحدة السياسية والدينية؛ بسبب انقسام المسلمين إلى ممالك ودويلات سياسية، وتشتتهم إلى طوائف ومذاهب دينية. في حين، يشدد شكيب أرسلان على التضحية والجهاد في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين؛ وذلك بسبب تنامي ظاهرة الاستعمار في العالم الإسلامي شرقا وغربا.
أما إذا انتقلنا إلى المفكر المصري قاسم أمين (1865-1908م) ، فقد اهتم كثيرا بالحقيقة الاجتماعية، وذلك في كتابيه:" تحرير المرأة" و" المرأة الجديدة"، معتبرا أن سبب تخلف المسلمين وانحطاطهم يعود إلى تجهيل المرأة الشرقية، والإساءة إليها، ومعاملتها معاملة دونية ؛ مما ترتب عن ذلك وجود تربية عائلية أو أسرية فاسدة كان لها آثار سلبية على المجتمع العربي؛ لأن المرأة نصف المجتمع أو هي أم المجتمع، فإذا صلحت المرأة صلح المجتمع، وإذا فسدت المرأة فسد المجتمع. ومن ثم، فهو يدعو إلى إصلاحها، وتربيتها، وتعليمها ، ومعاملتها معاملة حسنة. لذا، فهو يثور على الفهم السيء للدين، كما يثور على العادات والتقاليد البالية التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية قاصرة.

هذا، وقد استعمل قاسم أمين منهجا توفيقيا في تعامله مع قضية المرأة، فقد تسلح بآراء العلم الحديث. وفي الوقت نفسه، تسلح بالنص الديني والشرع الرباني لمناقشة الكثير من القضايا الحساسة والشائكة كالحجاب والسفور ، حيث يدعو قاسم أمين إلى تخفيف حجاب المرأة على أساس التربية والتعليم. وفي هذا الصدد، يقول قاسم أمين:" والذي يجب علينا هو معالجة المضار التي يظن أنها تنشأ عن تخفيف الحجاب، ولاتوجد طريقة أنجع في ذلك العلاج إلا التربية التي تكون هي الحجاب المنيع والحصن الحصين بين المرأة وبين كل فساد يتوهم في أية درجة وصلت إليها من الحرية والإطلاق.

سيقول معترض: إن التربية والتعليم يصلحان أخلاق المرأة، وأما الإطلاق فربما زاد من فسادها ، فنجيب أن الإطلاق الذي نطالب به هو محدود يحظر الخلوة مع أجنبي.وفي هذا من الخطر ما يكفي لاتقاء المفاسد التي لاتتولد إلا من خلوة، أما الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارا أبدا متى كان مصحوبا بتربية صحيحة ؛ لأن التربية الصحيحة تكون أفرادا أقوياء بأنفسهم، يعتمدون على أنفسهم، ويسيرون بأنفسهم.فمن كملت تربيته، استقل بنفسه ، واستغنى عن غيره، ومن نقصت تربيته، احتاج إلى الغير في كل أموره، فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال، يرفع الأنفس من الدنايا، ويبعد عنها الخسائس .لذلك، يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من تربية النساء."#

هذا، وقد استلهم قاسم أمين هذا المنهج التوفيقي الذي يزاوج بين العقل والنص من أستاذه محمد عبده ، وقد طبقه بشكل واضح في كتابه:" تحرير المرأة".أما في كتابه :" المرأة الجديدة"، فقد تخلى قاسم أمين عن هذا المنهج، واستعمل منهج علم الاجتماع، متأثرا في ذلك بأفكار سبنسر(Spenser)، وداروين، وأفكار الفلسفة الوضعية، مقارنا بين المرأة في الغرب والمرأة في الشرق، فالأولى قد حصلت على كامل حقوقها وحرياتها الطبيعية والمكتسبة، والثانية مازالت تعيش في رق وذل وجهل وظلم واستعباد. وفي هذا النطاق، يقول قاسم أمين:" المرأة الجديدة هي ثمرة من ثمرات التمدن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب على أثر الاكتشافات العلمية التي خلصت العقل الإنساني من سلطة الأوهام والظنون والخرافات، وسلمته قيادة نفسه، ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها...ذلك حيث أخذ العلم يبحث في كل شيء، وينتقد كل رأي، ولا يسلم إلا إذا قام الدليل على مافيه من المنفعة العامة، وانتهى به السعي إلى نسخ معظم ماكان الرجال يرونه من مزاياهم التي يفضلون بها النساء،ولايسمحون لهن بأن يساوينهم في كل شيء...
والمطلع على الشريعة الإسلامية يعلم أن تحرير المرأة هو من أنفس الأصول التي يحق لها أن تفتخر به على سواها، لأنها منحت المرأة من اثني عشر قرنا مضت الحقوق التي لم تنلها المرأة الغربية إلا في هذا القرن.

فإذا كانت شريعتنا قررت للمرأة كفاءة ذاتية في تدبير ثروتها، والتصرف فيها، وحثت على تعليمها وتهذيبها، ولم تحجر عليها الاحتراف بأي صنعة، والاشتغال بأي عمل ، وبالغت في المساواة بينها وبين الرجل إلى حد أن أباحت لها أن تتولى وظيفة الإفتاء والقضاء. أي : وظيفة الحكم بين الناس بالعدل، وقد ولى عمر رضي الله عنه على أسواق المدينة نساء، مع وجود الرجال من الصحابة وغيرهم، مع أن القوانين الفرنساوية لم تمنح النساء حق الاحتراف بصنعة المحاماة إلا في العام الماضي.

إذا كانت شريعتنا تحامي عن المرأة إلى هذا الحد، وتمنحها هذه الدرجة من الحرية، فهل يجدر بنا في هذا العصر أن نغفل عن مقاصد شرعنا، ونهمل الوسائل التي تؤهل المرأة إلى استعمال هذه الحقوق، ونضيع وقتنا في مناقشات نظرية لاتنتج إلا تعويقنا عن التقدم في طريق إصلاح أحوالنا!...لا أظن أن ذلك سيليق بنا، وأرجو أن كثيرا من القراء يرون مثل رأينا."#
وهكذا، يقوم تصور قاسم أمين على النزعة التوفيقية بين النص والعقل، والشرع والعلم، والتركيز على التربية والمعرفة في تنوير العقل العربي، وتطوير المجتمع على جميع المستويات والأصعدة، والاستعانة بالتحليل الاجتماعي في تناول قضية المرأة، والتشديد على مبدإ الحرية، ونبذ التقاليد الموروثة.

إذاً، ثمة مجموعة من الحقائق التي دعا إليها الفكر الإسلامي الحديث، وهي لا تخرج عن الحقيقة الدينية، والحقيقة السياسية، والحقيقة التربوية، والحقيقة الاجتماعية. ولكن ثمة حقيقة أخرى كانت لها أهمية كبرى ، وكانت السبب الرئيس في تقدم الغرب ماديا ومعنويا من جهة، وتخلف المسلمين على جميع المستويات والأصعدة من جهة أخرى. وهذه الحقيقة بطبيعة الحال هي الحقيقة الاقتصادية المرتبطة بالحقيقة التقنية، فقد ذهب الكثير من المفكرين سواء أكانوا مسلمين أم غربيين، ولاسيما المفكرين الماركسيين منهم، إلى أن سيطرة الأوربيين على التجارة العالمية غيرت موازين القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية بين الشرق والغرب، وخاصة بعد انطلاق الاكتشافات الجغرافية من منطقة إيبيريا نحو الهند وأمريكا، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عبر المحيط الأطلسي، أثر كل هذا تأثيرا سلبيا على تجارة المسلمين في البحر الأبيض المتوسط، فساهم في تخلفهم فكريا، وتقاعسهم اجتماعيا، وانحطاطهم سياسيا،وضعفهم اقتصاديا. وفي هذا الصدد، يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي:"ففي العالم المسيحي الغربي، ابتكرت الشعوب الساكنة على الأطلسي- في القرن الخامس عشر- طرازا جديدا من السفن العابرة للمحيطات يتكون من ثلاث صواري وموثق حبال مربع للأشرعة يحتوي على رشاش، وتألف موثق الحبال في بداية الأمر من شراع مثلث الشكل، ثم اشتمل فيما بعد على أشرعة السفينة من مقدمها حتى مؤخرها، ويكفي هذا الاختراع السفينة من البقاء في عرض البحر شهورا بدون انقطاع، دون أن تضطر إلى أن ترسو على ميناء. وباستخدام هذا الطراز من السفن، استطاع الملاحون البرتغاليون- بفضل تجاربهم في الملاحة في أعالي البحار- كشف جزر ماديرا حوالي1420م، وجزائر الازور 1432م، ثم نجحوا في تطويق الجبهة البحرية العربية على الأطلس بدورانهم عام1445م حول الرأس الأخضر، وبلوغهم خط الاستواء 1471م إلى كاليكوت على الساحل الغربي للهند، وسيطرتهم عام1511م على بوغاز ملقا، واندفاعهم في عرض المحيط الهادي ليرفعوا علمهم في كالتون عام1516م، وعلى شاطىء اليابان من 1542-1543م.

وهكذا، في لحمة البصر، خطف البرتغاليون من أيدي العرب السيادة على المحيط الهندي، بينما كان الرواد البرتغاليون المتجهون شرقا يحدقون بحركة- خاطفة من التوسع للغرب- بالعالم العربي الإسلامي من الجنوب، وكان ملاحو الأنهار من القوازق يتجهون شرقا ، ويوسعون حدود العالم الروسي بنفس السرعة والاكتساح ، وذلك بإحداقهم بالعالم الإسلامي من الشمال. وهكذا، في غضون فترة تقل عن القرن، لم يقتصر الأمر على الإحداق بالعالم الإسلامي- الذي كان شركة بين المجتمعين العربي والإيراني- ولكن أمكن تطويقه تماما. ففي أواخر القرنين السادس عشر وأوائل السابع عشر، وضع الطوق حول رقبة الفريسة."#

ومن هنا، نفهم بأن العوامل الدينية والسياسية والاجتماعية والتربوية هي عوامل لايمكن الاستهانة بها بأي حال من الأحوال، وقد تكون وراء انحطاط المسلمين وتخلفهم، ولكن لايمكن التركيز على عامل واحد دون استحضار العوامل الأخرى. بمعنى أن جميع العوامل بما فيها العوامل الاقتصادية والتقنية قد ساهمت في تخلف المسلمين بشكل من الأشكال. والآتي، أن الدور الاقتصادي أوالعلمي أوالتقني قد يكون من الأسباب غير المباشرة التي أقضت مضجع المسلمين، فجعلت الغربيين متقدمين في جميع النواحي المدنية والسياسية والعسكرية، وهذا ما سهل الأمر لهم لغزو العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، والاستيلاء على أراضيه ضمن ما يسمى بظاهرة الاستعمار الحديث.

وتأسيسا على ماسبق، يتبين لنا بأن ثمة عدة حقائق مرتبطة بإشكالية التخلف والتقدم في إطار حلقة الفكر الإسلامي الحديث، فجمال الدين الأفغاني وشكيب أرسلان يهتمان معا بالحقيقة الدينية ، بينما يعنى محمد عبده بالحقيقة التعليمية- التربوية. في حين، يهتم عبد الرحمن الكواكبي بالحقيقة السياسية، ويركز قاسم أمين كثيرا على الحقيقة الاجتماعية.
ومبنى ذلك كله أن جمال الدين الأفغاني يدعو إلى إصلاح المجتمع الإسلامي إصلاحا دينيا ذا بعد سياسي، بمعنى أن يتم ذلك من خلال تأسيس جامعة إسلامية موحدة لمنع تفكك الرقعة الإسلامية إلى مجموعة من الممالك والدويلات والإمارات نزولا عند رغبات المستعمر الغربي، مع العمل الجاد لدرء الفرقة الدينية بسبب تعدد الطوائف والمذاهب. أما تلميذه محمد عبده ، فقد اشتغل بمجالات إصلاحية متعددة، كالإصلاح الديني، والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح اللغوي والأدبي، والإصلاح السياسي، والإصلاح التربوي التعليمي، لكن يبقى الإصلاح التربوي أساس كل الإصلاحات الأخرى. بينما، يذهب شكيب أرسلان إلى أن الإصلاح الديني هو الأهم، ولكن لن يتم هذا الإصلاح في ظروف الاستعمار الحديث إلا بالتضحية الشاملة ، والجهاد المادي والنفسي والمعنوي.

وإذاكان قاسم أمين قد ركز على الإصلاح الاجتماعي من خلال دعوته إلى تحرير المرأة الشرقية، وتربيتها، وتهذيبها، وتمدينها، وتعليمها، فإن عبد الرحمن الكواكبي قد ركز على الإصلاح السياسي، وذلك بمحاربة الاستبداد والحكم المطلق، ولاسيما الحكم العثماني المستبد ، وذلك عن طريق إرساء نظام الحرية ، وتمثل الشورى ، وتطبيق الديمقراطية الحقيقية.

خلاصات واستنتاج:

ونستنتج ، بناء على ما سبق ذكره، أن الحقيقة هي الثابت واليقين والصادق والواقعي، كما أنها مطابقة الفكر لذاته أو للواقع أو لهما معا، أو قد تكون الحقيقة هي مطابقة الواقع للنص، وقد تنعدم الحقيقة فتصبح اختلافا وتفككا وعدما ولامطابقة .

هذا، وقد ارتأينا أن الحقيقة طوال مسيرة الفكر الإسلامي كانت متنوعة من حيث المناهج والطرائق وسبل المعرفة، وذلك على الرغم من وجود حقيقة جوهرية واحدة ألا وهي: الحقيقة الربانية. ومن بين هذه السبل، نذكر: المنهج البياني عند الفقهاء وعلماء الكلام واللغة والأدب، والمنهج البرهاني عند الفلاسفة، والمنهج العرفاني عند المتصوفة.

وبناء على ماسبق، فإن الحقيقة ليست حقيقة واحدة، بل حقيقتان، حقيقة سامية، وهي الأصل، وتتمثل في الحقيقة الميتافيزيقية الربانية التي يتم إدراكها عن طريق النص والعقل والقلب على حد سواء، وحقيقة دنيوية فرعية توفيقية عملية فزيائية، تستلزم العقل والتجربة معا. بيد أن الحقائق المتفرعة عن الحقيقة الفيزيائية ليست يقينية مطلقة، بل هي حقائق نسبية واحتمالية، تتغير مع تغير العلم، وتطور التكنولوجيا.

بيد أن الحقيقة في الفكر الإسلامي الحديث قد ارتبطت بسؤال التقدم والنهضة، فمن ثم قدم رواد الإصلاح الحديث مجموعة من الحقائق للخروج من شرنقة التخلف ودائرة الانحطاط والإحباط، فهناك من ركز على الحقيقة الدينية القائمة على التمسك بالوحدة كما عند جمال الدين الأفغاني، وهناك من دافع عن الحقيقة الدينية المبنية على الجهاد كما لدى شكيب أرسلان، وهناك من اختار الحقيقة السياسية كما هو حال الكواكبي، وهناك من اختار الحقيقة التربوية – التعليمية كما هو شأن محمد عبده، وهناك من اختار الحقيقة الاجتماعية، مثل: قاسم أمين.

1- المصادر والمراجع العربية:

1- ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر، بيروت، لبنان، غير مؤرخة.

2- ابن رشد: تهافت التهافت، ضبط وتقديم وتعليق: الدكتور محمد العريبي، دار الفكر اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1993م.

3- ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق: دكتور محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة 1999م.

4- ابن رشد: فصل المقال، دار المعارف، القاهرة، مصر، طبعة 1972م.

أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ، الجزء الثالث، ترجمة: فؤاد شبل، نشر جامعة الدول العربية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى .

5- ابن سينا: الإشارات والتنبيهات (مع شرح نصير الدين الطوسي)، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، مصر، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، سنة 1968م.

6- ابن منظور: لسان العرب، الجزء الثالث، دار صبح بيروت، لبنان، وأديسوفت، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م.

7- أبو الحسن الجرجاني: التعريفات، الدار التونسية للنشر، تونس، طبعة 1971م.

8- أبو نصر السراج الطوسي: اللمع، تحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد القادر، مطبعة المثنى ببغداد ودار الكتب الحديثة بالقاهرة، 1960م.

9- د.أحمد أمين: ظهر الإسلام، المجلدالثاني(3-4)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة سنة 1969م.

10- د.أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

11- أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة: حنا خباز، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون توثيق للطبعة وبدون تحديد لتاريخها.

12- أفلاطون: الجمهورية، ترجمة: فؤاد زكريا، دار الكتاب العربي، مصر، طبعة 1968م.

13- باسكال: خواطر، تقديم: مارسيل غرسان، النادي الفرنسي للكتاب، طبعة 1963م.

14- جمال الدين الأفغاني: (الوحدة والسيادة)، جريدة العروة الوثقى، باريس، 14 غشت1884م.

15- جمال الدين الأفغاني: (عصبية الجنس وعصبية الدين)، جريدة العروة الوثقى، باريس، 24 غشت1884م.

16- جمال الدين الأفغاني: (أمة واحدة)، جريدة العروة الوثقى، باريس، 28 غشت1884م.

17- ديكارت: مبادئ الفلسفة، ترجمة: عثمان أمين، مكتبة النهضة المصرية، طبعة 1960م.

18- شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟، دار القلم بدمشق، والدار الشامية ببيروت، الطبعة الثانية 2009م.

19- د.عبد المنعم الحفني: الموسوعة الفلسفية، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، الطبعة الأولى سنة 1992م.

20- د.عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1986م.

21- د. عابد الجابري: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة، 1986م.

22- عبد الرحمن الكواكبي: الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق: د: محمد عمارة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية سنة1975م.
23- عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، بيروتن لبنان، الطبعة الثانية، ص:1986م.

24- الغزالي: إحياء علوم الدين، الجزء الثالث، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، بدون تاريخ للطبعة.

25- الغزالي: المنقذ من الضلال، دار الأندلس، بيروت، لبنان.

26- الغزالي: تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دينا، دار المعارف، القاهرة، مصر، طبعة 1964م.

27- الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة 1970م.

28- الفارابي: فصول منتزعة، تحقيق فوزي متري نجار، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة 1971م.

29- د.فاروق أبو زيد: أزمة الفكر القومي في الصحافة المصرية، دار الفكر والفن، القاهرة، مصر، طبعة 1976م.

30- د.فوزي حجامد الهيتي: إشكالية الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي (ابن رشد نموذجا)، مركز دراسات فلسفة الدين، دار الهادي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 2005م.

31- قاسم أمين: الأعمال الكاملة، إعداد الدكتور محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1989م.

32- محمد بديع الكسم: البرهان في الفلسفة، ترجمة جورج صدقني، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، دمشق، طبعة 1991م.

33- د. محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، دار النهضة العربية، بيروتن لبنان، طبعة 1976م،

34- د.محمد عمارة: الأعمال الكاملة للأفغاني، دار الكتاب العربي، القاهرة، مصر، طبعة 1968م.

35- محمد عبده: الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده،دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1972م.

36- د.محمد عمارة: الإمام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1988م.

37- د.محمد عمارة: عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1988م.

38- د.محمد الكتاني: الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث، الجزء الأول، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1982م.

39- محمد المصطفى عزام: المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل، مطبعة نداكوم للصحافة والطباعة، الطبعة الأولى،2000م.

40- مارتن هيدجر: في ماهية الحقيقة، ضمن: كتابات أساسية، الجزء الثاني، ترجمة: إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، عدد:505، طبعة 2003م.

41- د.يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية،مطابع الدجوي، القاهرة، مصر، الطبعة السادسة، 1976م.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى