الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم بسام الهلسة

البؤساء..

أن يكتبوا لأنفسهم روايتهم!

أكتبُ عن البؤساء. بؤساء عصرنا الذين يفيض العالم بهم حَدَّ النسيان والموت على قارعته بلامبالاة. في القرن التاسع عشر - قرن العقل والعلم والثورات الديمقراطية والصناعية كما يقال- كتب عنهم فكتور هوجو (أحد السادة الكبار في تاريخ الأدب الفرنسي)، رواية بهذا الاسم (البؤساء). ووجدت المدينة البلجيكية «واترلو» نفسها مدعوة للإحتفال بمناسبة مرور مئة وخمسين عاماً على إتمام هوجو لروايته في العام 1861عندما كان مقيماً فيها، فارَّاً من نظام الإمبراطور « لويس بونابرت» الذي استولى على ثورة شعب فرنسا في العام 1848 وجمهوريتها الثانية، مثلما استولى عمُّه «نابوليون بونابرت» على ثورتها وجمهوريتها الأولى في نهاية القرن الثامن عشر!

لا مكان للبؤساء، حتى عندما يقررون تغيير عالمهم ويثورون على مستعبديهم وناهبيهم. سرق البرجوازيون الفرنسيون ثورة العامة الجائعة المقهورة في العام 1789 واختصروها في مطلب وحيد: الحرية. أي حريتهم في التصرف بالسلطة والثروة المكتسبة. امَّا نداءا «المساواة» و«الإخاء» فقد تم صرفهما وايداعهما في الكتب والأناشيد، كما صُرفت العامة بُعيدَ النصر لتخلو الساحة للسادة الجدد بقيادة المغامر الصاعد الضابط «نابوليون»، الذي وجد حلاً ناجعاً للبؤس، فأنهى الجمهورية وأعلن نفسه امبراطوراً وشرع في توزيع البؤس على شعوب العالم الذي غزاه!

خصَّص "ماركس" كتاباً يحلل فيه الانقلاب على ثورة 1848 وجمهوريتها، بإسم (الثامن عشر من برومير "لويس بونابرت"). قال فيه انها لم تكن ثورة، بل مجرد هزة على السطح.. فما من شيء تغيَّر سوى الحكام. وحينما أراد البؤساء القيام بتغيير حقيقي جذري للنظام، يصب في مصلحتهم فعلاً، في ثورة العامَّة (كومونة باريس-1871) كان جزاؤهم الذبح على أيدي دعاة "الحرية" و"المساواة" و"الإخاء"!

فإذا كان من حق العامة "البؤساء" – بل من واجبهم- أن يقدموا الضحايا وأن يكونوا وقوداً للثورات، فليس من حقهم أن يفكروا بثمارها ونتائجها! فهذا لا يجوز في عرف "النخبة" و"الأذكياء" أبناء وبنات الفئات الوسطى "المثقفة"، التي لا تعاني مثلهم من الجوع وانعدام فرص العمل والحرمان الاقتصادي والثقافي، فتفصِّلُ النضال على مقاس وضعها الطبقي، وتحصره في حدود التخلص من "المستبد القائم" الذي يحول دون مشاركتها في منافع وحصص النظام!

ربما يدعونا هذا إلى معاينة وفحص "الثورات العربية" التي أزاحت الرؤوس الحاكمة وأبقت على النظام رغماً عن الشعار الذي نادى به الشعب: "الشعب يريد اسقاط النظام"!

وهذه نتيجة متوقعة عندما يسلم الشعب مصيره بطيبة خاطر لمن نصبوا أنفسهم ناطقين باسمه وقادة له دون أن يحدد ماهية النظام الذي يريد اسقاطه، وما النظام الجديد الذي يريد بناءه.

 ما الذي نراه؟

نرى بوضوح أن الإرادة – إرادة الشعوب والأمم والطبقات- لا تكفي وحدها لإنجاز التغيير المنشود من قبل البؤساء. فبدون الوعي بذاتهم (من هم؟ وما الواقع الذي يريدون تغييره؟ وماذا يريدون؟ وكيف؟)، وبدون تنظيم قواهم الخاصة بهم، سيجدون ببساطة أنهم عملوا وضحَّوا لفائدة غيرهم ممن هم أكثر وعياً وتنظيماً وتمويلاً.

وليس مهماً هنا إن كان "غيرهم" قد شارك في الثورة وضحَّى أم جاء في رُبع ساعتها الأخير! بل ليس مهماً إن كان قد وقف معها أصلاً، سواء كان محليَّاً من أهل البلد، أو أجنبياً انتهز الفرصة السانحة فدخل على الخط في الوقت المناسب!

"آلان جوبيه"- وزير خارجية فرنسا- قال بنشوة المُرابي: "التدخل الفرنسي في ليبيا هو استثمار للمستقبل".

لا يعنيه بالطبع أن يكترث لمستقبل عامة الليبيين الذين قدموا آلاف الضحايا ليظفروا ببلادهم التي عانوا فيها الإقصاء والقهر. فالبؤساء لا مكان لهم سوى في ساحات وميادين النضال، ويظهرون فقط في قوائم الضحايا التي يتم نسيانها مباشرة غداة النصر. وبودِّي لو يخبرنا "العارفون والخبراء" الذين يملأون الفضائيات عن حال بؤساء تونس ومصر؟ فربما يتذكر أحدهم ما كتبه "أمل دنقل" في قصيدته الرائِيَة: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" مُستلهماً "عنترة بن شداد":

"أنا الذي أُقصيتُ عن مجالس الفتيان..
أُدعى إلى الموت.. ولم أُدع إلى المجالسة!"

عاش فكتور هوجو (1802- 1885) ما يكفي من العمر ليشهد هزيمة وسقوط "الإمبراطورين": العم وابن أخيه. لكن البؤس والظلم والحرمان الذي كتب منافحاً ضده، ظل حيَّاً يبرِّح وجه الأرض ويعذب العالم الذي ازداد انحطاطاً وبؤساً.

لا بأس! على البؤساء والمستضعفين في الأرض، أن يتعملوا الدرس المرير بدمائهم وعلى جلودهم، بأن لا يدعوا مصايرهم لغيرهم، وأن يكتبوا بأنفسهم – ولأنفسهم- روايتهم الخاصة: رواية العالم الجديد الذي تصير فيه نداءات "الحرية، والكرامة، والعدل، والمساواة، والتقدم" متحققة فعلاً وليس فقط محض شعارات مثالية رائجة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى