الجمعة ٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
الصورة الرّائعة للغائب الحاضر دائما

«وجهة نظر نقدية لمسلسل في حضرة الغياب»

راضي شحادة

 «أَنَامُ مِلءَ جُفُونِي عَنْ شَوارِدِهَا ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيَخْتَصِمُ» المتنبي
 «أنا أخدم قضيتي حيثما أكون. غيّرت موقعي ولم أغيّر موقفي» محمود درويش
أيقنت جيدا انّه ليس من حقّي بأن أقول رأيي في مسلسل «في حضرة الغياب» الا بعد ان أشاهد حلقاته الثلاثين، وكل ذلك إيماناً مني بأنّني لا أجد من العدل بشيء بأن يُشاهِد مشاهدٌ ما خمس دقائق فقط من عمل مسرحي لي مدّته ساعة ونصف ويحكم عليه بالإعدام، فكيف يكون الأمر اذا كان العمل مسلسلا ضخما مكوّنا من ثلاثين حلقة ومتعوباً عليه كثيرا ويُعد إنتاجا ضخما، يكاد يكون بمنزلة إنتاج عشرة أفلام سينمائية ويُعرض بكَرَم منقطع النظير خلال شهر رمضان.

هنالك معادلة أَتّخذها لنفسي في الحكم على العمل الفني الذي أشاهده وأسمعه، فبمجرّد انه أُنجز من خلال استعمال عناصره الفنيّة التي ينتمي اليها، فعمليا هو عمل يستحق على الأقل 50% علامة إيجابية والعلامات الإضافية التي يستحقها تأتي في السياق، ومن الظلم شطبه من الوجود الا اذا كنتُ على يقين مسبقا او بعد مشاهدته بأنه عمل معادٍ لقضيتنا العادلة، او يهدف الى تشويهنا وزرع المزيد من الفرقة بيننا، او تفوح منه رائحة العنصرية او يحاول المساهمة في شطبنا عن الوجود كفلسطينيين. لذلك فقد تعلّمت ان أشاهد العمل الفني المتعوب عليه الى آخره قبل ان أُصْدِر قرار حكمي عليه، او على الأقل اذا لم أستطع تحمُّل مشاهدته الى آخره لأنني عصبي المزاج او لأنه يتعارض مع فكري المسبق، او لأنّ لديّ أسبابي الشخصية، فلا يحقّ لي ان أكتب عنه نقدا او أقول رأيي فيه، حتى وان كان الجوّ العام معاديا له، فرأيي في هذه الحالة سيكون ظالما ومبنيا على خطأ وليس على العمل الفني الذي أصبح مولودا حقيقيا.

«في ظل الغياب» ليس مسلسلا وثائقيا، بل هو وجهة نظر في حياة شاعر عظيم أراد القائمون عليه أن تكون وجهة نظرهم فيه مقترنة بالقضية الفلسطينية، فَهُما-محمود والقضية- توأمان من هذه الناحية. فمن خلال عرض شخصية محمود درويش على شكلها الراقي والرائع وبشكل فني ومضموني من خلال المسلسل منذ طفولة محمود حتى مماته، أتاحت لنا الفرصة لتجذير الوعي والمعرفة عن قضيتنا الفلسطينية العادلة بشكل عام، وتبعات ما لحقها من ظلم عبر التشرد والاحتلال واللجوء في الوطن وخارجه، وهي تشكّل نقطة انطلاق رائعة بفرجة رائعة على يد مخرج متمكّن من أدواته وذي باع طويل في مجال الإخراج اسمه "نجدة اسماعيل انزور"، ومنتج وممثل قدير اسمه "فراس ابراهيم"، ونصّ لكاتب شاعريّ النَّفَس مثل "حسن م. يوسف"، وموسيقى وغناء رائعين لموسيقار عالمي رائع مثل "مارسيل خليفة"، يحيطهم مجموعة من الممثلين والطواقم والنجوم الذين لا أشك للحظة بنواياهم الصادقة تجاه محمود والقضية الفلسطينية، ويحملون كل هذا الكم من الغزارة في الإبداع، ما يجعلني أطالب بكل ثقة، بأنه كما على كل بيت ان يشاهد هذا المسلسل، فكذلك اذا تُرجم الى لغات أخرى يمكن ان يُشاهَد في كل أرجاء العالم كي يكون رسولا لقضيتنا الفلسطينية المظلومة.

بدا المسلسل وكأنه أفضل وسيلة إنسانية فنية إبداعية وإعلامية لزرع تفاصيل القضية الفلسطينية الأخلاقية العادلة بوجهة نظر وطنية تقدمية، بحيث يعيد القضية الفلسطينية الى جذورها الأممية، ففلسطين ليست قضية دينية، بل مكان أمَميّ يعيش فيه كل أنواع البشر والديانات بدون عنصرية، وما سُمُوّ محمود مع "ريتا" في المسلسل، ومع من عاشرهم خارج فلسطين من مفكرين ومقاومين وأجانب، الا برهانا ساطعا على تأكيد إنسانيتنا كعرب وكفلسطينيين، وهذا ما يميزنا عن الصهيونية التي تصر على تقسيم الناس الى ديانات وتدّعي أنّ اليهود هم الشعب "الآري؟؟!!" المختار الذي نصّبه الله نائبا له على الأرض كي يتحكّم في رقاب البشر وخيراتهم ويسرق أوطانهم ويشرّدهم ويحوّلهم الى شتات وشراذم.

لشدّة إنسانيته التي كادت تصل الى رفض الانتقام من مطارديه، ولرفضه استعمال أُسلوب القتلة، قال محمود جملته المعروفة:" أُفضِّل ان أموت مقتولا على ان أموت قاتلا"، كي لا ينحطّ الى أسلوب القتَلَة، وأما المقاومون الذين لا يريدونه مقتولا بل مقاتلا بقلمه فقد حموه، فوجوده مُهِمٌّ، ومن المهم جدا في هذه المرحلة ان نبقى على قيد الحياة كي نستطيع الاستعداد للمرحلة القادمة، فلا يمكن ان يُترك حَمَلاً وديعا معرّضا للذبح في أيّة لحظة، وطالبوه بأن يكون لديه على الأقل وسيلة ما للدفاع عن النفْس اذا ما تعرّض للاغتيال، وعندما رفض تلك الوسيلة حرسوه بعينيّ رئيس المنظّمة.

انه مسلسل الغليان والثورة والحسرة في عالم مليء بالغليان والتخبط والقتل والظلم، فيقول أبو أدهم الختيار في المسلسل: "كيف بدّك اياني اهدا والنار شعلانة بقلبي؟"
احيانا كمية المشاعر المتدفقة من الشخصيات الايجابية الصادقة والمحبة لفلسطين في المسلسل تشحنك فتجرفك الى القشعريرة والبكاء والرعشة.

الصورة أكثر وقعاً على عامة الشعب من الكلمة والكتابة ، فمحمود الشاعر الذي يقرأ شعره، ونسمع شعره مغنّى بواسطة مارسيل خليفة وغيره، وبواسطة المسلسل والأمسيات التي ألقى من خلالها شعره أمام الملايين، استطاع ويستطيع ان يصل الى الملايين بالصوت والصورة، فيكون الأثر مضاعفا عندما يتحوّل الى مسلسل مكثّف يُعرض على مدار شهر كامل، مدعوماً بكل وسائل الفرجة والسماع والميديا وثورة الاتصالات واسعة الانتشار.

وكما استطاع جورجي زيدان ان يحبّبنا بتاريخ العرب من خلال رواياته التاريخية المطعّمة بقصّة حب، وكما ان 99% من الموسيقى والغناء هي عن الحب، فقد استطاع مسلسل "في ظل الغياب" المُطَعَّم بقصص الحب ان يُشَوّقنا ويؤكّد لنا كم كان ذلك الحبّ ساميا ونظيفا وانسانيا. وأما حبّ محمود درويش الذي حَلّى المسلسل فقد كان حُبّاً ساميا وأنيقا وصادقا. لم يكن محمود في المسلسل كما أراد البعض ان يتخيّله ظُلما وبُهتانا وكأنما هو زير نساء، بل كان وقوفه الى جانب النساء ويدا بيد معهن يعكس أناقته وسموّه وعلاقته النبيلة مع الجنس الآخر، وما العيب في ذلك وهو زينة الشباب ويتمتع بجمال أخّاذ وأناقة ورجولة عاشقة بأبهى صورها، وأَلْفُ جميلة تتمنّاه شريكا لحياتها او خليلا لها؟ لا بل كانت هذه اللّفتة من قِبَل المؤلف هي العسل الذي نتمتّع بمذاقه على مدار شهر المسلسل، ومَن منّا، صغيرا كان أم بالغاً يستطيع ان يفلت من قبضة الحبكة المطعّمة بقصة او بقصص حب في المسلسلات والأغاني والأفلام والشعر؟ كانت "رَهَفْ" المرهفة مندوبة عن مُحبّات محمود درويش، وكانت "ريتا" رمزا للتلاقي الإنساني بين رافضي العنصرية الدينية المقيتة، وقولاً حاسماً بأننا لسنا ضد اليهود بل ضد الصهيونية. وبما ان المسلسل ليس وثائقيا وليس تاريخيا بل يحمل وجهة نظر سامية فلا يضيرنا ان كانت هذه الاسماء حقيقية ام مبتكرة.

صحيح ان المسلسل يتحدّث عن محمود الإنسان الحقيقي الذي نعرفه ونملك عنه فكرا مسبقا لا زال يملأ خيالنا ودماغنا، لأننا تتبّعنا أخباره خلال مجرى حياته، وصحيح اننا نشاهده الآن مجسّدا بقصة هو غير موجود فيها بالفعل بل يمثّله فيها ممثّل قدير، ولكننا لشدّة انسحارنا به فإننا لا نريد ان نتخيّل انه رحل الى الأبد وأنّ ما نراه أماممنا ليس هو، بل شخص آخر يحاول ان يعوّضنا عنه ويسرد قصّته، وفي ذلك رفض ونفور من طرفنا، لأننا متعصّبون لفكرنا المسبق ونحبّ ان يبقى بطلنا بيننا حيّا يُرزَق شعرا ًوحباً ووطنيةً وانسانية كما اعتدنا عليه، ولكن الحقيقة المرّة تقول عكس ذلك: محمود لن يعود، وما محمود الباقي عندنا سوى الذي يعشش في خلايا أدمغة الباقين على قيد الحياة هنا ممّن يعرفونه او يعرفون شيئا عنه وله، ومحمود الباقي في أرشيفه الباقي من بعده، ومَن يتوقّع ان تحدث معجزة فيشترِط أن يكون مَن يمثّله في المسلسل نسخة عنه فهو مخطيء، لذلك فلن نستطيع ان نفصّل شيئا على مقاسِه، بل هي محاولة لإبداء وجهة نظر معينة تجاهه مفصّلة على مقاس أصحاب وجهة النظر هذه وذوقهم ولكنها مستوحاة منه، يحاولون من خلالها ان يسموا الى مستوى سمّوه ونقائه ومدى وعيه وشدّة إبداعه، ولكونه صاحب قضية عادلة وصاحب إبداع عالمي مميّز. محمود درويش بعد موته لن يبقى كما كان بيننا في حياته. لا نستطيع ان نتعامل معه وكأنما هو لا زال حيّا جسديا، فكل إنسان عَرفه او عَرف عنه لديه وجهة نظر جديدة مما تبقى منه في ذهنه وما بقي منه في الأرشيف. "هذا الاسم لي ولأصدقائي أينما كانوا.. أمّا انا فقد امتلأتُ بكل أسباب الرحيل. انا لست لي".. بل لكم.

ما يهمّنا في المسلسل هو القيمة التي يضخّها باتجاهنا، وليس الناحية الوثائقية التسجيلية التاريخية البحتة، فالمسلسل لم يأتِ ليؤرّخ او ليوثّق، بل هو وجهة نظر إبداعية فكرية وطنية أخلاقية ثورية، ومن دواعي سرورنا أنّها كانت في المسلسل وجهة نظر ايجابية سامية تصب في صالح محمود وقضيتنا الفلسطينية، وهي مناسَبة ثمينة جدا كي يشكّل مادة نستطيع من خلالها ان نحثّ أبناءنا وشبابنا، والذين أَعماهُم الوضع الميديَويّ عن متابعة تسلسل قضيتنا العادلة كي يشاهدوا المسلسل ويستعينوا به كي يستعيدوا معالم هوّيتهم المعرّضة للإبادة، وأن يتذكّروها من جديد إن هم قد تعرّضوا لعملية غسيل دماغ طويل المدى، لا بل انه صالح للمشاهدة من قبل جميع ابناء شعبنا والشعوب العربية، لا بل وانّني أكرّر عن قصد انه يستحق ان يُترجم الى عدّة لغات عالمية كي يتعرّف العالم من خلاله عن أمور قضيتنا التي تُجابَه بالتعتيم والتشويه.

وبشكل عام فالمسلسل يبدو بأثره الفني والإبداعي والسردي والتشويقي أفضل من ألف محاضرة مملّة عن القضية الفلسطينية، وهذا لا يقلل من استعانتنا بالمحاضرات والندوات كي نمتليء معرفة وانشحانا بتفاصيل قضيتنا الأم التي تشكل جذورنا وحضارتنا.

أَلَيسَ رائعا ان يكون اتساع محمود في تجواله وسيلة كي يعرّفنا على فلسطين الداخل من خلال تواجده وولادته فيها، ومن خلال انطلاقه الى العالم العربي والى العالمية؟ أليسَ رائعا ان يكون محمود درويش نقطة انطلاق للتعرف على العظماء الذي عاشرهم والذين يستحق كل منهم مسلسلا عن حياتهم أمثال "انيس الصايغ" و"ادوادر سعيد" و"ناجي العلي" و"راشد حسين" و"معين بسيسو" و"غسان كنفاني" و"كمال عدوان" و"ابو يوسف النجار" و"كمال ناصر" و"اميل توما" و"اميل حبيبي" و"صليبا خميس" و"توفيق زياد"، وغيرهم كثيرون من عظماء فلسطين والعالم العربي، وأنْ نَعْرف ان الرائع المصري "صلاح جاهين" كان متزوجا من فلسطينية من حيفا، فتصب دماء العرب الوجدانية والدّمائية جميعها في بحر قضيتنا؟ وغيرهم وغيرهم ممن ظهروا في المسلسل ولا يتسع المجال لذكرهم.

لا أتوقّع ان يجرؤ أحد على إنتاج مسلسل آخر عن محمود درويش خلال السنوات العشر القادمة، وإن أُنتِج فإنه لن يأتي بالكثير من الجديد أكثر مما قُدِّم في مسلسل "في حضرة الغياب"، وعلى مَن يريد ان يقوم بمشروع منافس ان يَعُدّ للألف، لأنّ التحديّ سيكون كبيرا، ولكنّ مجال العطاء سيكون أكثر لو أُنتِج المزيد من المسلسلات والأفلام والمسرحيات والأعمال الإبداعية عن القضية الفلسطينية وعظمائها، وعندها ستكون المنافسة أكثر ايجابية بدلا من صرف طاقاتنا على التشطيب والإلغاء. انها المنافسة الكريمة الايجابية المعطاءة من أجل المزيد من الإبداع الراقي والإفادة المكثفة لجمهورنا.

 هل بلدنا البروة هي فلسطين يا جدّي؟

- لا يا حبيبي، بلدنا هي فلسطين والبروة جزء صغير منها.

*راضي د. شحادة – كاتب ومسرحي فلسطيني من الجليل

راضي شحادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى