الجمعة ٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

شتاء عام 1860م ... و«أصل الأنواع»

من خلال متابعتي لكل ما يطرح بخصوص نظرية دارون جذبني هذا المقال للأستاذ/ محمد زكريا توفيق (الحوار المتمدن- العدد: 2464- 13/11/2008م المحور: الطب والعلوم/ نظرية التطور) فأحببت عرضه لما فيه من اجابات لتساؤلات مازالت مدار نقاش بين مؤيد ومعارض لهذه النظرية التي شغلت وما زالت تشغل أذهان الكثير من المشتغلين بأسرار علوم هذه الحياة، فيقول الأستاذ محمد زكريا:

النشرة الدورية التى أغضبت دارون أكثر من غيرها, هى نشرة إيدينبرا عام 1860م. فالنقد الذى جاء بها لم يكن موقعا. لكن كان من السهل إستنتاج أنه أسلوب "ريتشارد أوين" عالم البيلوجيا. الذى كان يكن عداء شديدا لدارون. فقد وصف أوين كتاب دارون "أصل الأنواع", بأنه مسبة للعلوم. وكان يحتج بأن دارون ورفاقه يتسمون بالمادية العمياء. ويدعون أن الإختيار الطبيعى هو الطريقة الوحيدة الممكنة للخلق. بينما هناك طرق أخرى للخلق لا تتعارض مع الكتاب المقدس.

ومع ذلك, فعل دارون ما لم يستطعه أوين. فبينما كان يحاول أوين التوليف بين الإكتشافات الحديثة فى علم البيولوجيا والكتاب المقدس, نجده قد إنتهى إلى مفاهيم غامضة. مثل ما يسمى بالنموذج الأصلى وإستمرارية الخلق. أما دارون, فقد أمكنه بسهولة تفسير التشابه بين الأنواع, بنظريته التى تعمل فى كل زمان وكل مكان.

كتب أوين نقده بدافع الغضب من دارون وهكسلى. فلقد كان هكسلى يزدرى أوين فى محاضراته التى كان يلقيها على الملأ, وينتقده بمرارة. كما كان هكسلى يبغض أوين لسببين: السبب الأول, لإنتمائه للعلماء الأرستقراطيين. بينما هكسلى, عالم من أصل متواضع ينتمى لعامة الشعب. والسبب الآخر, أن هكسلى يرى أن أوين يمثل العلم الردئ. ولقد نعت هكسلى نظرية أوين, "الخلق المستمر", بأنها كلام فارغ.

كان أوين غاضبا من معارضيه إلى الدرجة التى جعلته يقول فى أحد محاضراته للعامة, موجها كلامه إلى هكسلى, وقد كان حاضرا, " أى واحد لا يستطيع أن يرى تسلسل الحفريات المسجلة عبر الزمن على أنها عمل إلهى, لا بد وأن يكون معاقا عقليا.

الحرب الضروس بين هكسلى وأوين بدأت تهدأ بعض الشئ قبيل نشر كتاب أصل الأنواع لدارون. وكان أوين يحاول فى تلك الفترة إثبات أن أصل الإنسان يختلف عن باقى الحيوانات. فقد سبق أن قام عام 1850م بتشريح قرود إنسان الغابة, وقرود الشمبانزى, والغوريلا لدراسة هياكلها العظمية. وبذل أوين جهدا كبيرا للبحث عن شئ يميز الإنسان عن هذه الحيوانات. وكان يقول أنه: إذا لم نكن سوى نوع آخر من القرود, فما تبقى لنا من كرامة وكبرياء؟

الذى يجعل الإنسان يتميز تميزا كبيرا عن باقى الحيوانات, هو قدرتنا العقلية. وقدرتنا على الكلام والإستنتاج. لذلك فحص أوين مخ القرود للبحث عن هذا الفرق. وفى عام 1857م, إدعى أوين أنه وجد ضالته. فنصفى كرة المخ فى الإنسان يمتدان كثيرا إلى الخلف مكونان فصا ثالثا. أسماه أوين القرين. هذا القرين, وهو خاص بالإنسان, كفيل بأن يضع الإنسان فى فرع خاص به. إذن, مخ الإنسان يختلف عن مخ الشمبانزى. ومخ الشمبانزى يختلف عن مخ حيوان منقار البطة (البلاتيبوس). (وهو حيوان له منقار البطة. والحيوان الوحيد الذى نعرفه الذى يبيض ولا يلد.)

إشتبه هكسلى فى أن أوين قد خدع بدراسة أمخاخ حيوانات لم تحفظ جيدا. وبنى تصنيفه على خطأ بين. فيقول هكسلى:

"فى الواقع, مخ الإنسان لا يختلف كثيرا عن مخ الغوريلا. ومخ الغوريلا لا يختلف كثيرا عن مخ قرد البابون. ولست أنا الذى يحاول النيل من كرامة الإنسان وجعلها رهنا بوجود قرين للقرود. لكن أحاول وأبذل كل ما فى وسعى لكى أمحو غرور الإنسان هذا."

نقد أوين العنيف لنظرية أصل الأنواع لدارون, رفعت درجة حرارة التوتر بين أوين وهكسلى أكثر من قبل. وبعد شهور قليلة, إنفجرت عداوتهما فى عام 1860م. وعندما عقدت رابطة تقدم العلوم البريطانية إجتماعها السنوى فى إكسفورد, الذى حضره آلاف المدعوين, ألقى أوين, رئيس الرابطة, كلمته. شارحا مرة أخرى كيف يختلف مخ الإنسان عن مخ القرود. لكن هكسلى جلس متربصا له. وعند نهاية كلمتة, وقف هكسلى وأعلن أنه لتوه قد وصله خطاب من عالم تشريح إسكتلندى مشهور, قام بتشريح مخ قرود الشمبانزى, فوجد أن مخ الشمبانزى يشبه إلى حد كبير مخ الإنسان, بما فى ذلك الفص الثالث المسمى البطين. ولم يجد أوين بدا من الدفاع عن نفسه, وسط هذا الحشد الغفير من العلماء. ويبدو أن هكسلى قد إختار أفضل مكان بالنسبة له لمهاجمة وإلحاق الخزى بغريمه أوين.

بعد كسب معركة مخ الإنسان, عزم هكسلى مغادرة أكسفورد فى اليوم التالى. لكن تشامبرز مؤلف كتاب الآثار, نصحه بالإنتظار للدفاع عن دارون. لأنه قد نما إلى علمه أن الأسقف صامويل ويلبرفورس, سوف يهاجم دارون. فالأسقف له وزن دينى كبير. ولسنوات عديدة, يقف ضد فكرة التطور بصفة عامة. وسبق له عام 1844م, أن هاجم كتاب الآثار الذى تعرض لمناقشة التطور. وإتهمه بأنه مجرد تخمينات غبية. لذلك كان من المتوقع الا تختلف وجهة نظره بالنسبة لكتاب دارون عن ذلك. وكان أوين يحل فى ضيافة الأسقف أثناء وجوده فى أكسفورد. وبالتالى كان يوحى إليه بالمعلومات التى سوف تساعده فى شجب أفكار دارون, عندما يقوم الأسقف بإلقاء كلمته.

إفتتح أوين المؤتمر فى اليوم التالى. وأمام حشد غفير من العلماء يملأ الصالة الكبيرة, قال أوين: "دعونا نهب أنفسنا على الدوام جادين لقضية البحث العلمى. واثقين أن الممارسة تشحذ الذهن, وتجعلنا أكثر كفاءة. فكلما كنا أكثر قدرة, كلما كنا أكثر ملاءمة للتقرب إلى الله."
ألقى متحث آخر محاضرة عن تطور الثقافة الأوربية فى ضوء أفكار دارون. وكانت فاترة وطويلة ومملة وذات أسباب واهية. وبالرغم من ذلك لم يغادر الحاضرون القاعة, لأنهم كانوا فى إنتظار سماع الأسقف.

وقف الأسقف ويلبرفورس, وكان قد نشر نقدا لكتاب دارون فى أحد الدوريات. فأعاد بعض ما كتبه فى نقده أمام الحاضرين. ولم يذكر أن الإنجيل يجب أن يكون آلية للحكم على العلوم. لكنه قال فى كتاباته: "الأخطاء العلمية التى جاءت بنظرية دارون, ليست أخطاء بسيطة, وخصوصا عندما تحد من قدرة الرب فى خلقه. لقد أخطأ دارون, وكتابه بنى على إفتراضات شاطحة بدون أية دلائل واضحة. فحجته مبنية على فكرة الإختيار الطبيعى, التى لم يكتشف أحد دليلا على صحتها." وبدلا من تكرار ما قاله فى كتاباته, كرر أمام الحاضرين بعض أفكار أوين التى تقول أن: "كل المخلوقات هى تعبير بالمادة عن أفكار أبدية وجدت فى عقل الخالق. هذا النظام التام وعلاقاته الكاملة, التى تنتشر بين مخلوقاته, وجدت أولا عند أعظم عقل. عقل رب الجميع." وعندما أنهى خطابه, نظر إلى هكسلى وقال ساخرا: "أى جانب من أجدادك إنحدر من القرود." لكن هكسلى هب واقفا متحديا الأسقف ومجيبا على سؤاله قائلا:

"لم يقل الأسقف شيئا جديدا, فيما عدا سؤاله عن أجدادى. وإذا سألنى شخص ما عما إذا كنت أفضل أن يكون جدى من سلالة بائسة من القرود, أو يكون جدى رجل موهوب بالفطرة ويمتلك الكثير من الأموال والنفوذ, إلا أنه يستخدم هذه الملكات وهذا النفوذ, لإقحام التهكم والسخرية فى مناقشات علمية خطيرة. أقول للسائل أننى أفضل بدون أى تردد أن يكون جدى من القرود."

ضجت القاعة بالضحك المتواصل, إلا أن وقف رجل بشعر شايب وأنف رومانى وسط الحاضرين ينتفض غضبا. هو الكابتن فيتزروى ربان السفينة بيجل التى كان عليها دارون أثناء دراسته للتطور.

لم تكن العلاقة بين دارون وفيتزروى على وئام خلال السنوات الماضية. إعتقد الكابتن أن كتاب دارون عن رحلة السفينة بيجل, يفخم الذات ويخلو من الإشارة إلى جهود الكابتن وبحارته, فى مساعدة دارون أثناء رحلته. وبالرغم من أن فيتزرى كانت له دراية متواضعة بعلوم جيولوجية قديمة, إلا أنه عاد وتفرغ لقراءة الإنجيل. فى كتابه الخاص برحلة السفينة بيجل, حاول فيتزروى أن يفسر كل ما رآه وجمعه هو ودارون, فى ضوء حدوث فيضان نوح. ولقد فزع عندما وجد أن دارون يتجه إلى الإلحاد, ليس بإنكاره حدوث الفيضان فقط, وإنما بإنكاره عمل الرب أيضا.
جاء الكابتن إلى أكسفورد لإلقاء محاضرة عن العواصف. وعندما إنتهى هكسلى من الرد على الأسقف, وقف الكابتن فيتزروى ليقول, كيف أنه كان فزعا عندما وجد أن دارون يتبى أفكارا تتعارض مع الإنجيل. ثم أعلن أن قراءة كتاب أصل الأنواع سببت له ألم حاد. ثم رفع فيتزروى كلتا يديه فوق رأسه حاملا الإنجيل, سائلا الحضور الإيمان بالرب وليس بالإنسان. وهنا عج المكان بالصراخ طالبين منه الجلوس.

جاء الآن دور جوزيف هوكر عالم البيولوجيا وأحد مؤيدى دارون, لإلقاء محاضرته. صعد هوكر إلى المنصة, وقام بمهاجمة الأسقف ويلبرفورس. وإتهمه بأحد أمرين: إما أنه لم يقرأ كتاب أصل الأنواع لدارون, أو أنه جاهل تماما بمبادئ علم البيولوجيا. وفى النهاية, إنتهى المؤتمر لصالح دارون. وأصبح هو سيد الموقف.

لم يحضر دارون مؤتمر إكسفورد. وكان قد بلغ الخمسين من عمره, ويعيش فى شبه عزلة. بينما كان هكسلى وهوكر يقومان بالدفاع عنه فى أكسفورد, كان هو فى ريتشموند يعالج من مرضه المزمن. وهناك كان يقرأ رسائل الأصدقاء التى تصف له ما دار فى المؤتمر. وكان يقول: " إننى أفضل أن أموت على أن أرد على هجوم الأسقف على كتابى فى محفل مثل هذا."

أصبح مؤتمر أكسفور بسرعة مؤتمرا أسطوريا. واعتقد الأسقف أنه ربح المناظرة. بينما هكسلى وهوكر, كلاهما إعتقد بأنه أصاب الأسقف فى مقتل.

وبقدوم عام 1870م, كان معظم العلماء الجادين فى بريطانيا يقرون بحدوث التطور بين الكائنات. إلا أنهم كانوا يتحاورون ويختلفون فى كيفية حدوث هذا التطور. وبعد وفات دارون, دفن فى "وست مينستر" بجوار قبر نيوتن. ويقف تمثاله الآن فى متحف التاريخ الطبيعى بلندن. شاهدا على عظمته ومكانته الرفيعة بين العلماء.

الغريب هو أن نظرية أصل الأنواع, التى تفسر كيف حدث التطور, لم تظهر مدى قوتها الحقيقية إلا فى القرن العشرين. حينما سجل علماء الحفريات والجيولوجيا الحقبات التاريخية التى ظهرت فيها الحياة على سطح الأرض. وحينما إكتشف علماء البيولوجيا الجينات والجزيئيات التى تشكل عوامل الوراثة والإختيار الطبيعى. حينئذن فقط, بدأ الفهم الحقيقى لكيفية تأثير التطور الجبار على كل شئ حى على سطح كوكبنا. بدأ من ميكروب البرد إلى أن نصل إلى مخ الإنسان.

ونصل إلى السؤال الهام: هل نحن حقا ننحدر من سلالة القرود؟ أو نمت إليهم بصلة القرابة؟ فعندما نشر دارون نظرية أصل الأنواع, لم يكن يكف عن التفكير والبحث عن إجابة مقنعة لهذا السؤال. ولم تكن المعلومات الخاصة بالوراثة والخلية والجينات قد ظهرت بعد. وعمر الأرض وعمر الحفريات وبقايا الحيوانات المتحجرة لم تكن معروفة فى عصره. فى الواقع, حتى عام 1850, لم يعثر على بقايا متحجرة من الإنسان الأول بالمرة.

لكن دارون كان يعتقد فى قرارة نفسه أن الإنسان لابد أن يكون قد تطور هو الآخر, وجاء من سلالة القرود. وبعد 11 عاما, أصدر كتابه سلالة الإنسان. معتمدا على الشبه القوى بين تركيبة عظام الإنسان والقرد الشمبانزى أو الغوريلا, عظمة بعظمة. وأن مراحل تكوين الجنين فى بطن أمه تكاد تكون مطابقة تماما لمراحل تكوين جنين الشمبانزى أوالغوريلا. فقط فى المراحل النهائية لتكوين الجنين, يبدأ الإنسان فى الإختلاف عن القرد أو الغوريلا. هذا الشبه, هو الذى جعل دارون يقول بأن الإنسان والشمبانزى والغوريلا, لا بد أن يكونوا قد أتوا من أصل واحد. وحيث أن الشمبانزى والغوريلا كانت تعيش فى قارة أفريقيا, لذلك يكون أصل الإنسان هو أفريقيا.

بعد 130 عاما من نشر كتاب دارون سلالة الإنسان, أتت الشواهد والدلائل والبراهين كالسييل المنهمر. كلها تؤيد كلام دارود ونظريته فى التطور بشكل لا يقبل الشك. ففى عام 1999م, قامت مجوعة علماء ينتمون إلى عدة دول برسم خريطة لجينات الإنسان والحيوانات المختلفة. ووضعها فى رسم بيانى يشبه شجرة العائلة. لتوضيح أوجه القرابة بين الحيوانات بعضها البعض. وقد وجد أن الإنسان والشمبانزى والغوريلا, جميعها تنحدر من أصل واحد. إلا أن أوجه القرابة والشبه بين الإنسان والشمبانزى, أكثر وألصق من القرابة بين الإنسان والغوريلا. مثل العلاقة بين الإخوة وأولاد العم. وعن طريق هندسة الجينات ودراسة ال (دى إن إيه), وجد أن الإنسان قد إنفصل عن الشمبانزى منذ 5 مليون سنة فقط. وهذا زمن متواضع إذا قيس بزمن بدء الحياة نفسها على سطح الأرض الذى يقدر بأكثر من 3.85 بليون سنة.

تم إكتشاف عظام كثيرة متحجرة للإنسان الأول, وعشرات العظام لمخلوقات تشبه الإنسان. ومن هذه البقايا, إتضح أن تطور الإنسان قد مر بخمس مراحل. المرحلة الإولى تبدأ منذ 5 مليون سنة. كانت جدودنا خلالها تعيش فى مناطق السافانا بأفريقيا. والثانية منذ 2.5 مليون سنة, حيث بدأ الإنسان الأول يستخدم أدوات الصيد. والمرحلة الثالثة منذ مليون سنة, عندما كان الإنسان يستخدم الفأس والبلطة بكثرة. والرابعة منذ نصف مليون سنة, عندما بدأ الإنسان يستخدم النار والرمح وأدوات مشابهة. والمرحلة الأخيرة منذ 50 ألف سنة, عندما تكون عقل الإنسان الحديث. فنجده يرسم صور الحيوانات على جدار الكهوف. ويستخدم الحلى ويقوم بدفن موتاه.

وجدت مجموعة من العلماء تعمل فى أثيوبيا, بقايا عظام متحجرة. عبارة عن أسنان وجزء من جمجمة. عمرها 4.4 مليون سنة. ثبت أنها لحيوان يشبه القرد. لكن له صفات تشبه الإنسان أيضا. فعندما يقفل الفم, تنطبق الأسنان العلوية على الأسنان السفلية مثل الإنسان الحديث. ونقطة تلاقى العمود الفقرى بأسفل الرأس, تشبه الإنسان الحديث. لكن فى نفس الوقت, له أسنان مثل أسنان الشمبانزى. قادرة على أكل الفاكهة وأوراق الشجر الرقيقة فقط كما يفعل الشمبانزى. لا يعتبر مخلوق أثيوبيا هذا الحلقة المفقودة. لكنه يقع فى شجرة التطور, على فرع قبل إنفصال الإنسان من الشمبانزى.

وجد العلماء بقايا مخلوقات أخرى تشبه كائن أثيوبيا هذا. يرجع تاريخها إلى 3 مليون سنة, كلها وجدت فى شرق أفريقيا. حول بحيرة أركانا فى كينيا (بلد والد الرئيس الأمريكى أوباما). ووجد ليكى العالم المتخصص فى العظام المتحجرة, مخلوقة مشابهة عمرها 4.2 مليون سنة. كما وجدت أيضا بقايا عظام مخلوقة أنثى عمرها 3 مليون سنة, شبه مكتملة الأجزاء, أطلق عليها إسم لوسى.

التشابه العجيب بين هذه المخلوقات وقرود الشمبانزى يدل على أنهما من أصل واحد. قد إنفصلا بسبب التطور إلى نوعين: النوع الأول, مخلوقات شرق أفريقيا الشبيهة بالإنسان. والنوع الثانى, قرود الشمبانزى. وسبب الإنفصال يرجع إلى أنه:

عندما مرت تغيرات كبيرة بالمناخ, تحولت أجزاء كبيرة من الغابات إلى أحراش وحشائش السافانا. عندئذن, لجأت القرود إلى الغابات الكثيفة. وبقيت مخلوقات شرق أفريقيا الشبيهة بالإنسان فى الأماكن الأقل كثافة. وبسبب برودة الجو, بدأت أجسام الإنسان الأول فى التغير, لتلائم التغير فى المناخ. فأصابع الرجلين بدأت تنكمش لأنها لم تعد تستخدم فى التسلق والتنقل بين الأغصان. والأرجل بدأت تكبر وتزداد سمكا حتى تقوى على حمل باقى الجسد أثناء السير. والرأس بدأت ترتفع وتصبح عمودية على الأكتاف حتى يمكن النظر ورؤية مساحة أكبر.
ومع ندرة الغابات وصعوبة الحصول على الغذاء, لجأت المخلوقات الشبية بالإنسان إلى الصيد وإستخدام الأدوات الحادة. وهى ليست وحيدة فى إستخدام الأدوات. فقرود الأورانجوتان تنزع فروع الأشجار الصغيرة وتدخلها فى عشوش النمل والنحل لتحصل على غذائها. وقرود الشمبانزى تهشم ثمار النقل بوضع البندقة على حجر, وضربها بحجر آخر. كما يفعل الحداد بالحديد الساخن. وهى تستخدم أوراق الشجر فى إمتصاص الماء مثل الإسفنج, والأوراق العريضة كمظلة لتحميها من المطر. أو لكى تفترشها والجلوس عليها فى الأرض الموحلة. لكن الأدوات التى كان يصنعها الإنسان الأول منذ 2.5 مليون سنة, لم يكن تصنيعها فى مقدور أقاربه القرود.

صناعة الإنسان الأول للفأس منذ 1.5 مليون سنة لم تأتى بالصدفة. صناعة الفأس تستلزم قطع أحجار صلبة بطريقة معينة ومهارة فائقة. ثم ربط الرأس بيد خشبية أو بفرع شجرة. وهذا يعنى أن فكرة الفأس كانت موجودة فى عقل الصانع مسبقا. مما يتطلب وجود مخ أكبر يبلغ ضعف مخ الشمبانزى. كبر المخ وتطوير أسلحة الصيد جعلت الإنسان الأول يتبع الحيوانات وهى تنتشر إلى أماكن أخرى خارج أفريقيا. فنجد منذ مليون سنة, بدأ الإنسان الأول فى الإنتشار حتى وصل إلى أوروبا وآسيا. حيث نجد آثاره فى إنجلترا وأسبانيا وأندونيسيا وغيرها.

لكن ما الذى جعل مخ الإنسان الأول يكبر ويزداد حجما؟ السبب يرجع لطبيعة الحياة الإجتماعية التى كان يعيشها. فهو كان يعيش فى مجموعات تتطلب التعاون فى صيد الحيوانات الكبيرة, وإعداد أدوات الصيد وتطويرها. وكان أيضا يتطلب نصب الفخاخ, ومراقبة القطيع وتوزيع الأدوار ورسم الخطط وخلافه. كما أن الحياة داخل المجتمعات, تؤدى إلى صراع الذكور للسيطرة والهيمنة والإستئثار بالإناث والطعام. مما يجعل إعمال العقل و تشغيل المخ عملية مستمرة. وقد وجد دونبار عالم البيلوجيا الإجتماعية أن طبقة المخ الخارجية (نيوكورتكس) فى الحيوانات التى تعيش فى مجتمعات مثل قرود البابون, تزيد وتكبر مع إزدياد أعداد المجموعة.

فى عام 1994م, وجد بالصدفة عالم الحفريات تشوفيه كهفا فى جنوب فرنسا. هذا الكهف يختلف عن عشرات الكهوف الموجودة بالمنطقة. ولقد وجد تشوفيه داخل الكهف صالة كبيرة بها رسوم بالألوان على الجدران. هذه الرسوم لحيوانات يبلغ عددها 400 حيوان. تشمل وحيد القرن وبقر وحشى وأسود وغيرها. وعند تحليل الكربون 14 المشع الموجود فى هذه الرسوم, تبين أن عمرها 32 ألف سنة. مما يجعلها أقدم لوحات فنية معروفة حتى الآن.

منذ 50 ألف سنة, كان الإنسان الحديث يشبهنا فى الشكل والسلوك. وكان أمهر فى صناعة الأدوات من أسلافه. فقد أتقن صناعة الرمح ورميه. وصناعة الإبر لحياكة ملابسه. وصناعة شباك الصيد. وكان يسكن فى منازل. ويتحلى بالحلى ويقوم بالرسم على الجدران. وصار الإنسان الحديث يسيطر على باقى مخلوقات الكرة الأرضية. إلى الدرجة التى أصبحت تهدد الآن بفناء أنواع أخرى من المخلوقات. وفى نفس الوقت, أصبح يشكل نوعا جديدا من التطور. هو التطور الحضارى.

فهل الإنسان أصله قرد؟ الأجابه بلا. نحن لم نأت من قرود الشمبانزى أو الغوريلا. ولكن نحن والشمبانزى والغوريلا قد أتينا من أصل واحد. قرود الشمبانزى ليست آباءنا, ولكن أخواتنا وأولاد عمومتنا. القرابة بيننا وبين الشمبانزى مذهلة. فعلم التشريح يقول لا فرق. ومراحل تكوين الجنين تقول الفرق ضئيل جدا. والجينات تقول تقريبا لا فرق. ودرجة مقاومتنا للأمراض واحدة. وأسلوبنا فى تعدد الزوجات والسلوك الإجتماعى واحد. وشراهتنا فى حب السلطة وتكوين الثروة وتزوير الإنتخابات واحدة.

فى تجربة لتدريب قرود الشمبانزى على إستخدام النقود. وضع الغذاء الذى تحبه فى ماكينة مثل ماكينات الكوكاكولا الموجودة فى الشوارع والأماكن العامة. الطريقة الوحيدة لإخراج الطعام من الماكينة هو إدخال عملة نحاسية من فتحة فى الماكينة. ثم أعطيت العملة النحاسية للقرود بالتساوى. ودربت القرود على إستخدام الماكينة. ماذا حدث بعد ذلك؟ بدأت القرود القوية تستولى على النقود بالقوة من القرود الضعيفة. والقرود الضعيفة بدأت تسرق العملة من بعضها.

قرد شاب كان يمسك بثمرة فاكهة. رآه قرد صغير فأراد أن يأخذ الثمرة منه. لكنه يعلم أنه لا يستطيع أن يأخذها بالقوة. فماذا يفعل؟ أخذ يصرخ بأعلا صوته. فجاءت أمه مسرعة لنجدته. فأشار إلى القرد الشاب وكأنه يتهمه بضربه. فهجمت الآم على القرد الشاب, الذى فر هاربا تاركا الثمرة للقرد الصغير.

وضعت قطع من الشيكولاتة ملفوفة فى ورق مفضض أمام قرد شمبانزى. وكان فى أحدها نحلة حية. وعندما فض الشمبانزى الورقة المفضضة من على النحلة, قامت بلدغه فى يده. فماذا يفعل بباقى الشيكولاتة بعد أن ذاق حلاوتها؟ وجد أنه كان يأخذ الشيكولاته, قبل فض غلافها, ويضعها على أذنه لكى يعرف هل بها شئ يتحرك أم لا؟

هذه مخلوقات تفكر أيضا. وتحب وتكره وتخاف وتجوع وتمرض وتموت. ونحن مسئولون عن بقائها. وعن بقاء باقى المخلوقات التى تشاركنا الحياة فى هذا الكوكب. والعجيب أنه لم يثبت حتى الآن, وجود حياة فى أى مكان آخر فى هذا الكون. غير كوكبنا هذا, الفريد فى كل شئ. الموجود إحتمالات فقط. وهذا يجعل مسئوليتنا الخلقية والإنسانية أكبر وأعظم. غرورنا وكبرياؤنا لا يجب أن يجعلانا ننسى مسئوليتنا تجاه كل الحيوانات والنباتات التى حولنا. ومسئوليتنا الأخلاقية تمتد أيضا إلى البيئة ونظافة الأنهار والبحار والبحيرات وحماية الغابات والتربة وكل ما له علاقة بالحياة على كوكبنا هذا الفريد الرائع. فالبديل هو الغرور والتعالى والتصحر والتلوث والجدب والإنقراض والموت. فهل نستيقظ قبل فوات الأوان؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى