الأحد ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

قاموس العاجزين

لكل كائن في الوجود ثقافة وفلسفة خاصة، يتسم بها كل مخلوق، ويتمايز من خلالها عن غيره، فإذا نظرنا إلى عناصر الوجود غير الحية، وتأملناها بإحساس الفلاسفة والمفكرين والأدباء؛ لأدركنا أن لكل منها فلسفة خاصة تسيّره في فلك الحركة والوجود.

فالشمس من يوم أن أنشأها الله في الكون، لها ثقافتها وفلسفتها التي تميزها عن غيرها من الكواكب؛ ففلسفتها قائمة على إضاءة الوجود بما فيه من كواكب، وما يعمّ فيه من غياهب الديجور، وبعث الحرارة والحركة والنشاط في أوصال الكائنات، وهذا ديدنها إلى أن تقوم الساعة.
ولكن الشمس لم تتقاعس ساعة في أداء عملها، وإنما تؤدي وظائفها على أكمل وجه، دون تردد أو تذمر.

والقمر الذي يستمد نوره من الشمس لم يتقاعس ليلة عن أداء وظائفه في إرسال أضوائه المنعكسة عن الشمس إلى حنايا الكون المظلمة، بل صار رمزا للجمال والرومانسية، تغنّى به الشعراء في ساعات هيامهم، والأدباء في هنيهات إشراقة قرائحهم.

وأجمل ما في القمر أنه يوزع ابتساماته على الوجود بوجوه مختلفة، فمرة يبتسم ابتسامة العاشقين فيظهر بدرا أين من جماله فاتنات باريس؟!

ومرة يخفف ابتسامته إلى ابتسامة الحيي فيبدو هلالا، حتى صار رمزا للمسلمين يتغنون به، ويرفعونه شعارا يرمز لدينهم الحنيف، وأكثر من ذلك أنهم ربطوا تاريخهم الهجري به، وبات ظهوره إيذانا ببداية الشهر، وتواريه إيماء بنهايته، وصاروا يصومون لرؤيته، ويفطرون لمشاهدته حسب ما جاء في تعاليم الدين الحنيف.

ومرة يغيب عن شطر الوجود؛ ليعانق شطره الآخر، فيودع حبيبا ليلقاه في غاية اللهفة بعد المغيب، ويا لروعة اللقاء!.. وهذا ديدنه ودأبه طوال ليالي السنين، ولم يقصر في أداء واجبه ساعة من العمر.

وإذا ما قدر الله أن يعتري النظام الكوني تغير طارئ، فترى الشمس قد عبست في وجه الوجود، وأخفت خيوطها الذهبية عن عيون الكائنات؛ وذلك إذا ما اعترتها حالة الكسوف، وترى القمر قد شحب وجهه في غصة الحبيب، عندما يتوارى عنه المحب؛ وذلك حينما تتصارع مشاعره في ظاهرة الخسوف.

ولكن يا لجمال وروعة الحبيب، عندما تعتريه حالة من العبوس أو هينمة من التدلل والغنج الجميل

ما أجمل الشمس حينما تتذمر في خسوفها، وما ذلك إلا إغفاءة المحب على صدر الحبيب!
وما أروع القمر عندما يربدّ في وجه الوجود اربداد الحبيبة في وجه الحبيب عندما يتأخر عن اللقاء، ثم تنفرج منه الأسارير، وتذوب النفس في النفس، والروح في الروح، وإكسير الحياة في أنفاس الحبيبين حينما يمتزج الجسدان في لقاء غرامي عفيف!

أما النجوم التي لا يحصيها عد، ولا تحيط بها أفهام الجهابذة العبقريين، فديدنها- منذ ولادتها إلى كنف الوجود- الإضاءة واللألأة، وقد جعلها الخالق- سبحانه وتعالى- مصابيح، وزيّن بها السماء، وما أروعها من زينة! فلا يعتريها فساد، أو يصيبها نحول أو شحوب، ولم تتوان يوما عن لألأتها، كما يتوانى السراج، حينما ينتهي فتيله أو يخبو زيته.

وإذا هبطنا بالخيال من السماء إلى الأرض، وأطلقنا عين البصيرة والتأمل في عالم الوجود الجامد والحي؛ لأدركنا أنه عالم لا يعرف للتذمر طعما، ولا للشكوى لونا، ولا للتقاعس بارقة، بل دأبه الحركة والحيوية والنشاط.

فالبحر الذي يبتلع ثلاثة أرباع الكرة الرضية، ويحتضن في أحشائه كائنات لا يحيط بها عد ولا إحصاء وتختلف أشكالا وألوانا، لم تعتره لحظة من الضعف أو حالة من الشكوى أو اليأس.

فمنذ أن أبدعه الله على صدر الوجود؛ ليكون سببا جوهريا في استمرار الوجود، لم تستقر أمعاؤه من الحركة والصخب، ولم يسترح هنيهة من عناء زمجرة العباب المتلاطم في الأعماق وعلى خدود الشطآن، فهو عالم من النشاط والحركة والحيوية والانبعاث، تأبى أحشاؤه الأجساد الهامدة، فتلفظها إلى الشطآن، لكن هدوءه في لحظات أخر، ليس إلا إغفاءة التنين في قيلولة الظهيرة، وليس إلا أحلام يقظة تمر في مخيلته، سرعان ما ينتفض من لذتها، فيهوج مع الرياح نافضا رذاذ المياه عن رمله، لافظا عباءة النوم عن جنوبه، باسطا عنفوان التحدي بكل أطرافه.

والهواء الذي يعد العنصر الأساسي لعيش الكائنات يمنحها السعادة والهناءة والانتعاش على مدار ساعات العمر، ولا يتوانى في العطاء، ولم يشك هنيهة من هنيهات الحياة، ولم تفتر له عزيمة بالرغم من جرائم البشر الوحشيين الذين لوثوه بشتى أنواع الملوثات والغازات، بل أصر على دوام البقاء؛ ليمد الكائنات بأنفاس الحياة، لكنه لم يركن ولم يستسلم لطغيان الأيدي الآثمة التي تشوه جمال الحياة، فسرعان ما ارتعدت فرائصه، واربدت سحنته، وثار أوار الغضب في أعماقه، فتحول من حمل وديع إلى بركان ثائر يقتلع الأشجار والمزارع والحقول والخيم، ويثير ثائرة البحر؛ فيمد أمواجه، ويعيدها كرا وفرا على أحضان اليابسة، ولا يتوانى في عزيمته إلى أن يشفي غليله من الأرض وممن عليها، فيعلم المتجبرين درسا تردد ذكراه حكايات الشعوب والأمم.

وفي السماء تجد الرياح في نشر السحب في الفضاء، وتحملها وتتقاذفها فوق القارات والدول، وتهلك الغمائم فتبكي قطرات من الغيث المدرار على صدر الطبيعة الحالمة بوصال حبات المطر، فتروي الحقول والمزارع والبساتين والغابات والصحارى والجبال والوهاد والوديان، وتسربل الطبيعة جلبابا ناصعا من الخضرة والنضارة والجمال، وتحيل صمت الجداول والأنهار إلى خرير يوقظ الحب والسعادة والسرور في أكناف الطبيعة، وتبعث الأمل والتفاؤل في نفوس الكائنات، فتشرئب لمعانقة جمال الحياة والانتشاء من بهائها الآسر وإكسيرها السادر إلى أنفاس الوجود..
ومظاهر الطبيعة والكون أكثر مما تعد أو تحصى، مما يدل على عبقرية الأداء والتحدي والصمود والمواظبة والتفاني وعدم التخاذل والتراجع والتواني.

ولننتقل إلى عالم الأحياء لنرى لغة التحدي لا التردي، والتفاؤل لا التشاؤم، والإصرار لا التخاذل، والإيمان لا الانهزام، بأبهى صورها وأنقى حللها عند جميع الكائنات. ولكن نكتفي بالكائنات التي هي علم على رأسها نار في أنموذج ثقافة العزيمة لا الهزيمة.

فالنمل- وهو من أصغر الكائنات الحية- تتجلى عنده ثقافة الاتحاد والتعاون وتحدي العوائق وعدم الاستسلام والخنوع لتحديات الطبيعة، يسعى طوال النهار لجمع الحب وتخزينه في مخازن تحت الأرض؛ ليتغذى عليها شتاء، وكل نملة تؤدي واجبها ولا تتكئ على الآخرين أو تستغل جهودهم لتستريح، وإنما الكل متعاضد متآزر في مجتمع حشري لا يعرف الظلم والاستبداد أو التفرقة والتمييز أو الحقد والكراهية أو المشاحنات والمناحرات .. الكل يتفانى من أجل الكل، والجزء ينحل في جسد الكل لتحقيق سعادته، والكل يذوب في الجزء من أجل رفاهيته. إنهم يمتلكون أجمل مفردات التعاون والإرادة والتحدي، ولا يعرفون طعما لثقافة الانهزام والانكسار أو التمزق والتشرذم..

والنحل له ثقافة ذهبية في التنظيم وتوزيع المهام والوظائف والإيثار، فالذكور تفني حياتها، وتتجرع كؤوس المنية بعد أن تؤدي واجبها المقدس في تلقيح الملكة التي تقوم بدورها بوضع البيض لإنتاج اليرقات، والعاملات يؤدين واجبهن في حراسة الخلية وجمع رحيق الأزهار، لكننا لم نسمع عن تذمر نحلة إزاء واجبها، ولم تتشاءم واحدة من النحلات، ولم يعتورها فتور، أويصيبها خمول في القيام بمهماتها الوظيفية داخل الخلية أو خارجها.

والطيور- على مختلف أنواعها- لا تكف في دورة حياتها عن البحث عن مصدر آمن لعيشها وسعادتها فهي، تقطع آلاف الأميال عبر الدول والقارات بحثا عن الدفء والشمس أو البرودة والشتاء حسب طبيعة كل منها.

فالسنونو يتحمل أعباء المسافات البعيدة، وهو يبحث عن دفء الربيع وجمال الطبيعة والحياة، ولا يتردد في البحث والاستقصاء ولو هلك على الدروب..
والبلابل ترحل عبر الفيافي بحثا عن أشعة الشمس الذهبية ورومانسية الأجواء الربيعية؛ لتغني أجمل وأعذب ألحانها في أنشودة التلاقح الحيوي بين الأحياء من جهة، وبينها وبين عناصر جمال الطبيعة من ناحية أخرى.

والزرازير والسمانى والشحارير وأبو الحناء وغيرها كل أولئك يتحدى سراب البعد، بحثا عن لفحات البرودة ونفحات حبات المطر، في شتاء قارس تشتاق فيه عيون الأحياء إلى خيوط الشمس بين الغمائم السادرة من السماء إلى ذؤابات الجبال، الهابطة على صدر السهول والوديان، باسطة في أكنافها ليلا من الضباب وديجورا من البهيمية والألغاز والطلاسم.
في الطبيعة والوجود جبال شاهقات للتحدي والصمود.. كل كائن حي أو قطعة من الجماد نقرأ في أسرارها روايات من المعاناة والقدرة على الصبر والتحمل، ولا تقع أفهامنا على سطر واحد من الهزيمة والانكسار، أو التراجع والانهيار، أو الشكوى واليأس..

ولنتأمل رويدا رويدا عالم إنساننا الحي الذي علة وجوده عبادة الخالق عز وجل، وعمارة الأرض، قال تعالى: (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون) . الآية من سورة
وقال تعالى أيضا: ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) الآية 72 من سورة الأحزاب .

ولكن هل حمل الإنسان هذه الأمانة بأمانة حقا ؟

نعم لقد حملها بشرف علماء البشر الذين ضحوا بحياتهم من أجل الوصول إلى حقيقة علمية أو اكتشاف لغز من ألغاز الطبيعة والكون، فكل علماء الفيزياء والكيمياء والطبيعة والأحياء والرياضيات والهندسة والجبر والفلك والفضاء والذرة والفلسفة وغيرها، قدموا لنا أمثلة وبراهين عظيمة شحنوا بها قاموس التحدي والإرادة والتصميم بأبهى المفردات وأنصع المعاني.

وكل نفر من هؤلاء العظماء ضحّى بالغالي والنفيس من الجهد والمال والنفس من أجل حل لغز، أو فك طلسم، أو اكتشاف حقيقة ضامرة في سراب الوجود، أو اختراع آلة أو تقنية متطورة تخدم البشرية؛ وهو إذ ذاك قد عرّض حياته للخطر أو الموت أو السجن، ولم يبال بالعواقب، حتى استطاع أن يقهر المجهول ويطوعه، ويكبح جماح أسراره تحت مطرقة فكره، وعلى سندان إرادته وصبره وتضحيته.

فمن منا ينسى ما قدّمه علماء المسلمين من اكتشافات واختراعات وفلسفة للعالم، ما زالت جامعات الغرب وما زال علماؤه يكنون لهم كل إعجاب وتقدير وعرفان بالجميل، أمثال أبي بكر الرازي وابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم وجابر بن حيان وابن رشد وابن باجة وعباس بن فرناس وغيرهم الكثير الكثير.

ومن منا ينسى ما قدمه ويقدمه اليوم علماء الغرب من دعائم حضارية لبناء النهضة والتطور والإبداع في شتى ميادين العلوم والحياة، ونحن مدينون لهم، ونكن لهم كل الإعجاب والتقدير والاعتراف بالجميل، من أمثال : لافوازيه وإينشتاين وداروين وأرخميدس وكريستوف كولومبوس ولويس بريل ونوبل وجان جاك روسو..

فهؤلاء العلماء والمفكرون والفلاسفة في الشرق والغرب، أقاموا صرح الحضارة على عصارة فكرهم وعبقريتهم طودا شامخا تدين له كل المخلوقات الكونية، وما زالت عبقريتهم نبراسا تهتدي به كل أفواج العلماء على مر العصور، فما بالنا بعلماء هذا العصر الذين أحالوا العالم المترامي الأطراف إلى قرية صغيرة باستخدام تقنيات الحاسوب والشبكة العالمية للإنترنت و الاتصال عبر الأقمار الصناعية و المحطات الفضائية

التي تنقل إلينا الحدث مباشرة من أقصى أطراف المعمورة إلى أدناها، ومن أحد الكواكب إلى الكوكب الأرضي عبر المركبة الفضائية التي تقل على متنها رواد الفضاء.

ولا ننسى دور بعض الشعوب المتميزة في بناء الحضارات، ابتداء من أقدمها وانتهاء بأحدثها، ولا نستطيع إغفال دور كل فرد بشري عمل ويعمل بشرف وإخلاص في ميدان عمله واختصاصه، فهو يخدم الحضارة والمدنية. أما الذين خانوا الأمانة، وباعوا ضمائرهم، وأسرتهم شهواتهم وملذاتهم، فعاثوا في الأرض فساد،ا وسرقوا ثروات وخيرات شعوبهم، وطغوا وبغوا، وارتكبوا أبشع المجازر، في سبيل ثروة أو جاه وسلطان، فلعنهم الله، ولعنتهم الشعوب والأوطان؛ لأنهم لم يبنوا حضارة، بل دمروا كل وجه حضاري جميل في الحياة، وحرموا كل أفراد شعوبهم ومجتمعاتهم من الإحساس بطعم الحياة الجميلة، وتركوهم يتجرعون كؤوس الفقر والبؤس والحرمان.

وإذا كنت أتحدث عن لغة العاجزين، فإنما أقصد كل فرد بشري أترع قاموسه الحياتي بمفردات الإحباط والتشاؤم، وركب مركب الشكوى والتردد والخوف والتأفف؛ فجعل الحياة لحدا مظلما قبل أن يوارى فيه، ونسي أن الحياة- رغم الصعاب والآلام- تخفي وراء سدولها جمالا وسعادة لا يحتاجان منه إلا أن يزيل الأستار عن عينيه، والبراقع عن وجهه، والضباب والظلام عن نفسه. ولو أن كل نفر من هؤلاء نظر إلى ملايين البشر الذين كانوا وما زالوا ضحايا الطغاة والمستبدين، لحمد الله على النعم التي تحف به، ولا يشعر بها، ولو تأمل بعين البصيرة أحياء البشر الذين يقبعون تحت الأرض في زنزانات رهيبة مخيفة تحت وطأة القهر والتعذيب؛ لأيقن أن رحمة الله وسعته، وأظلته بنعم النور والهواء والماء والغذاء والحركة والكلام والنوم والأحلام، ولو أطلق مناظير الفكر تحت التراب، ورأى المقابر الجماعية للأبرياء، لعبد الله سرا وجهرا على نعمة البقاء التي حفظها الله له من سرطان المجرمين.

ولو أن كل فرد من هؤلاء ألقى نظرة متأنية إلى الملايين من الخلق الذين حرمهم الله من نعمة الحواس، ففقدوا نعمة البصر أو السمع أو الكلام أو الشم أو الذوق، أو الذين عدموا القدرة على الحركة، فحرموا من الأرجل أو الأيدي أو عضوا من الأعضاء الضرورية للحياة، أو الذين كانوا ضحايا الأقدار أو المجرمين، فخسروا واحدة أو أكثر من تلك النعم، لعلم أن العناية الإلهية لم تغفل عنه لا خلقا ولا وجودا.

ثمة أصناف من البشر خلقها الله من ظلام الليل أمواتا، وهم أحياء، ومن نعيق الغراب نذير شؤم ويأس، ومن نقيق الضفادع لغوا وثرثرة، ومن النواعير عنينا وأنينا، ومن التراب ذرات غبار هزيلة أمام الرياح، ومن صدى الأيام ترددا و تذمرا، فمحت – بما غضب الله عليها – مفردات التحدي والإرادة والتفاؤل من قاموس فكرها، وطرحت مكانها فضلات اليأس والهزيمة والانكسار والتراجع والتردد والتذمر والبكاء والشكوى والأنين، حتى أحالوا نصاعة وجه الحياة إلى بشاعة، ومحوا أسارير الأمل والتفاؤل فيه، وخطوا عليه أخاديد الشيخوخة وقرب الفناء.

إن الذين يحملون يافطة التشاؤم شعارا، وما أكثرهم! أناس ينظرون إلى الحياة بأعين الغربان، ومن ثقوب الإبر، ومن وراء الستور؛ فهؤلاء يرون جمال الحياة قبحا، والنجاح فشلا، والغنى إقلالا، والصمود هزيمة، والثقافة هراء، و الموسيقا بكاء وعويلا.

فإذا نظر هؤلاء إلى زهور الحديقة، لم يروا فيها إلا أشواكا تخز عيونهم، وإذا تأملوا جمال الطبيعة، رأوا فيه ليلا دامسا تمّحي فيه جميع الألوان، وإذا وقعت عيونهم على جمال امرأة، لم يروا منها إلا أفعى تقض جنوبهم، وإذا شربوا الماء زلالا، أحسوا بأنهم يحتسون علقما، وإذا ابتسم في وجوههم متفائل، ظنوا بأنه يسخر منهم.

فالحياة عندهم زنزانة، لا ترى النور ولا الشمس ولا ضوء القمر.. والحياة عندهم، جام مترعة بطعم العلقم، لا تعرف أذواقهم إحساس الحلاوة والجمال.. والحياة عندهم قدر أحمق الخطا، قادهم إلى الوجود رغم أنوفهم، وليتهم لم يأتوا إلى الوجود.

مهما امتلكت أيديهم من شموع النور، فهم يلعنون الظلام، ومهما ابتسمت في وجههم الحياة، فهم يلعنون حظوظهم، ومهما مدت لهم كف الحياة بساط الأمل، فهم لا يرون إلا أشواك اليأس، ومهما تزينت لهم الحياة بأثواب الفرح، قابلوها بأثواب الحزن والألم، ومهما عطرت أنسام الحياة أنوفهم بعبق الزهور والعطور، فهم لا يشتمّون منها إلا رائحة المزابل والجثث المتعفنة، ومهما غنت لهم الحياة أجمل أغنياتها بأعذب ألحانها، لم يسمعوا منها إلا نقيق الضفادع ونعيب الغراب.

لو أن السماء انشطرت لهم، وأمطرتهم شذرات من الذهب، لعميت أبصارهم عن بريقها، ولم يروا فيها إلا طيورا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل.

لو أن الطبيعة فرشت الأرض تحت أقدامهم بساطا مزركشا بأكاليل الزهور، وضمّخت الأثير بأطيب الرحيق والرياحين، لرأيتهم يشكون من وخز الأشواك وزكام الأنوف، فيطلقون زفرات الشكوى والألم.

لو أن الصيف أدفأ جلودهم بحرارة الشمس، وأمدهم بالحيوية والحركة والنشاط وهمة النهوض مع الصباح، لرأيتهم يتأففون من نار جهنم، ويلعنون الصباح؛ لأن خيوط الشمس الذهبية دغدغت أجفانهم وأيقظت أحلامهم.

لو أن الخريف لفلف أرديتهم، إيذانا بحلول موسم البرد، والأشجار أسقطت أوراقها الصفر متطايرة على الدروب تأهبا لاستقبال حبات المطر، لرأيتهم يشتمون الرياح التي نبّهتهم إلى قدوم الشتاء، ويلعنون الأوراق تحت أقدامهم؛ لأنها تومئ إليهم بوقع الخطا.

لو أن الشتاء أرسل إليهم غمائم الخير والسعادة والفرح قطرات من ندى أو خيوطا من غيث مثقل بالعطاء والبشرى، لرأيتهم يلعنون حبات المطر؛ لأنها قد بللت ثيابهم، وأوحلت التراب تحت أرجلهم .. ولو أن برودة الشتاء تسللت إلى أجسادهم لتغير من رتابة الشعور وبلادة الإحساس عندهم، لرأيتهم يكفرون بالشمس؛ لأنها لم تهبط إليهم وحيا من الدفء وكانوا بالأمس يلعنونها؛ لأنها أمدتهم بحرارة الصيف.

ليست كلماتي سرابا من وحي الأدباء والمفكرين، ولا لوحة سماوية، ولا أفكارا شيطانية متسللة من عالم الغيب، تتفتق بها عبقريتهم، في هنيهات تفجر القريحة، و فيض السجية، وانبعاث المشاعر من حنايا النفس، وانبجاس الأفكار من زنزانات الاعتقال والقوقعة و الرعب والرهبة، إنما هي لوحة نقشت على صخور الحياة، رسومها بشر أحياء يعيشون بيننا، ويأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، ويستنشقون الهواء الذي نستمد منه أنفاس الحياة.
ما أكثر الذين يبكون بكاء الثكالى، والحياة تتراقص أمامهم فرحا وسعادة!

ما أكثر الذين يشكون من الإقلال وضيق ذات اليد، وأكفهم مترعة بالخيرات، وبطونهم تستغيث وتتألم من التخمة!

ما أكثر الذين عميت أبصارهم عن جمال الحياة، فلا يرون إلا الظلام، وعيونهم سكرى لا تشعر بنشوة جمال الحياة!

ما أكثر الذين يضيقون من سعة الحياة، فلا يرون فيها إلا سجونا وزنزانات، وفي نفوسهم رحابة تتسع لبحار الأرض ونجوم السماء!

ما أكثر الذين تغني لهم الحياة، وتعزف لهم أجمل ألحانها، فلا يسمعون منها إلا زمجرة الرياح وقصف الرعود وأنين الألم!

ما أكثر الذين تبتسم الحياة في وجوههم ابتسامة الرضيع بين ثديي أمه، فلا يرون فيها إلا وجها كالحا وثغرا مفترسا بأنياب الضراغم ووحوش الفلوات والغابات!

ما أكثر الذين تمد لهم الحياة كف العطاء راحة لا تعرف الانقباض أو الانغلال إلى الأعناق، فلا يرون فيها إلا ضربة الملاكم في حلبات الصراع!

الحياة لوحة كاريكاتيرية مليئة بالرسوم المتحركة التي تعجز عن رسم حقائقها ريش الفنانين، وتتوه الكلمات وتحار وتعجز أمام تلك الأصناف من خلق الله على الأرض، ففي نفوس كثير من البشر خبايا عميقة من ظلمات البحار، لا يستطيع الغوص إليها كل غواصي العالم، بما امتلكوا من فنون الغوص ومركباته التي تسير بالليزر والطاقة الذرية.

وفي نفوس كثير من البشر زنزانات مترعة بالظلام، لا تستطيع اختراق غياهبها كل تلسكوبات الفلكيين ومناظيرهم التي يرون بها أكثر النجوم والكواكب غورا في الفضاء.

وفي نفوس كثير من البشر طلاسم من المشاعر والأحاسيس، لا تستطيع فك رموزها كل أجهزة التشفير المستحدثة في هذا الزمان، ولا يمكن لكل الأنامل الشفافة في العالم أن تفهم حروفها النافرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى