الأربعاء ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١

الغالبون حاضرون عند الغياب

راضي شحادة

 الغالبون مقاومون إنسانيون أذكياء صادقون أتقياء وأنقياء.
 القدرة على التحرك بذكاء في ساحة مستباحة.
 شخصياته صادقة وطبيعية، ولا تتصنّع الحضور، وفي ذلك قوّة إخراج وتمثيل وحُسن إدارة.
 وماذا يضيرنا اذا كان الثوريون الحاليون ينادون بالعيش في ظل حكم مدني يمارس الناس فيه حرياتهم ومعتقداتهم بحرية مشروطة بأن تكون الدولة والنظام دستورهم الحياتي، بحيث يعيشون في ظلّه بتآخ وسلام ومحبة؟ اذا ما وصلنا الى درجة ان الثوريين يتّحدون في النضال على أخلاقيات وأهداف سامية من أجل التحرير واستعادة الحقوق المسلوبة كشكل من أشكال المشترك الكبير الذي يجمع فيما بينهم فما الضرر في ذلك؟ اذا ما ارتقت الثورات العربية الى هكذا نوع من الدستور الجامع فيما بين العرب فأهلا وسهلا به.

مسلسلان لفتا انتباهي في رمضان الأخير وهما: مسلسل «الغالبون»، ومسلسل «في حضرة الغياب»، وأعترف أنني لم أستطع أن أشاهد كل هذا الكم الهائل من الإنتاجات الإبداعية التي عُرضت خلال هذا الشهر، بل تمكنت من مشاهدة بعضها بما يسمح به وقتي، وبضمنها هذين المسلسلين..

قد يستغرب البعض هذه اللّفتة من طرفي، وقد أبدو سابحا عكس تيار المعارضين للمسلسلين، إمّا لأسباب تتعلّق بالوعظ الديني الذي رافق مسلسل «الغالبون»، او بسبب عدم وصول مسلسل «في حضرة الغياب» الى مستوى محمود درويش كما ادّعى بعض هؤلاء المعارضين، ولكن لا بدّ انّ لي مبرراتي الشخصية لتمسّكي بوجهة نظري الفنية والمضمونيّة لما أرى وأسمع.

لطالما تربّى أناس من جيلي والأكبر مني سنا- وأنا من مواليد سنة الثورة الناصرية- على ان الشعوب اذا هبّت ستنتصر، وعندما ثارت الشعوب وانتفضت وهبّت ولم تنتصر أصابنا الإحباط والشعور بالهزيمة والعجز وعدم الثقة لا بالشعوب ولا بالحكام، وعندما فقدنا الحماية التي كنا نظنّها ستساعدنا على النصر المبين إبّان الحرب الباردة ودعم الاتحاد السوفييتي لنا، زاد شعورنا بالهزيمة، فما كان منّا الا اللجوء الى الغيبيات والدين والإيمان بما هو خارج هذا المكان الذي نحيا فيه، لأنّ هذا المكان لم يستطع ان يوفّر لنا اية فرصة للنصر وللحصول على حقوقنا. ومن هذا المنطلق فإننا نلاحظ أنّ معظم وسائل الاعلام العربية تغذّي المدّ الديني وتؤكد على ضرورة انتشاره، والتشبث بقوةِ الغيب وانتظار المخلّص الذي قد يأتي الفرج السماوي بواسطته ما دام العبد لم يستطع ان يحظى بالحرية بمجهوده الدنيوي الأرضي الخاص.

هنا في هذا المسلسل ولدى هؤلاء المقاومين القدرة على النضال من أجل حياتين بالتساوي، الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهم يفعلون ذلك بذكاء واجتهاد وإيمان وثقة.

في زمن المدّ الثوري كان للثورة وللثوريين مواصفات معينة كنا نقتدي بها، فالثوري هو إنسان إيثاري يعمل لصالح شعبه ووطنه وأمّته وللإنسانية بشكل عام أكثر من عمله لصالحه الفردي الشخصي الخاص، وهو الإنسان الذي على استعداد تام بأن يضحّي بأغلى ما عنده من روح ومال ووقت من أجل هدف سامٍ يقود الى الحرية والتحرر، وما الثورة الا مكانا نلجأ إليه لأنه سيوفر لنا العدالة والأخلاق والمساواة واسترداد الحقوق المسلوبة، وما الثوري الا إنسانا متحررا عقليا وجدليّا ومنفتحا على أفكار الآخرين، يؤثر ويتأثر، وهو إنسان مثقف وواعٍ ونظيف وغير عنصري ويحارب ضد الاحتلال والعنصرية.

ومن هذا المنطلق فقد حدث انحسار جذري للثورة وللثوار، وجاء المدّ الاحتلالي الاستعماري بأشكاله العصرية والتكنولوجية، فزادنا شعورا بالإحباط والعجز، فقَضيّتُنا الفلسطينية الأم، والقلب النابض لكل أخلاقيات الثورات العربية والعالمية، تحوّلت من قضية تحرير أرض، الى قضية مساومة ومفاوضات، ومن قضية عربية الى قضية فلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، بينما باقي الدول العربية بحكامها وشعوبها انكفؤوا على أنفسهم بحجة أنهم يريدون بناء كياناتهم الخاصة على انفراد، حتى ولو كان ذلك من خلال اللجوء الى التطبيع الاقتصادي والثقافي والسياسي مع العدو.

قد تتساءل عزيزي القاريء، ولكن ما علاقة كل ذلك بمسلسلين تلفزيونيين رمضانيين؟ والإجابة بسيطة، فأحدهما يعيد تسليط الضوء على "ألف باء" القضية الفلسطينية وهو مسلسل "في حضرة الغياب"، والآخر وهو مسلسل "الغالبون" يعيد تذكيرنا بأن العربي اذا توفّر لديه الشعور بالعزة والكرامة والعقل المتنور والذكي يستطيع ان يعيد صفاته الثورية المذكورة أعلاه، وأن يعاد للثورة معناها الحقيقي، وهذا مهم في زمن المدّ الثوري الحاصل في عالمنا العربي.

والآن الى مسلسل "الغالبون" الذي نحن بصدد نقده. هذا المسلسل يتطرق الى تكثيف عمليات المقاومة ضد المحتل الإسرائيلي للبنان بعد اجتياحه سنة 1982. تم تصوير المسلسل في نفس المواقع التي دارت فيها أحداث المقاومة في الجنوب اللبناني، واستغرقت عملية تصويره ستة اشهر.

المسلسل من انتاج: "مركز بيروت الدولي"، تأليف وسيناريو: فتح الله عمر، مخرجه الفنان الفلسطيني القدير المقيم في سوريا "باسل الخطيب"، ويقوم بالأدوار ممثلون من خيرة الممثلين اللبنانيين، وأناس ربما غير ممثلين محترفين او ليسوا ممثلين على الإطلاق، ولكنهم مثّلوا بشكل مقنع جدا وبصدق وعلى أحسن وجه، ومنهم من لم نسمع عنهم ولم نشاهدهم سابقا، ولكنّ صدق أدائهم وطريقة إدارة المخرج لهم جعلهم لا يقلّون قدرة عن الممثلين المحترفين، وكانت وجوههم "فوتوجينكيّة" رائعة. ومن الأسماء الرئيسية لأبطاله نستطيع ان نلاحظ الخلطة الحقيقية لممثلين من جميع الأديان، يقومون بأدوارهم على أحسن وجه، وخلال تمثيلهم لا نستطيع معرفة مرجعيتهم الدينية او اللادينية، بالرغم من أنّهم يشاركون في مسلسل عن المقاومة الإسلامية الشيعية، مثل: طوني عيسى، مازن معضم، احمد الزين، عبد المجيد مجدوب، عمّار شلق، بيار داغر، وفاء شرارة، مجدي مشموشي، دارين حمزة، قاسم اسطمبولي، ختام اللحام، فؤاد شرف الدين، بيار جماحيان، يوسف حداد.. وغيرهم.

إنّ الممثلين الذين قاموا بدور المقاومين والناس البسطاء العاديين يشبهون من يمثلّون في عظمتهم وحضورهم وهيبتهم، والممثلون الذين قاموا بدور عملاء وأعداء لبنان جسّدوا أدوارهم بشكل أقنعنا بمدى لا أخلاقية الشخصيات التي يقومون بأدائها. وهذا يدل انه عندما تتاح للممثلين اللبنانيين والعرب الفرص المناسبة، فإنهم يقدّمون إبداعاتهم بأبهى صورة وبأعلى أداء. انهم محترفون وذوو قدرات فنية مقنعة ورائعة. لقد كان المسلسل في مستوى الحدث من ناحية المضمون وأرقى منه في جمالياته الإبداعية الأدائية والتقنية.

لقد تمثّل ذلك من خلال تمكن المجموعة ابتداء من القائد الأعلى وانتهاء بأقل مساهم معهم، من تنفيذ جميع الأدوار بذكاء وبإقناع وبمنطق. في الوقت الذي استطاعت المقاومة ان تنفّذ وتخطّط لجميع العمليات والقيام بجميع الأدوار المنوطة بها، فهكذا أيضا سما أصحاب المسلسل في عملهم أيضا بنفس المستوى من الأداء. ليس سهلا ان يكون المقاوم متفهّما بذكاء لنفسية وشخصية الإسرائيلي، وليس سهلا أيضا على القائمين على المسلسل بالقيام بهذه المهام، ولكن بوسائل فنية عصرية وإبداعية.

إنّ الجانب الأخلاقي والإنساني والثوري هو ما يجعلنا نقتنع بأخلاقيات ما عرضه هذا المسلسل، بالرغم من تحفّظاتنا على وعظيته الدينية المباشرة، والمبرّرة من قبل الذين تدور حولهم القصة بأنهم يمثّلون المقاومة الإسلامية الشيعية، وهو لا يستطيع ان يعكس الا معتقداتهم وتقاليدهم وطريقة عيشهم وملبسهم وعاداتهم. ما يشفع وبقوة للأخلاقيات التي يبشّر بها المسلسل من ناحية المضمون هو الصراع بين الأخلاق واللاأخلاق، بين العقلية الميكافيلية الدموية الإسرائيلية من جهة، وبين العقلية التضحويّة الإنسانية للمقاومين من أجل هدف سامٍ من جهة أخرى، مما أظهر الصراع، ليس صراعا مسلحا فحسب، بل أيضا صراعا أخلاقيا.

انّ السرّ في مهنيّة هذا المسلسل هو قدرته على محاكاة المقاومة الحقيقية الصادقة، بالرغم من صورتها الخارجية كشكل لمقاومة دينية، فجماليته الفنية العالية، وإنسانية شخوصه، استطاعتا أن تساويا في القيمة بين الشكل والمضمون. لقد انخلعت الصورة النمطية التي كنا نخزّنها في وعينا عن الزيّ الديني الأصولي الذي تلبسه نساء وفتيات الشيعة وشيوخهم أمام اهتمامنا بانكشاف دواخلهم الإنسانية وإنسانيتهم السامية، ما حوّل الأزياء الخارجية والمظاهر العامة في نظرنا الى شكل ظاهري لا يدل على جوهر الإنسان الحقيقي، فانكشف جمالهم الإنساني الداخلي، فأطاح ذلك بفكرنا المسبق عن شكلهم الخارجي التقليدي الديني الأصولي.

ولكن السؤال المطروح بجدّية هنا من قبل المؤمنين بالفكر التقدمي الثوري الذي تربّينا عليه هو: كيف تتلاقى مقولة "الدين أفيون الشعوب" مع مقولة "مسلسل ديني فنّي"مقبول، أناسه لا يتعاطون الأفيون ولا المخدرات او المشروبات الكحولية ولا يدخّنون؟ تساؤلات قد تثير تفكير المثقفين التقدميين الثوريين. هل الدين كشكل مرتبط بالحياة المدنية الدنيوية قد يتناقض مع تفكيرنا عندما نربطه بالإيمان الغيبي الذي يشكل نقطة خلاف؟ هل ديانة معيَّنة تَحْصر نفسها في معتقدات حزبية سياسية وسلطوية يمكن أن تكون قاسما مشتركا بين جميع البشر الذين قد ينتمون بفكرهم وعقائدهم الى ديانات أخرى او قد لا يؤمنون بأية ديانة تشكّل عائقا أمام قبول الفكر المحدود في آيديولوجيا منغلقة على قوانينها الخاصة، والتي قد تشكل عائقا أمام من يودّون الانتماء الى البشرية كفكر عام وطني او اشتراكي او دنيوي مختلف عن توجّهاتها؟ ام سيظل الدين افيونا للشعوب لأنه يبقيهم متعلّقين بالماضي وبالغيبيات بدلا من تخصيص جلّ طاقاتهم في التقدّم نحو المستقبل؟ عندما نتظلّل جميعا تحت مظلّة حكم مدني يستوعب الناس على ما هم عليه، فهل هذا يشجّعنا على الاقتناع بمقولة أنّ المشترك بيننا أكبر بكثير مما يفرّقنا؟

لم يكن توجّهي هذا المدعوم بهذه التساؤلات عبثيا، بل كنت قد طرحت تساؤلات أخرى ولم أتلقّ إجابة عنها.

لقد مثّلَتْ حرب ال2006 نموذجا عينيا واضحا عن المواجهة بين المقاومة الإسلامية لحزب الله وإسرائيل، وهذه الأخيرة قائمة على فكر صهيوني عنصري يتّخذ من اليهودية شكلا آيديولوجيا لتبرير أحقية اليهود من مُنطلق سياسي سلطوي عقائدي على أرض فلسطين. هل على المقتنعين بأسلوب المقاومة الإسلامية ان ينتموا الى الشيعة كي يصبحوا جزءا مقبولا من المقاومة، ام انه على المذاهب والديانات الأخرى ان تشكّل أحزابا دينية فتتّحد فيما هو مشترك بينها وبين حزب الله كي تستعمل هذا النوع من أسلوب المقاومة ذات الطابع الديني، وفي هذه الحالة قد نصبح مجموعة من الديانات المتّحدة من أجل المقاومة ضد الاحتلال والظلم والعنصرية؟ أَلَم تكن المقاومة الفلسطينية اللبنانية العربية ما قبل حزب الله متوحّدة حول فكرة النضال من أجل فلسطين كقضية أخلاقية غير دينية بل إنسانية ووطنية وقومية عامة للعرب وللأمميين من كل العالم الذي يودّون دعمها والانضمام اليها؟ أين هي هذه المقاومة، وإن وُجِدت فهل هي تعمل بنفس المستوى من السرعة في الحركة والتخطيط والتنفيذ والتأسيس المتين كما المقاومة الشيعية؟ هل المدّ الديني الذي واكب فترة انحسار اليسار العربي الثوري وسقوط الاتحاد السوفييتي الذي أشعرنا بأننا ضعفاء وفي الحضيض ما جعل النضال يبدو دينيا او يجب من خلال معادلة التشبث بالمعتقد الديني المرتبط بمبدأ الشهادة والموت من أجل نيل الجزاء الأكبر في الآخرة هو ما يبرر ما نحن عليه الآن؟

لو لم أذكر أنهم مقاومون من حزب الله او من حركة أمل، فهل هم أقل من المقاومين الثوار الذين تثقفنا عليهم أيام ثورات الشعوب ضد الظلم والاحتلال والاستبداد؟ كل شيء فيهم هو مشترك مع ثوار العالم سوى أنهم يبدون أنهم يستقون قوتهم من إيمان ديني معين ذي مرجعية محدّدة مرتبطة بالأصل الممتد الى أعماق الماضي. لقد لفت انتباهي شاب عالم في السياسة بقدر علمي في علم النجوم عندما قال لي:" هل الشيعة هم الشيوعيون؟"
كنت قد وجّهت عبر البريد الألكتروني رسالة الى موقع المنار أعبّر فيها عن إعجابي بالأسلوب وبالذكاء وبكمية المقاومة بكرامة وشهامة أمام العدو الإسرائيلي، وأنّ هذا الاحترام فرضته المقاومة فعلياً على الأصدقاء والأعداء وجعلتهم يعترفون به، ليس لأنها متّهمة بالهجوم على إسرائيل، بل لمجرّد أنّ لديها الحق بالدفاع عن لبنان، بينما انا كفنان لم أكن أرى في توجّههم الميديوي بالاهتمام في الفن كوسيلة حضارية راقية تعبّر عن سموّ فكر المناضلين والموجودين في فترة حروب، كما فعل الغربيون في موسيقاهم وسيمفونياتهم التي شكّلت عاملا مهمّا لتهدئة الشعب والتعبير عن دعمهم له فنيا وإبداعيا، ولم نجد هنا سوى أغانٍ لجوقات تقدّم فقط أغانٍ تحريضية مباشرة تابعة للمقاومة الإسلامية تخدم هدفا سياسيا تحريضيا ولا تهدف الى رفع الذائقة الفنية لدى السامع والمشاهد للأداء، ولا ترقى بألحانها وتركيبتها الفنية الى مستوى الأغاني التي تعطي الحق الكافي للفن والأداء والإبداع ولا توازن بين الشكل والمضمون، ولم تكن بالمستوى الفني الحرفي لموسيقيي وفنّاني لبنان الذين من المفروض أنّ إسرائيل تعتدي على بلدهم جميعا وليس على جزء منهم. قد يدّعي أحد القول بأن هدف هذه الأغاني خدمة مرحلة وزمن معين في لحظة وقوعه، وتكتفي بكونها شعارات محرّضة كما الحال في أهازيج المظاهرات، وقد يدّعي مدّعٍ بأنّه في فترة الحرب فإنه لا صوت يعلو على صوت الرصاص والسلاح. وسألتهم: لماذا لا تبثّون أغانٍ لوديع الصافي لها علاقة بحب الوطن والجنوب ولبنان، مثل أغنية "ألله معك يا بيت صامد في الجنوب"، "بيت بالجنوب"، "بلادي بلادك"، "يا مخلّد التاريخ يا لبنان، "لبنان يا قطعة سما"، "سيّجنا لبنان" و"أنا لبنان"، "صرخة بطل"؟ او أغانٍ لفيروز مثل "بحبّك يا لبنان"، "سنرجع يوما الى حينا"، "أغنية "اسوارة العروس مشغولة بالذهب وانت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب"، "لبنان الأخضر"، او أغانٍ لجوليا بطرس مثل:" ثوار الأرض"، "وين الملايين"، "نحنا الثورة والغضب"، "غابت شمس الحق"، وبشكل خاص أغنية "أحبّائي" التي أُخِذت كلماتها من رسالة السيد حسن نصرالله الى رجال المقاومة؟ او أغانٍ لماجدة الرومي مثل أغنية "تعال نقبّل تراب الجنوب"، "قوم تْحَدّى"، "عم بحلمك يا حلم يا لبنان"، "لبنان قلبي"، وأغانٍ لمارسيل خليفة مثل "إنّي اخترتك يا وطني حبّاً وطواعية"، "منتصب القامة أمشي"، " أرض الجنوب"، "يا طير الجنوب"؟ وغيرها المئات من الأغاني الوطنية المعمولة بشكل فنّي راقٍ وعالمي، وغير المذكورين أعلاه كثيرون من المطربين والفنانين اللبنانيين الوطنيين الذين يعبدون لبنان بعد الله، لا يتسع المجال لذكرهم هنا. لم أستطع التمييز ان كان في حال الإجابة عن هذه الأسئلة علاقة بالأمور الحزبية او المواقف السياسية او المعتقدات الدينية التي تحول دون إظهار المشترك الكثير بين المقاومين اللبنانيين على اختلاف مشاربهم وألوانهم ومعتقداتهم.

وبالرغم من كل ما ذكر سابقا فقد فرض المقاومون احترامهم على العدو قبل الصديق لأنّهم تمتّعوا بميزات يتمنى العدو ان يمتلكها كي يرقى بنفسه الى المزيد من القوة والأخلاق، ويتمنّى الثوريون الحقيقيون أن يتّبعوها في القدرة على تحويل التخطيط الى التنفيذ، بصدق، بدقة، بسرعة، بحذر، بشجاعة، بإيمان، وبالتغلّب على نظريّة العدو المرعب الذي لا يُقهر. كل هذه الصفات غابت عن الثوريين الحقيقيين لفترة طويلة بعد المدّ الكثيف للهزائم المتتالية للإنسان العربي ولحكّامه، ولشعوره بالضعف والعجز أمام حنكة العدوّ وقدرته على مجاراة التطوّر العصري السريع وتفاعله معه والتأثير فيه.

تعلّمنا من هؤلاء المقاومين بأن الحذر واليقظة منافيان للفلتان، وانّ التنظيم الدقيق والمحكم منافٍ لفلسفة "معليش".." "بيهمّش".. "بتهون".. "أنا آسف"، "اللي من ألله مليح"، "ألله يستر". وان سرعة الحركة في الهجوم والانسحاب ليست كالتهوّر والهزيمة، وان الاستشهادي ليس هدفه الوصول الى الجنّة بقدر ما هو حاجته للانتصار على الأرض كي يكون نصيبه الجنّة، بحيث لا ترسل المقاومة أبناءها للاستشهاد لمجرد الموت والوصول بأسرع وقت الى الجنّة، بل من أجل تحقيق هدف نبيل هنا قبل الذهاب الى هناك، وأن المهم هو التأنّي في التخطيط والسرعة في الأداء، وليس الجعجعة المكشوفة والتهوّر عند التنفيذ وعند اتخاذ القرارات، وأنّ التباطؤ في الأداء في زمن عصر السرعة أصبح يعدّ جريمة وهزيمة أخرى تُضاف الى سائر الهزائم، وأنّ الوعي الإعلامي لدى المقاومة بإيصال الرسائل للإسرائيليين بوضوح أكثر أثرا ونتيجة من الجعجعة والخطابات الرّنانة، وأنّ الرقيّ في تفكيرنا الحضاري والعلمي من أجل استغلال ثورة المعلومات لصالح ثورات العرب أصبح أمراً ضروريا من أجل تغيير الموازين.
لقد بدت المقاومة بسيطة وأناسها طيّبون وأذكياء ومخلصون، ولكن في المحصّلة هي مقاومة سهلها ممتنع وفعلها كبير وبدون شعارات طنّانة، او جعجعة بلا طحن عند الفعل والمواجهة. إنهم أناس إنسانيون وليسوا "أرقاما من الإرهابيين الذين يجب إبادتهم بدون دفع اي ثمن او تكبّد اي خسائر"، كما يظن الإسرائيليون والأمريكيون وسائر الأعداء.

وبالرغم من سيئات الحرب بشكل عام إلاّ أنّ لها بعض الحسنات، لأنها كما جاء على لسان الحج أمين في المسلسل: "من حسنات الحرب أنها محكّ عنيف لمواقف البشر، فهي تفرز الشجاع عن الجبان والشريف عن الوضيع، وبتجمع كل الناس وبتعملهن عيلة واحدة".
جهاز المخابرات لا يقل اهمية عن العسكريين:

الاعلام يضخّ معلومات مكثّفة عن قدرة أجهزة المخابرات الإسرائيلية على اختراق العرب ومؤسساتهم ومنظّماتهم وأنظمة حكمهم وشعوبهم، وكانوا يقرنون ذلك بالتنفيذ الفعلي من خلال عمليات الاغتيال والتسميم والاستعراب (استعمال أسلوب فِرق المستعربين، أي الصهاينة بلباس عربي للتمويه والغدر) والاعتقال والإسقاط في السجون عن طريق "العصافير" او عن طريق التعذيب، وهي بالطبع أساليب "ميكافيلية" تتنافى مع الأخلاقيات الإنسانية، ولكنها تصب في فلسفة ان الغاية الشريرة تبرر الوسيلة القذرة، ولكننا لم نسمع العكس لا نظريا ولا عمليا من قبل المنظمات والدول العربية، وهو ما زرع فينا الشعور بالخجل والفَلَتان والإحباط والعجز والغباء المخابراتي، ولأول مرّة نسمع عن عمليات تجنيد إسرائيليين في جهاز مخابرات المقاومة اللبنانية، وإنْ دلّ ذلك على شيء فهو يدل على التخلص من عقدة الشعور بالنقص، وأنّ الإسرائيليين أكثر ذكاء من العرب، وأنّ التخلص من عقدة الخوف مرحلة مهمة لا بدّ من اجتيازها. لقد اعترف الإسرائيليون رغم أنوفهم أمام الملأ أنهم يواجهون نوعا جديدا من القتال، وأنّ صورتهم كأقوى دولة وأقوى جيش في المنطقة تزعزعت. ولدى الإسرائيليين الحق في التنبّه لمقولة أحد قادة المقاومة عندما قال: "إسرائيل مش لازم تخوّفنا لأنّه ما عاد فيها إشي يخوّف". ويقول الشيخ راغب حرب: "الناس تجاوزوا مرحلة الخوف".

وأمّا القائد الإسرائيلي فيقول بالمقابل: "كأننا نقاتل أشباحا". أصبحت العين الساهرة تخيف الإسرائيليين وتجعلهم ينْزلون عن شجرة "القوة الباطشة" التي يجلسون فوقها. أصبح صراع العقول لا يقلّ منْزلة عن الصراع المسلّح. أصبح المثل الشعبي القائل: "نتغدّى فيهن قبل ما يتعشّو فينا" هو لبّ هذه الفلسفة. انه صراع العقول قبل ان يكون صراع الهذيان والغيبيات والتمنيات، وليس صدفة ان الغرب أطلق على جهاز المخابرات اسم جهاز ال: intelligence اي جهاز الذّكاء.

لماذا انتصرت المقاومة؟

هنالك عوامل أدّت الى انتصار المقاومة لم يكن أساسها ديني بحت، ومن هذه الأسباب:

1. وجود جبهة من الداعمين للمقاومة أمَدّتها بالعون والسلاح والمعنويات كي تستطيع القيام بمهمتها التاريخية المصيرية في هذه الحرب، ومنها: الدعم الإيراني والدعم السوري.

2. الإيمان الصادق للمقاومة الشيعية بهدفها الذي تسعى من أجله، ولأنها- وهذا مهم- اعتمدت على قيادة واعية ذكية وصبورة ومستعدّة أن تتحمّل كل أنواع العذاب والصبر، وتمكّنها من العضّ على الأصابع لآخر لحظة.

3. التقارب المصيري الذي حدث بين تيارات لبنانية تؤمن بالحاجة الى المقاومة كوسيلة بديلة -ولو مرحليًا- لدور الجيش اللبناني الضعيف الذي لا يستطيع ان يقوم من الناحية التقنية البحتة بدور المقاومة، وأهمّها التحالف مع التيار الوطني الحرّ وجماعة الثامن من آذار.

4. عوامل وظروف توازنات دولية وعربية طرحت نفسها بشكل واضح في الصراع الدامي والعنيف والميديوي والتحزّبي بين فئات لبنانية تفضل الاحتماء بمبدأ "التّقية العلمانية" عن طريق مسايرة أمريكا وإسرائيل كي نسلم شرّهما او التعامل معهما لأنّ شرّهما –كما يفكّرون- أقل سوءا من الشيعة وإيران وسوريا ومن يشدّ على آباطهما، هذا من جهة، وبين فئات، وبضمنها المقاومة، ترى أنّ القضية هي مسألة صراع وجود، وهي لا تتوانى من أجل ذلك بتقديم الغالي والرخيص كي تحافظ على بقائها.

5. تشكيل المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي كساحة قتال معاونة على قوة الردع المطلوبة ضد هذين الاحتلالين مما خفّف من عبء تحمّل ضغط الاحتلالين على الطرفين.
شيء ما للاستفهام عن الطرح العام:

التشكيلة العامة للمسلسل حوت بداخلها جميع ألوان طيف الشعب اللبناني، وقد توحّدوا معا وقاوموا سوياً من أجل إنجاز رسالة سياسية مضمونية إبداعية فنية معينة، وأدّوها على أحسن وجه، ولكن كل ذلك من أجل دعم فكرة مركزية وهي أنّ جميعهم يؤدّون ذلك تحت راية المقاومة الشيعية الإسلامية. هل ما لم تفعله المقاومة في حربها الحقيقية مع العدو بأن تضمّ الى صفوفها مقاتلون غير شيعة وجدت أنه من الممكن فعله في شكل تعبيري فنّي ميديوي من خلال مسلسل يتخلله الوعظ الديني المباشر؟ إنّ الوعظ الديني المباشر في المسلسل يؤكد أنّ قوة انطلاقه وقوة انطلاق شخصياته نابعة من هناك، وهذه نقطة قد تفرض على عقلية المشاهد أنّ ممّا نريده منك في المحصلة هو أن تعترف بأن هذا الشكل من "المقاومة الإسلامية" هو ما نريد ان نعمّمه. صحيح أنّ دور المسيحيين والآباء الروحيين المسيحيين في الجنوب احتضنوا المقاومين والجرحى في المسلسل وفي الواقع، وصحيح أنّه خلال المسلسل جرى التنويه الى أنّ الدين الإسلامي والدين المسيحي من الممكن ان يلتقيا على كثير من المباديء وبضمنها حق المقاومة، إلاّ أنّ ذلك جاء بشكل عابر-بالرغم من الصّدق الكامن فيه-، وبدا كأنما هو من باب "رفع العتب".

عندما يستنتج الرسام في أحدى خيام معتقل أنصار أنه بعد كل ما حدث فهو أصبح على قناعة تامة بأنه سيصبح مؤمنا ومتدينا- وهو ما لا يختلف عن موقف الفنان المسرحي اللبناني "روجيه عسّاف" الذي اعتنق الإسلام الشيعي كطريقة حياة بديلة لدينه السابق- ما يوحي بأننا من الممكن ان نتنقّل بعضويتنا بين أنواع المذاهب والديانات الموجودة، وهذا في المحصلة سوف يبقينا داخل أسوارها المغلقة.

كانت خلطة الممثلين والمشاركين بشكل عام من أناس من أبناء شعب واحد بدون ان تعنينا خلفياتهم الدينية في حياتهم اليومية كممثلين او كمشاركين في المسلسل، إلاّ عندما تفضحهم أسماؤهم، ف"طوني عيسى" لا يمكن الا ان يكون مسيحيا، وهو الذي يقوم بدور البطولة في مقاومة من الناحية التوثيقية التاريخية الآيديولوجية تقوم على مبدأ إسلامي شيعي ديني. هذه الخلطة كان فيها من الثورية أكثر من ثورية المقاومة الحقيقية ذاتها التي قامت على شكل أناس ينتمون لها من باب انها تَعِظ لدين او لمبدأ او لمذهب ديني معين، علما بأن القيم التي يضخّها هذا التيار هي سامية وراقية وإنسانية وثورية، ولكنها لم تفلح في ضم كل فئات الشعب إليها منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا، وقد طالت المدّة أكثر من ثلاثين سنة، بدليل انها بقيت مقاومة إسلامية شيعية، فهل كل من ينضم لصفوفها عليه اتّباع المذهب الديني ذاته؟ أم عليه هو بالموازاة أنْ يوجد مقاومة مسيحية او درزية تحاول كل منها أن تعظ بالدروس الآيدلولجية للدين المسيحي وللدين الدرزي، وعندها لن نخرج من دوامة الانتماء الديني المحدود بدلا من الانتماء الى الوطن الرحب؟

من الممكن أن تتكامل نظريتنا الثورية التي تربّينا عليها عندما يتلاقى أبناء الشعب الواحد او الأمة الواحدة تحت سقف الثورة التي تجمعهم تحت سقف الوطن وليس تحت سقف فئة معينة او دين معين. عندها يكون منطلقنا الثوري أسمى وأكثر نضوجا واكتمالا وأسمى هدفا وأكثر وحدة وقوة، وما دامت الظروف هنا سمحت بأن تكون المقاومة إسلامية شيعية فهل من الخطأ تحويلها في المستقبل الى مقاومة لبنانية لجميع اللبنانيين او مقاومة عربية لجميع العرب بالتغاضي عن محدودية منطلقاتهم الدينية او الفئوية، فكما يكون الجيش في أية دولة طليعية ممثلا لكل الشعب، كذلك يمكن أن تكون المقاومة التي تدّعي أنّ وظيفتها أن تكون الساعد الأيمن للجيش أن تكون مكوّنة من ثوريّي الشعب. هل ستحدث هذه القفزة في المقاومة اللبنانية أم ستتطور المقاومة ولكن في نفس شكلها الحالي؟ لقد عانينا نحن الفلسطينيين من نفس المعضلة، فبعد ان كانت المقاومة فلسطينية أصبحت مقاومة "إسلامية حماسية"، بينما كانت جميع المقاومات سابقا على اختلاف آيديولوجياتها ومنطلقاتها الفكرية منضوية تحت اسم المقاومة الفلسطينية، وليس حصرها بدين معين او بمذهب ديني بعينه.

وأخيرا، استغربت من ضعف اللهجة والنطق بالعبرية لدى الممثلين الذين قاموا بدور الشخصيات الصهيونية، وإذا كانت المقاومة قائمة على الدقة، والمسلسل قائم على الجمالية والدّقة، فإن المخرج قد فوّت فرصة الاستعانة بفلسطينيين يتقنون العبرية أفضل من الإسرائيليين، وهم موجودون بوفرة، كي يدرّبوا الممثلين على النطق السليم، ما يضيف من سحر التطابق في المستوى الرّاقي في الدّقة بين المقاومة الدقيقة على أرض الواقع وبين مَن يمثّلونها في المسلسل. ألا تعظ المقاومة والمسلسل بضرورة فهم عقلية العدو من منطلق مبدأ: "إعرف عدوّك كي تعرف كيف تتّقي شرّه"؟ وتحضرني هنا أول تجربة تلفزيونية رائعة بما يخصّ عنصر معرفة نطق لغة العدو بدقّة متناهية، ما قام به القائمون على مسلسل " الطريق الى باب الواد" الذي عُرض أيضا في رمضان الفائت، حيث أدىّ أدوار اليهود الإسرائيليين شباب من فلسطينيي ال48 الذين أدوّا النصّ العبري بسلاسة وبدقّة متناهية ملفتة للانتباه. ودعما لفكرتي حول أهمية الدّقة في النطق اللغوي للشخصيات كي تكون أكثر إقناعا وصدقا فإنني أقتبس مقولة جاءت من داخل مسلسل "الغالبون: "كل ما فهمنا الإسرائيليين أكثر كل ما عرفنا نقاط ضعفهن أكثر".

جملة ذات مغزى من "الغالبون:"سألوا آذار ليش ما بتيجي محل شباط قال: كل شي في وقته مليح".

راضي شحادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى