الثلاثاء ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم خضر أبو جحجوح

على طريق زرقاءِ اليمامة

يُضرب بزرقاء اليمامة المثل في حدَّة البصر، فيقال أبصر من زرقاء اليمامة، تلك الفتاة التي حولتها الرواية العربية القديمة إلى أسطورة، ونسجت حولها قصصا وحكايات يضرب بها المثل في القدرة على الرؤية من مسيرة ثلاثة أيام، حتى أبصرت الأعداء من مكان مرتفع، وهم يحملون أغصان الشجر التي تخفي مسيرهم، وتعمّي تقدُّمَهم، ولكنّ قومها قللوا شأنها، حيث لم يستجيبوا لها، ولسان حالهم يقول: ما بالنا نستجيب لخيالات امرأة واهمة، تزعم أن الشجر يسير نحونا، وعدونا قادم معها، وظلوا في استهزائهم حتى داهمهم العدو فجأة؛ فكان مصيرهم الهزيمة والموت، على عتبات الجهل، وسُررِ الاستهتار، ومزالق الغمط، ومهاوي الانتقاص، لأنهم - في حقيقة الأمر- لم يفتحوا لعقولهم منافذ البصيرة، ولم يستجيبوا لفطنة الزرقاء، وقدرتها على الاستبصار والاستنباط والحدس.

حقيقة زرقاء اليمامة خارج الإطار الأسطوري المنسوج حولها، فتاة ذات فطنة، وحدس، وقدرة على ربط الجزئيات، لاستشعار الوقائع التي يفترض حدوثها بعد عملية الربط، وفي صعودها مكانا مرتفعا زيادة في تسخير الوسائل لتسهيل عملية السبر، والاستنتاج، بعيدا عن التهويم والانسحاب السلبي، فتشكّلت لديها طاقة منحتها بصيرة نافذة، وبصرا حديدا، وقدرة على تركيب المتفرقات، وتحليل المؤتلفات، هذه القدرة ناتجة عن الخبرة المعيشة، الممزوجة بتراكمات معرفية، اكتسبتها من واقع البيئة التي تعيش فيها، وأثمرت فطنتها في تخصيبها، فاكتسبت الزَّرْقَاءُ بذلك كلِّه تميُّزا لم يتسنّ تحققه لدى طائفة كبيرة من أبناء قبيلتها، فاستحقت أن تكون نموذجا للمثقف المستنير في زمانها، حتى باتت أسطورة في الأزمان المتعاقبة. وأضحت معادلا موضوعيا للمثقف المستنير في حركة الشعر العربي المعاصر.

وما كانت الزرقاءُ لتتحول إلى تلك الأسطورة إلا بعد تحقّق واقعية مقولتها التي أنبأت قومها بها، وانتشار خبرها بين القبائل، التي بات لسان حالها يقول: لو أنّ قومها انتبهوا لقولها، واستجابوا لتحذيرها، وأنزلوها منزلتها التي تستحقها في مقام الصدارة والتكريم، ما آلت حالهم للموت بسيوف المفاجأة، ونبال الذهول، ورماح الغفلة القاتلة. وكأنّي بقبيلتها تقول: يا ليتنا سمعنا قولها، وما سخرنا منها.

وكم من زرقاء في زماننا سُمِلَتْ عيونُها، وشقّت جفونها، وقبلها رهنت في غيابة السجون، وعُذِّبَتْ لكبحِ صوتِها، وحوصرتْ لتعطيل رسالتها، بل قتلت، لأنّها خطرٌ على الذاهلة عقولهم، اللاهية قلوبهم، القاصرة تصوراتهم الذين لا تتجاوز أحلامهم بطونهم، وأمانيهم الزائفة كراسيّهم، التي أُجْلسوا عليها، فاستحوذت عليهم، فعميت أبصارهم، وغرقت عقولهم في مستنقعات الشهوة، وطمست بصائرهم وباتوا كالأنعامِ بل أضلّ سبيلا. أولئك السادرون في ضلالتهم حربٌ شعواءُ على ذوي البصائر النافذة من المثقفين المخلصين، الملتهبةِ قرائحهم بنار الحرص على شعبِهم، وحاضر أمَّتهم، ومستقبلها، وأولئك السادرون يسعون جاهدين بكل ما أوتوا من قوة - في أحسن الاحتمالات - لطمسهم بكل السبل والوسائل، - وفي أسوئها- لقتلهم والتخلص منهم.

وفي كون زرقاء اليمامة أنثى، عِبرةٌ تزيد المشهد قوة، تسلِّط أنوارها على بؤرة التفكير، حين يسأل سائل ولِمَ لَمْ يَكُنْ أزرقَ اليَمَامَة بدل زرقاء اليمامة، رقيقة العود، ممشوقة القوام، مهيضة الجناح؟ وإنّ من العرب من ليفضّل الرجال على النّساء، وهم كثر، وفي هذا إشارة إلى أن قوة الاستبصار، ونفاذ البصيرة لا ترتبط ارتباطا مباشرا بقوة البنيان، وسطوة الجاه، فكم من حكيم كان مُقْعَدا، أو مريضا، أو هزيلا أحمش الساقين، ولم يقلل شأن حكمته، ونفاذ بصيرته هزاله ومرضه. ولئن اجتمعت القوتان قوة المبنى الجسدي، ونفاذ البصيرة، زادتا المثقف قوة وسبرا واستبصارا، فلا ضير إذن في كون زرقاء اليمامة أنثى رقيقة، وإنّ من الإناث من لتفوق الرجال حكمة وبصيرة وقوة سابرة.

رسالة زرقاء اليمامة الثقافية أصبحت في زماننا أوسع، وأشمل، وأكثر قدرة على التأثير، وفي الوقت نفسه باتت الهجمات التي تطال المثقف المستنير، أقسى من سطوة التجاهل والسخرية التي ووجهت بها زرقاء، ففي زماننا يعتبر المثقف الذي يحمل مخزونا معرفيا، وقدرة على الاستبصار، صنوا لزرقاء اليمامة في ثوب معاصر، ولكنه يتميز عنها بامتلاكه تراكمات وتقانات، ووسائل تساعده على التواصل، والتوصيل، والتفاعل، والتأثّر، والتأثير. والتميّز، والتمييز، دون أن يدخل في حيز الأسطورة. ومع ذلك يواجه بسطوة دامية أقلها الاستهزاء، والسخرية، ومن مظاهرها الفارقة التجاهل المميت، والإقصاء القاتل، والقمع، والسجنُ، والترهيبُ، والترغيب، والاغتيال الجسدي والمعنوي، فإن أفلح المثقف – وهذا متوقع منه أحيانا - في صدّ محاولات الجاهلين من أهل السياسة المتسلطين، والصمود في وجهها؛ فإنه سيكون رائدا لمجتمعه وأمته يدقُّ ناقوس الخطر قبل وقوع الملمّات، وينثر بذور الأمل حين تصوّح زهوره في حدائق المتعبين، ويزرع بذرة الثورة حين تخمد نارها في قلوب المثبطين، ويرسم معالم الآتي في صورة تكاد تطابق واقعها المستقبلي، ليسهّل على مجتمعه تلمُّس الطريق الصحيحة، ووضع الخطط المرحلية المكافئة، واستخلاص العبر لتحقيق نتائجَ مشرقةٍ، كلُّ ذلك لا يتواءم مع السياسيين الذين ينمو وجودهم، ويترعرع مجدهم، في ظل التجهيل، والظلم، والقمع، ومدّ ألسنة العذاب، وسمل عيون القلب لكي لا يرى الحقيقة ناصعة واضحة، بل يراها في شكل مشوش يلفُّه الضباب، فيغوص المجتمع في وهدة التخلف، ودوامة التبعية.

وهنا يبرز دور زرقاء المعاصرة، وهي تتزيا في ثياب المثقف المتبحّر المستنير، لتتسامى على هزء المتنفذين في مجتمعها، وجهلهم المتأسس على مرضٍ، كان قديما الكبر والعُنْجُهِيّة، وحديثا الضعف والخور، وتكافح لنشر الوعي، ومفاهيم التطور والرقي، ونبذ الفساد، ونشر بذور الثورة، وتفعيل طاقات المجتمع المختزنة، فالمجتمع العربي يختزن طاقة حيوية ران عليها غبار الزمان كبتا وقمعا وترهيبا، وعطّل فاعليتها، وأطفأَ الوجهَ المشتعلَ منها النظامُ العربي المتخلف، فبقيت جذوةً تحت الرماد، لا تقوى النوائب على إطفائها؛ فهي طاقةٌ مشعّةٌ، تنتظر تهيئةَ المناخِ المواتي، والمسرّع المناسب؛ لتستعيدَ قدرتَها على التفاعل، وتخصيب جزيئاتها النّشطة في داخلها.

إنّ الثقافةَ تولّدُ طاقةً للغوصِ في أعماقِ المعطياتِ الواقعيّة والخياليّة، التي تمكّن الإنسان فردا وجماعة من سبر تجلياتها، والكشف عن روابط العلاقة فيما بينها للخروج برؤية مستخلصة من عمق البنية المكوِّنَة، التي تؤلف بين جملة العناصر الفكرية والشعورية المختزنة، هذه الرؤية الاستكناهية تكون كاشفة، سابرة، تقدم تصوّرا، وتصحيحا، وتقويما للمعطيات، والتصورات الآنية، وتحفيزا على الفعل، والتمدد نحو آفاق المستقبل، بخطوات وثّابة، تحقق الإنجازات بعيدا عن روح التقوقع، والانكسار، مع نبذ التكلّس والجمود، وثقافة الانكفاء والتردد التي تستدرج الفكر الفردي والجماعي نحو وهدة الانكسار والتلاشي، ومستنقعات التراجع والانهيار، والعيش على فتات الثقافات الهجينة، المسمومة، التي تتغلغل في البنية الفكرية والنفسية، وتدمّر طاقتها وقدرتها على النمو والتطور.

الثقافة بتلك المواصفات طاقةٌ مشعّة، والمثقف مُسرّع(#) يزيد قدرتها على الإشعاع، والانشطار؛ لتكون قادرة على التغيير، وإنّ من المثقفين من اتسعت دائرة معارفهم، ولكنّها خُصِّبَت بجرثومة الخمول، فتعادلت مع الوسط المحيط، الذي تتحرك فيه، فلم تعد قادرة على الانعتاق والانشطار، فبقيت حبيسة – وأصحابها- في قوالب الجمود، وزنازين التخلف. وأمثال هؤلاء يجدون مكان الصدارة في مجالس المتعبين، ومنتديات المتخاذلين، وقصور السادرين في الغواية، فهم، وأنصاف المثقفين، وأثلاثهم، وأرباعهم، وأخماسهم، وأثمانهم صنوانٌ(#)، في سدة الحضور، وصناعة القرار، وأحلامهم سراب، وأمانيُّهم أوهام، وأفئدتهم هواء، لا يشيرون إلا بما يرى مُقَرِّبوهم، الذين اتخذوهم خاصتهم، وفي الوقتِ عينه يغيّبُ المثقفون النافذة بصيرتهم، الثاقبة آراؤهم؛ لأنّ وجودَهم كفيل بكشف ضعف الضعفاء، وبيان مخططات الأعداء، وتصحيح الانحراف، وتلمّس مواطن الضعف، والمساهمة في تقوية البنيان، وزيادة تماسكه.

وإنَّ مجتمعنا العربي يحتاج إلى مزيد من الاهتمام بنماذج المثقفين السابرين الواقع، بمعطيات الوقائع، المستشرفين آفاق المستقبل بنظراتهم الثاقبة، ووضعهم في مكان الصدارة، والاحتفاء بهم، ودون ذلك ثورة يقودها المثقفون ذوو البصائر السابرة، والعقول النيرة، إذ لا يتوقع المثقفون أن يُقبِلَ عليهم الطغاة بالتقدير والتوقير، لوضعهم في مكان الصدارة بدل الأنصاف والأرباع، بدافع شخصي، ووازع من ضمير، وصحوة داخلية، فأمثال أولئك لا يتحركون خارج دائرةِ شهواتهم، إلا بدافع خارجي وقوة ثورية، مزلزلة، تتأسس على نويات فكرية تحمل بذور التغيير التدريجي يحقنها الفعل الثقافي المتراكم، الذي تتكاتف فيه جهود المستنيرين، وتتضامّ ضمن فعاليات تتغلغل في تركيب المجتمع الذي يعيشون فيه، مع ارتشاف رحيق الصبر، وشذا الثبات، مع قدرة على نبذ الأنصاف(#) والمنتفعين الذين ينحرفون عن درب زرقاء اليمامة الثقافي، الذي يتجاوز حدود الواقع المعيش برؤى استشرافية سابرة.

كما ينبغي على الأوفياء والمخلصين من صناع القرار تعزيز مكانة أصحاب الرؤى السابرة، والبصائر المستنيرة، والآراء الثاقبة، ومنحهم مكان الصدارة، فهم الحصن الواقي، والسد المنيع الذي يقي الأمة من ثقافة الهزيمة، وجرثومة الانكسار، وهم جسر التواصل بين عظمة الماضي وقوة الحاضرة ونهضة المستقبل، وهم نعم النذير والبشير في أزمان الشدائد والأزمات، وويل لأمة تركن للحظات سقوطها وضعفها، وتبني تصوراتها على نتاج حاضرها الواهن، فتخمد فيها جذوة الاستكشاف والاستبصار والتطلع لمستقبل مشرق، يقتضي بعدا في النظر، ورأيا ثاقبا ستار التوقعات، وسبرا للمعطيات لا يمتلكه سوى المثقفين، والعلماء الراسخين.

والضياع مصير أمة تهين مثقفيها الأوفياء وعلماءها الأنقياء، وتسدّ دونهم مسالك العطاء، وتكبل حرية الاستكشاف، وتقطع عليهم سبل الانطلاق والتحليق، وتهيل عليهم ركام الجمود، وتفتح - في الوقت نفسه - السُّبلَ أمام المنتفعين السطحيين المتخاذلين ذوي العقول الجامدة، والنفوس الواهنة، والخيالات الجامدة.

فلتُفْتح السبل لكل من يحمل رسالة ثقافية رائدة، يعتز بماضيه ويتجاوز لحظات الانكسار فيه، ويتأمل واقعه ويسعى جاهدا لتصويب مسارات ضعفه، ومن ماضيه وحاضره ومدارات تصوره الاستكشافية يؤسس لمستقبلٍ قويٍّ مفعم بالتطور والازدهار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى