السبت ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١

تأملات في السيرة الذاتية لعائشة عبد الرحمن

هدى قزع

عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» أمين الخولي

تحاول هذه المقالة المرور بالجسر الذي خطته بنت الشاطئ بين الحياة والموت، وهو جسر لا يمكن أن نعبره دون أن نستحضر شخص أمين الخولي أستاذها وزوجها المقرب إلى نفسها وروحها حسبما يستشعر أي قارئ للسيرة الذاتية لعائشة عبد الرحمن والتي جاءت بعنوان «على الجسر بين الحياة والموت»، إذ يمكن عدها سيرة وفاء وحب قبل أن نعدها سيرة تسجيلية لأهم محطات حياة كاتبتها.

فهذه السيرة مع صغر حجمها، إلا انها بدت موشحة بعاطفة حزن وحيرة تأسر القارئ وتجعله يتعايش معها وكأنه يحياها، أو يتمنى أن يحياها.

وأول ما يقف القارئ على أعتابه هو عنوان هذه السيرة المكتنز بالدلالات، فالجسر هو محطة كان لا بدّ أن تعبرها صاحبة هذه السيرة لتصل إلى من أتلفت روحَها في روحه، وحان حِمَامَهُ قبل حِمَامِها، ولم يبقِ منها حُبها له غير كآبة تبقيها مسمرة على جسرها، فلا هي في الحياة ولا في الموت، وإنما هي معلقة بروح من غيبه الموت واقعًا وبقي حاضرًا في ذهنها، وهي تتمنى بشاعرية تطغى على كل ممكن البقاء مع أمين الخولي بعد موته، وهذا لا يكون إلا باتصال عجيب في عالم الأرواح المحبة، أو بالموت الذي قد يلحقها به أو لنقل يجعلهما في عالم واحد.

لقد كتبت بنت الشاطئ هذه السيرة بعد عام من وفاة أمين الخولي، ومن الطبيعي أنها كانت مؤججة بمرارة الفقد ويأس الفراق.وقد أقبلت على تسجيل أثر لحظة الفقد على نفسها، لا تسجيل حياتها بمراحلها المتعددة، فأنت لا تخرج إلا بالقليل عن حياة هذه المرأة العالمة، في حين أنك تخرج بكثير من العاطفة والحب لشخص أمين الخولي وأثره في حياة كاتبة السيرة.

ويكفي المرور العابر بعناوين فصول جسرها _التي جاءت كما يلي: "على الجسر،: قبل أن نلتقي، في الطريق إليه، في منطقة الضباب، ظلال …وأضواء، موعدي معه، اللقاء، معا… علي دربنا الواحد، ثم مضى وبقيت، دنيانا بعده، كلمات للذكرى، و عود علي بدء" _ لندرك هذه الحقيقة.

لقد بدأت السيرة في بيان حياة بنت الشاطئ قبل لقاء أمين الخولي، وهي مراحل بدت عادية جدًا تصف حياتها الأسرية، وتعليمها الديني.

وأبرز ما يلاحظ على وصفها، حياتها البسيطة، و تشدد والدها وحرصه على تقاليد معينة، ومحاولة عائشة مجاوزة هذه التقاليد الخانقة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا في سبيل تحصيل العلم والرقي بالفكر والثقافة.

ويتجلى أن ما تحدثت فيه منذ بدء تعليمها، ومحاولتها التحرر من القيود، والكتابة تحت اسم مستعار، والدراسة التي أوصلتها للجامعة، وبساطة الريف الذي طالما حنت إليه وهي تعيش صراعها الجديد مع المدينة، ماهي إلا مراحل إعداد، للقاء أمين الخولي، الذي ما شعرت يومًا بغربته.

تقول: " … لمحت الأستاذ الخولي يتحدث إلى عدد من تلاميذه تحلقوا حوله يصغون في انفعال ظاهر. فدنوت منه لأسمع ما يقول، وكانت دهشتي بالغة حين ميزت في صوته العميق نبرة مألوفة، جعلتني أفكر متسائلة: أين ومتى ياترى سمعت هذا الصوت؟ نفس السؤال الذي طالما رددته في خاطري كلما لمحت هذا الأستاذ من بعد فلم أشعر قط أنه غريب عني، وانثنيت أفكر أين ومتى يا ترى لقيته من قبل؟ ".

فكيف ياترى كانت حياة عائشة قبل أن يجمعها القدر بأمين الخولي؟

ولدت بنت الشاطئ في نوفمبر من عام 1913 في دمياط في بيئة دينية أزهرية. ووالدها هو أحد شيوخ المعهد الديني بدمياط " الشيخ محمد علي عبد الرحمن " وقد كان يتمنى أن يرزق بولد، فلما رزق بعائشة وهي الابنة الثانية في العائلة نذرها للتعليم الديني.
وهو ما رضيت به عائشة بفطرة سليمة وفكر منفتح ، وذكاء وتميز علمي، جعل والدها يفخر بها ويصحبها معه في مجالس العلم والشيوخ ويسمح لها بالاطلاع على مكتبته الذاخرة بالعلوم الإسلامية.

وعن تلك التجربة المتميزة تقول عائشة " والدي ينتزعني من ملعب حداثتي، ويلزمني من قبل أن تحل عني تمائم الصبا، صحبته في مجلسه بالبيت، أو في مكتبه الجامع ( جامع البحر ) وكان يسميه الخلوة، ولعلي التقطت في تلك المرحلة المنسية بعض الآيات والصور القصار، من طول ما سمعته يتلو القرآن الكريم. والتقطت معها كلمات مما كان يتحدث به وزملاؤه وتلاميذه من العلم والإسلام ".

هذا الطريق الذي ابتغاه لها والدها وهو التعليم الديني، لم يكن باستطاعتها تخطيه إلا بعون جدها لوالدتها الشيخ الدمهوجي الذي جهد في إقناع والدها ليسمح لها بالانضمام مع رفيقاتها في التعليم المدني، وهو ما صار بالفعل حيث التحقت بمدرسة اللوزي الأميرية للبنات وحصلت منها علي الشهادة الابتدائية وأكملت بعدها طريق التعليم المدني حتى وصلت إلى أبواب الجامعة في عام 1935 بعيدا عن عين والدها الذي كان يرى أن في هذا النوع من التعليم سلوكا غير مقبول من ابنة الشيخ الأزهري.

والطريف حقا أن عائشة عبد الرحمن كانت تشعر دائما أن هناك قوى خفية تدفعها وتساندها على هذا الطريق الوعر الذي لم تكن لتسلكه من البداية.

وتقول " لم أكن أدري كنه هذه القوة القاهرة التي تدفعني إلى أن أحيد من الطريق الذي حدده لي والدي، وأعدتني له بيئتي، إلى ذلك الطريق المضاد الذي يصل إلى الجامعة وهي التي ينفر قومي من مجرد سماع اسمها، ويرثون لكل من جذبت إليها من الطلاب، وكأنها بدعة منكرة أو رجس من عمل حزب الشيطان ..".

وما يسجل لعائشة هو أن تعليمها الجديد لم يفقدها ثقتها أو يبعدها عن كنوز العلوم الإسلامية التي تلقتها في مكتبة والدها. فهي تساءلت في عامها الثاني من الحياة الجامعية عن العائد الذي ستحصل عليه من الجامعة وما هو الذي يمكن أن تقدمه لها الجامعة فيغير نظرتها لنفسها وللتراث الصلب القوي الذي تقف على أرضه قوية راسخة.

ومن المهم الإشارة أن هذا الموقف كان ماثلًا في عقلها قبل لقاء أمين الخولي، لكن يا ترى هل تمسكت فيه وقت إعداد السماء للقائها المرتقب به؟

تحدثت عائشة عن هذه الفترة، وقد وصفت بصراحة الغرور التي امتلأت نفسها به، وثقتها المطلقة بعلمها القديم الذي تعلمته، وأظهرت اكتفاءها بما امتلأت به من كنوز ومعارف، وعدم ثقتها بأن أساتذة الجامعة ومن بينهم أمين الخولي يمكن أن يضيفوا لها جديدا.

لقد قضت عائشة الصيف كله تستعد للقاء أمين الخولي في العام الجامعي الثاني متسلحة بذخائر مكتبة والدها وبلقائها مع الشيخ " دسوقي جوهري" الذي أزاح عن صدرها بعض مخاوفها من الحياة الجامعية ومن لقائها المرتقب بالشيخ أمين الخولي.. ومع بداية العام الدراسي الجديد عادت إلى العاصمة و"ملء نفسي تصور واثق بأني أدنو من منطقة الضوء التي تنجاب فيها عن أفقي ظلال القلق والحيرة، وتتضح معالم الطريق ". في هذا العام وفي يوم ميلادها كان اللقاء العلمي الأول ولدلالته سأثبته"هناك حيث أخذت مكاني في قاعة الدرس بالجامعة، متحفزة للجولة الباقية لي على الطريق، ومستجمعة كل رصيدي المتضخم من زهو الطموح و إرادة التفوق، ومتأهبة لعرض بضاعتي التي تزودت بها من مدرستي الأولى، في تحد واثق من النصر.. ودخل الأستاذ الخولي بسمته المهيب المتفرد، فألقى علينا التحية واقترح، لكي نتعارف، أن يعرض علينا مباحث المادة المقرر علينا درسها من علوم القرآن، ولكل طالب أن يختار مبحثا منها، يعده ويعرضه للمناقشة في الوقت الذي يحدده. وبادرت فأعلنت اختياري للمبحث الأول، في نزول القرآن …….وعاد الأستاذ يسأل كل طالب منا، عن الوقت الذي يحتاج إليه في إعداد بحثه فأجبت في عناد وشموخ: يكفيني يوما أو بعض يوم. فقال في نبرة إشفاق وتحذير: كذا فكري مليا فربما بدا لك أنك في حاجة إلى مزيد من الوقت. وأبيت أن أتراجع ….. وقلت أسأله، مدلة بما أملك من ذخائر علمه: هل يكفي أن أراجع في موضوعي، بكتاب البرهان للبدر الزركشي، وكتابي الإتقان واللباب لجلال السيوطي، ومع الاستئناس بالسيرة الهاشمية وطبقات ابن سعد وتفسير ابن جرير الطبري؟ فأجاب كتاب واحد منها يكفي الآن، لو أنك عرفت حقا كيف تقرئين".

هكذا كان اللقاء الأول الذي حاول فيه الأستاذ كسر شوكة الغرور من نفس ابنة دمياط التي علمت على وجه اليقين أنها "قطعت العمر كله أبحث عنه في متاهة الدنيا وخضم المجهول.. ثم بمجرد أن لقيته لم أشغل بالي بظروف وعوائق، قد تحول دون قربي منه، فما كان يعنيني قط، سوى أني لقيته، وماعدا ذلك، ليس بذي بال ".

إذن عاشت عائشة حياتها تبحث عن الشيخ أمين الخولي الذي صار منذ اللقاء الأول معلمها وأستاذها ونصفها الآخر الذي "تجلت فيه آية الله الذي خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها "… وأمضت حياتها الباقية تتساءل " أكان يمكن أن أضل طريقي إليه، فأعبر رحلة الحياة دون أن ألقاه؟ وحتى آخر العمر، لم يتخل عني إيماني بأني ما سرت على دربي خطوة واحدة إلا لكي ألقاه.. وما كان يمكن أن أحيد عن الطريق إليه، وقد عرفته في عالم المثل ومجالي الرؤى وفلك الأرواح من قبل أن أبدأ رحلة الحياة …".

وقالت: " على دربين متباعدين،
بدأت خطواتنا من قبل أن نلتقي
ولم يكن هناك أي احتمال للقاء...
فأحد الدربين يمضي بمعزل عن الآخر...
دون أن تبدو بينهما على مد الأفق نقطة اتصال
لا في الحقيقة والواقع
ولا في أحلام اليقظة ورؤى المنام
تباعد ما بيننا زمانا
وتباعد بيننا كذلك المكان...
وحين بدأت أخطو على دربي،
كان هو قد قطع شوطًا طويلًا في طريق لا يحتمل أن أطرقه،
وليست لدي أدنى فكرة عنه،
ولو على سبيل التصور أو الوهم...
وهناك،
على دربه البعيد عن مهد مولدي،
وقبل أن أخرج إلى الدنيا...
كان هو قد بدأ يقيم بناء حياته
دون أن يخطر بباله احتمال لتغيير جوهري أو تبديل وتعديل.
ودون أن يتمهل في انتظار ما لم يكن يتوقع
وهكذا بدأنا:
تفصلنا آماد وأبعاد،
كل في طريقه وعلى دربه...
لايدري عن الآخر شيئًا من قريب أو بعيد.
ولعل أحدهما لو سئل عن الثاني، لهز رأسه متسائلا في حيرة وعجب
من يكون؟".

ولا أغالي إن قلت إن ما سجلته عائشة يميز سيرتها بطابع قلما نجده في سير غيرها من النساء، فهي ظهرت بمظهر المرأة العاشقة لزوجها والمتفانية في علاقتها به بروح صوفية، ولم يكن أساس هذه العلاقة البعد الحسي فقط وإنما أخذ بعدُ العلاقة العقلية جانبا آخر لا يمكن الاستهانة به. "كنت أتمنى لو توقف الزمن، ليظل الأستاذ يتكلم، وأنا أصغي وأتعلم".

لقد روت عائشة قصتها في التعليم منذ طفولتها والعلاقة القائمة بين العلوم الدينية والعلوم المدنية التي عاشت في ظلها من خلال الرؤيا التي راودتها في طفولتها، والتي أهداها فيها ملاك مجنح مصحف شريف بينما هي جالسة في فصلها في مدرسة اللوزي الأميرية للبنات.

ولم تكتفي عائشة بالتعليم الابتدائي الذي حصلت عليه من المدرسة الأميرية وإنما تطلعت لأن تكمل تعليمها في المدرسة الراقية ومن بعدها مدرسة المعلمات في المنصورة وحلوان وطنطا، ولم تثنها المصاعب التي لاقتها في طريقها عن طلب العلم بل زادتها إصرارا وتشبثًا على التمسك بحقها في التعليم.

وهي لم تقتصر بطلبها للعلم على مدارس المعلمات ثم كلية الآداب من بعدها.ولكنها بالإضافة إلى ذلك خاطبت الصحف ووسائل الإعلام وأرسلت إليها عددًا من المقالات؛ وهي في البداية كانت تكتب نيابة عن جدها إلى الصحف تشكو وتحلل حال مدينة دمياط والخراب الذي حاق بها نتيجة تراكم رواسب النيل عند البوغاز. لكن هذه الصلة غير المباشرة بالصحف سرعان ما تحولت إلى صلة مباشرة حينما بدأت تراسل مجلة النهضة النسائية ومن بعدها مجلات البلاغ والكواكب تحت اسم "بنت الشاطئ "خوفا من أن يعلم والدها بأمر اهتمامها بغير الطريق الذي رسمه لها منذ البداية.

و لم يفتنها الجديد الذي تلقته في المدارس الأميرية ومدرسة المعلمات عن القديم الذي تلقته على يد أبيها من علوم الدين والقرآن والبلاغة وإنما سمح لها هذا القديم أن تتمايز عن رفقائها بإعدادها ومعرفتها القوية التي كثيرا ما ساعدتها في تخفيف بعض أعباء الاستذكار. وهكذا "مشيت على الدرب الوعر، فكلما قطعت شوطا منه تقدمت إلى امتحان شهادته خفية عن التقاليد الساهرة على حراستي كيلا أنحرف عن الاتجاه المرسوم لي.. وخفية كذلك عن الأوضاع الطبقية والنظم التعليمية واللوائح المدرسية، التي أقامت الحواجز والسدود، في طريق مثلي، إلى الجامعة".

تلك الجامعة التي وقفت عائشة على أبوابها عاما كاملا لدخولها، وحاربت لتلتحق بها، لم تستطع أن تقدم لها جديدا تنبهر به خاصة في العام الأول فالجامعة " عجزت في ذلك العام الأول عن أن تشدني إليها … والذي كنت أخشاه من ضغطة الصراع بين عطاء بيئتي وجديد الجامعة، لم يلبث أن انجلى عن معركة وهمية في منطقة السراب …".

لقد." عرضت الجامعة علومها إلقاء وترديدًا، بمنأى عن منافذ التأثر الوجداني ومداخل الاستجابة الروحية " وتطلب الأمر وجود الشيخ أمين الخولي في حياة عائشة عبد الرحمن العلمية حتى يتغير هذه الموقف السلبي من العلوم التي تقدمها الجامعة.

فبعد لقائها مع أستاذها عرفت عائشة أن الأمر يتطلب مجهودا كبيرا غير ما تعودت عليه من النظر في ظاهر النصوص دون محاولة سبر أغوارها وأنها لابد أن تنفق الليالي الطوال بحثا عن "سر الكلمة وروح النص …وانجلى ما حسبته سرابا، فإذا الجامعة تعطيني من جديدها ما لم يخطر لي قط على بال … وإذا القديم الذي جئتها به، يجلوه منهج الأستاذ الخولي فيمنحه روح الحياة ونبض العصر".

لقد بات منهج الخولي هو منهج عائشة عبد الرحمن حتى بعد تخرجها من الجامعة واشتغالها بقضايا الدفاع عن الإسلام، وهو أيضا منهجها الذي استخدمته في كتاباتها اللاحقة عن التراث واللغة والدراسات القرآنية.

هذا المنهج الذي كان حاضرا دائما جاء في كثير من الأحيان على حساب المسكوت عنه في نص السيرة الذاتية. فعائشة عبد الرحمن سكتت عن كثير من جوانب سيرتها غير ذات الصلة بمعركتها للحصول على التعليم أو بتحضير السماء لها حتى تلتقي بالشيخ أمين الخولي.

فنحن لم نعرف شيئا عن علاقتها بأخوتها أو بوالدها في غير أمور الدرس. كما أن سيرتها الذاتية توقفت بشكل مفاجئ بعد لقائها بالشيخ أمين الخولي وحتى استحضارها للحظة وفاته.
كل هذه المساحات المغيبة لا يمكننا أن نستنطقها ما لم تقلها صاحبتها. ولكن يحق لنا أن نتساءل لماذا غيبت كل هذا؟

لعلنا لا نجد بالسيرة الذاتية ما يسعفنا، ولكن من الممكن الاستعانة بما تناوله رجاء النقاش في كتابه "أجمل قصص الحب من الشرق والغرب" إذ أشار إلى ان عائشة عبد الرحمن عرفت بين الناس باسم "بنت الشاطئ" وبكتاباتها الرائعة عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ودراساتها الأدبية، وكتابتها الأخرى في تفسير القرآن الكريم.لكن هناك في حياة بنت الشاطئ قصة أخرى مثلت بشكل غير مباشر بالسيرة الذاتية. الأمر الذي أثار الدهشة فنحن نتحدث عن قلب امرأة جادة معروفة بتدينها بل وتعمقها في علوم الدين والأدب.إلا انها أحبت أستاذها في الجامعة_ أمين الخولي _الذي التف حوله كثير من التلاميذ والمريدين، وكان أستاذا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وهو أحد قمم الفكر والثقافة في مصر حينئذ، وصاحب الصالون الأدبي والفكري الشهير بـ"مدرسة الأمناء". وهذا الحب كان سببا للثورة على بنت الشاطئ، ومن أجله تحملت الكثير من النقد القاسي والمقاطعة التي أصر عليها بعض المقربين منها. وقد تعرضت لضغوطات كثيرة للتخلي عن حبها، ولكنها تمسكت بهذا الحب خاصة بعد أن بادلها أستاذها حبا بحب، وقد انتهت قصة الحب بالزواج، وكان الخولي متزوجا، فرضيت أن تكون زوجة ثانية، مع حرصهما أن تكون الزوجة الأولى في أكرم وضع وأن تحتفظ بكل حقوقها.

وقصة الحب هذه لم تمر بسلام، فقد كانت موضوعا للشائعات الكثيرة التي أراد بها بعض المنتقدين أن يسيئوا إلى بنت الشاطئ وزوجها.. بدأت القصة منذ التقت عائشة أستاذها وهي طالبة بكلية الآداب في جامعة القاهرة 1936، وكانت هي في الثالثة والعشرين من عمرها، والشيخ في الحادية والأربعين.وكان أمين الخولي عالما جليلا وصاحب ذكاء نادر وجاذبية عجيبة، ولكنه لسوء الحظ كان له أعداء كثيرون، وقد ظنوا أنهم وجدوا فرصة نادرة للتشهير به والإساءة إليه من خلال قصة حبه بتلميذته، فقد ظنوا في أول الأمر أن الشيخ يلهو بتلميذته ويستغل إعجابها الشديد به، ولكن المعركة انتهت بعد أن تزوجا.

ومنذ لقائهما الأول عام 1936 ظلت بنت الشاطئ وفية لحبها مخلصة له، حتى بعد وفاته كانت دائما تتحدث عنه وتعيش معه في الحلم واليقظة، وكتبت سيرتها الذاتية: لتقول فيها إن ما بقي من عمرها لا يعني شيئا سوى أنه مجرد "جسر" تعبر فوقه لتصل إلى الحبيب، وكتبت في مقدمة السيرة ::"كانت قصتنا أسطورة الزمان، لم تسمع الدنيا بمثلها من قبل، وهيهات أن تتكرر إلى آخر الدهر".

ثم كتبت " على الجسر ما بين الحياة والموت، أقف حائرة ضائعة في أثر الذي رحل، أطل من ناحية فأجده ملء الحياة، وألمح طيفه الماثل في كل من حولي وما حولي من معالم وجودنا المشترك، وأتتبع خطاه على دربنا الواحد، دفاقة الحيوية، سخية العطاء، وأميز أنفاسه الطيبة الزكية في كل ذرة من هواء أتنفسه، وأصغي إلى نجواه في الصمت وفي الضجيج، وفي سكون الخلوة، وفي صخب الزحام، وأطوف بأجواء عالمنا الرحب الذي ضمنا معا، فلا أتصور أنه الراحل الذي لا يعود ".

وقالت:"إلى أن يحين الأجل سأبقى محكوماً عليّ بهذه الوقفة بين حياة وموت أنتظر دوري في اجتياز الشوط الباقي في إثر الراحل المتيَّم. عليك سلام الله.. إن تكن عبرت إلى الأخرى فنحن على الجسر".

وما يؤلم أن "أمين الخولي" توفي فى عام 1966 بينما توفيّت "بنت الشاطئ" في عام 1998 أي أن انتظارها الوصول إليه طال لأكثر من ثلاثين عاما.

ومن شعرها الذي كتبته بعد رحيل زوجها مباشرة تحت عنوان "رؤيا":

طيف من أحببته طاف بنا
فتنبهنا على وقع خطاه
خلته قد آب من رحلته
مرهف الشوق وقد طال سراه
....
فجأة نبهنا من غفونا
رجع إيقاع أليف من خطاه
وتهادت نحونا أنفاسه
تحمل البشرى لنا،عطر شذاه
....
فاستبقنا الباب لاستقباله
وعلى الأفق شعاع من سناه
لمحة من ناظريه بدلت
ما كسانا الليل من ثوب عماه
لمسة ساحرة من كفه
عاد منها الكهف محراب صلاة
قلت: أشكو من تباريح النوى؟
قال: لا ؛ ليس ذا وقت الشكاه
حسبنا أنّا التقينا فاغفرى
لزمان البين ما اغتالت يداه
قلت: أخشى ما طوى من غدره
ليت ما ذقناه منه قد كفاه
قال: خلّى همّ أمس و غد
أمس قد ولّى ولم تأت الغداه
قلت: ما أدرى ؛ أحلم ما أرى
أم بعثنا..
وانتهى الصوت و تاه
وصحونا فإذا تلك رؤى
بعثرتها الريح في تيه الفلاه
وإذا نحن كما كنا هنا
في قرار الكهف لم تفتح كواه
نلعق المر ونقتات الجوى
عافنا الموت وعافتنا الحياة

ثمّ كتبت أبيات أخرى فى ذكرى رحيله بعد مرور عام على هذا الرحيل كانت نهايتها كالتالي:

هل مضى العام ومازلت هنا
أنقل الخطو ؛
على الجسر إليك؟
أبأنفاسك أحيا أم ترى
مات بعضي ؛
وبكى بعضي عليك؟

وقد سجّلت بنت الشاطئ سيرتها الذاتية الذي ضمّنتها قصّة تعليمها وعلاقتها بزوجها الراحل حتى نهاية الستينات، لكنّها توقّفت عندما مات ابنها الأكبر "أكمَل" وتوفيت ابنتها "أمينة" في أعقاب عملية جراحية، وهاجرت ابنتها الثالثة مع زوجها، الأمر الذي جعل هذه الأستاذة الجليلة تعاني الوحدة، والجحود، سواء على المستوى العلمي أو على المستوى الإنساني، وفي هذا يقول "محمّد سليم العوا": "عانت بنت الشاطئ بين قومها من جحود علمي لم تذكره بحرف لأحد، ولكن أحسّ به وتألَّم له تلامذتها وأهل الوفاء من المتابعين لمسيرتها العلمية والفكرية، ولم تعش بنت الشاطئ على هذا الجحود العلمي وحده، وإنَّما عاشت جحوداً إنسانياً أقسى منه وأشد، ورأت من نكران الجميل حيث توقعت العرفان، ومن فقدان الوفاء حيث انتظرته، ما تخرّ له الجبال الرواسي، ولكنّها كانت تستصغر الدُّنيا، فلم تبك على شيء منها قط، وإنّما بكت على فقد الأحبة، ولا سيما ابنتها "أمينة" وابنها "أكمَل"....وأشهد عن قرب منها يزيد على ثلاثين عاماً أنّها كانت من كبريات الزاهدات في الدُّنيا كلَّها، مالاً وجاهاً، ومظهراً ومطعماً وملبساً، وكان زهدها ممارسة عملية، لا عبارات تطلقها تجذب انتباه السامعين، ويكذِّبها العمل".

لقد انطوت صفحة وجود عائشة عبد الرحمن بيننا في الواقع، وقد خلفت صفحات كثيرة ليس فقط بالعلم وإنما في الحياة والفكر والوجدان، وكم تمنيت لو أنني امتلكت الحس الشعوري الذي نبضت فيه هذه المرأة العالمة،لأصف أثر فقدها في نفسي كما وصفت هي أثر فقد أمين الخولي.

إن أقل القليل الذي يمكن أن أسجله في حقها انها امرأة عظيمة بعقلها وعاطفتها وفكرها الديني، وقد تركت بصمة واضحة على الصعيد الفكري الديني، والثقافي الإسلامي.
ولم تركن للظروف ولا للمعوقات، وإنما عودت نفسها على الكفاح والجد، وعدم التسليم للتقاليد المميتة، وامتلكت رؤية خاصة منذ أوائل عمرها، وصفها بعضهم أنها تمرد، وأنا أقول إنها وعي تام بالحياة ودور الإنسان فيها.

وهذا الوعي والمنح الإلهية، والقدر الذي جمعها بأمين الخولي هما أهم ما رسم خطاها الثابتة والواثقة، فمضت تطلب العلم، وتوسع مدارك أفقها لأبعد الحدود، وتلتقي بأهل العلم، وتتمسك بدينها، وتثق بربها، حتى غدت أنموذجًا للمرأة المسلمة العالمة التي نفتقد وجودها في أيامنا.
وكم يتوق الواحد منا ليسمع عن أنموذج مماثل لها، فالمرأة باتت في عصرنا تتبع التقاليد أكثر من أن تكون حريصة على الوعي.

وأينما ترتحل بهذه الدنيا فإنك لا تلتقي إلا بالمرأة المتدينة أشد التدين لكن دون أن يكون لها دور وتأثير يمكن أن يسجل لها وينقله التاريخ، أوبالمرأة المغرقة نفسها في شؤون الحياة والعمل دون الاكتراث بأن تكون عالمة، أو بالمرأة التي تخلت عن العلم والدين، أو بالمرأة التي حاولت أن تجمع بين العلم والدين والعمل وهذا الذي قلما نجده ولكننا نتوق لأن نجده.

وأحسب أن الالتفات للعوامل التي ساهمت بتميز بنت الشاطئ، قد يحل بعض ما تعانيه المرأة في عصرنا، فاهتمام الأسرة، والنشأة الصالحة، وإعطاء العلم حقه، والمثابرة والإرادة، والشخصية المستقلة، والرؤية الواضحة، والحب بكل تجلياته، هي أظهر العوامل التي يمكن أن نتمثلها ونحن نشق طريق العلم والحياة، ولا أقول إلا كما قال شهاب الدين السهروردي:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح

عائشة عبد الرحمن " بنت الشاطئ"

بنت الشاطئ مع الرئيس جمال عبد الناصر

بنت الشاطئ مع الرئيس أنور السادات وعبد المنعم الصاوي

جانب من مكتبة عائشة عبد الرحمن

منزل بنت الشاطئ بمصر الجديدة.

هدى قزع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى