الاثنين ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم محمود محمد أسد

التوازن بين الفن والمضمون

دراسة طائر الليلك المستحيل

للشاعر الفلسطيني طلعت سقيرق رحمه الله

إهداء لروحه الطاهرة

إن قراءة الشعر تحتاج لعالم خاص، وتحتاج لأكثر من قراءة، ويستلزمها توظيف الحواس جميعها لكشف أسرار هذا الفن الراقي الشائك. وهذا لا يتأتّى إلا لبحاّر خبير مُلهَم يكشف أعماق ودررَ هذا البحر. والشعر ذاك العالم الذي ينسج بيته في عالم واسع متناهٍ بالحلم ممتدٍّ بالخيال.. ويحلِّق في فضاءات غير محدودة المعالم.

هذا الفن الذي يتعرّض لكثير من الأقاويل والاتهامات عرضة للهمز واللمز، وعرضة للمعارك النقدية والاجتهادات، وهو ملاذ ُالمبدعين الذين يبحثون عن مظلة لأفكارهم وسفينة لخيالهم. سوف يبقى كما كان شاغلا لمن سبقونا. وسوف يبقى تلك السفينةَ التي تحمل العشّاق، وتنقل الآهات لتبنيَ عالما شفيفا نقيّا ترسو عليه. إنه عالم خاص فحسب...

هذه الكلمات مدخل لدراسة ديوان "طائر الليلك المستحيل" للشاعر طلعت سقيرق .وهذا الديوان من هذا النوع من الشعر الذي يمخر في عباب البحر ويوخز في جنبات النفس ليوقظها. بل ليداعبها في كثير من الأحيان لسْعاً ولمْزا ,وتقريعاً حينا آخر. هذا الديوان الذي أستعرضه سريعا, وأُبدي انطباعاتي فيه يحتاج لدراسة نقدية معمَّقة ومطوّلة، يقول لليائسين المتفوِّهين بمقولة "إن الشعر يحتضر وبأن الزمان ما عاد للشعر بل للقصة والرواية": يقول لهم : إن الشعر بخير وبألف خير. والقارئ لهذا الديوان الصادر عن دار الفرقد, وهو الأخ الأصغر لعشرين عملا إبداعيا، قدمه الشاعر بين شعر وقصة ودراسة. وهذاا لكمُّ يدعو المؤلف للبحث عن الأميز والجيِّد ويدل على نشاط الشاعر الذي لا يغيب عن متابعيه. في الديوان قفزةٌ متميزة للشاعر على مستوى الصورة الفنية ,والجملة الشعرية والرؤيا والبحث عن الجديد. وقد وردت ْهذه السماتُ ضمن وضوح في الفكرة وسموٍّ معا وتحليق في الصورة. والديوان بعيد عن التكُّلف والجري وراء الحداثة والترّهات، فالحداثة في الديوان ليستْ مبنيّةّّ من فراغ أو أنها غاية ٌتُجهِد الشاعر وتستنزفُ طاقته وشاعريته.

الديوان حوى سبعَ قصائدَ إضافة إلى الإهداء, وقد سُمِّيَ باسم قصيدة من قصائده. هذه القصائد استغرقت حوالي سبعين صفحة فعليّة، فهي تميل إلى الطول وغلب عليها النفسُ الشعريّ الملحمي.. فما من قصيدة إلا وتُشْعرك بأنك أمام شاعر متأزِّم ,بل تراه مصابا بداء القلق والخيبة والإحباط, وليس هذا لأمر خاصٍّ به بل لأمر عام, ينتابه فهناك قضايا كبرى تشغل الشاعر, وتثير وجدانَه وأحزانه. لكن هذا القلقَ والإحباط لم يجعلا الشاعر مستسلما، بل غلَّف قصائدَه وختمها حينا بالتفاؤل والأمل، هذه القضايا الكبرى عبّر عنها الشاعر بصور متنوعّة وبأساليبَ مختلفة. فيُكثر من الأسئلة ,ويلحُّ على الأسئلة الكبرى, ويدخل في حالة النجوى والحوار مع النفس والآخر, واستحضار الراوي والعرّاف..

يكثر في النصوص التكرارُ للمطالع أو للكلمات أو للحالة ففي قصيدة " سنة مضت " ص7 تقرأ – كم أشتهي.. كم أشتهي سنة.. سنة.. أحنّ.. أحنّ...

في هذه القصيدة يبحث الشاعر عن خلاص طالما انتظره، وحلُم َبه، فيسكب نجواه وحنينه ولكن دون جدوى. وهذه صورة من صور الإحباط التي تتلبّس الشاعر فينسجها شعرا شفّافا موحيا.

سنة.. سنة
يمتصُّني نبض الحنين فأنثني
وألمّ ُعن شجر الزمان
ألمّ عن شجر المكان
زهورَ أغنية تهادت ْسوسنه.. ص7

إلى أن يقول:

سنة... سنة... /يتلفّت القلب المطرَّز بالندى /وأمدّ للباب القريب أصابعي/ ما أقصر الدرب الذي نمشيه! /في هذا المدى /ما أطول الدرب الذي نحكيه /في فصل الندى . ص8.
فالشاعر تداهمه الانكساراتُ وترْبصُ على كاهله, فتتعبُ نفسُه التي تتوق إلى الخير والأمل والتضحية:

سنة... سنة... / كن نحلةً تمتصُّ حلو الأزمنة / وتصوغه عسلا لكل الناس / إن القلب حين يعانق الدنيا هوى / يزداد دفءُ الأمكنة... / ص9.

هذه بحَّة من وراء غصَّة محاطة بالخيبة ولكنها متسلِّحة بالأمل:

سنة.. سنةْ.. /كم أشتهي أن أقفل الزمن الذي أحببْت َ/كي يبقى معي /كم أشتهي أن أوقف اللحظاتِ ما بين الأصابع /لحظة /لأعيد للحبر الطريِّ أصابعي /كم أشتهي أن أجمع الناسَ.. الدروبَ.. /بأضلعي../ ص10.

التكرار للمفردة والمقطع سمة من سمات القصيدة عند الشاعر. وهذا التكرار يكشف ما للشاعر من إحساس وتوحُّد مع القصيدة، فكثيرا ما رأيت اندماج والتحام الخاص بالعام.
فالشاعر يرتدي ثوبا واحدا له ولغيره. وهذا عائد لذوَبان الذات مع الجماعة رغم كثرة ضمير المتكلم /كأني.. /وأنتِ تهزِّين فيَّ نخيل التمني /تساقط روحي وقلبي / فضاءات عمري /لأدخل عند اشتداد التوحُّد /ما بين ضلعين منكِ.. ومنّي.. /فيرقص فيَّ الصباح اشتعالا.. /ص11. وفي مطلع القصيدة يظهر الاقتباس من القرآن الكريم. استمده من سورة مريم وقصة النخلة. فالشاعر لا يرى وجوده، ولا يرى الأمل المشرق والخير إلا إذا التحم مع (الحبيبة.. الأرض.. الحقيقة.. الحرية) في قصيدة طائر الليلك المستحيل ...!

أضمُّكِ تنهضُ فيّ الزهور /تمدُّ عناق البساتين عشقا /وتشعل حين أضمُّك /كلُّ فصول التغني../تراود فيكِ..وفيَّ/صهيلَ الذهول.. /فأمضي إليك.. إليّ /أمدُّ جميع حقول الهطول /وأنسى إذا ما نسيت /بأنكِ أنّي../ص12.

فهذا المقطع وغيره الكثير يكشف هذا الالتحام المطلق. فهو في حالة توجُّس للعودة والالتقاء الذي يعتبره مستحيلا, ولكنه لا يمانع من صنعه ونسجه حلما وشعرا، يبوح بالأمنيات ,وينتظر العودة على بساط سندسي... فكان يردِّد في كل مقطع.. أحبُّك.. فيأتي المطلع اعترافا وإقرارا.. أحبُّك.. /حين أحبُّك قلبي يسافر حتى بحار الظلال التي لا تنام /وقلبي يسافر حتى مسافات عشق يضيء على شاطئيه الكلام/ ص14.

وفي مقطع آخر يعيد المطلع: /أحبك.. /آتيك أحمل كل بساتين عشقي /وأعرف أنّ البداياتِ أنت /وأنت ِالحكايات.. أنت.. /الدروب.. الفضاءات.. أنت.. /وأنت صلاة الحروف /ص16.

أرى أن الشاعر تعتريه حالة متأجّجة من الشوق، فتنتابه حالةٌ من الانفعالات التي تتجاوز إمكانيَّتَه على ضبطها. ولذلك بدتِ المقاطع مطوَّلة, وكذلك الجمل الشعرية مطوّلة، فتجاوز عدد التفعيلات التقريبي والذي حدّدتْه نازك الملائكة في كتابها " قضايا الشعر المعاصر"، وكان بإمكانه أن يعيدَ توزيع أسطره الشعرية بشكل أنسب دون تغيير في بنية الجملة الشعرية والحالة التي تستدعيها. في هذه القصيدة يصحو ضمير المتكلِّم ,ويلفت الانتباه "عمري.. وهمسي.. وظلّي.. دمعي.. وسمعي.. نفسي.. صوتي.. شعري..، وكذلك " أتيتُ – ذهبتُ – رأيتُ – انتبهتُ – شردتُ.." ص17، وكم هو جميل هذا المقطع بعد تكرار هذه الضمائر.. / أحبُّكِ يرقص فيّ الكلام /تصير الحروف صلاة /وتكبر حين تمدُّ الزهورُ إليك خطاها الزحام.. /أحبُّكِ تهطل من راحتي /وفي راحتي.. /الورود.. العطور الصباح السلام /وألقاكِ أحلى./ ص17.

شاعرنا في حالة هيام من نوع خاص، يتركه أمامنا وعلينا التفسير والمقدرة على الغور لنكسب جزءا من إهدائه والحق يقال بأن شاعرنا يأبى الاستسلام للجراح والطعنات فيعلن التحدي،. ويرسم مسار العودة ضمن مشاهد وفصول من الحزن والأسى، لأنه ينتظر الجرح الأكبر الذي يحقِّق ما تصبو له النفس.. فهاجسُ العودة للوطن وإلى الحق مصبوغ على نبض كل حرف وجملة :

سآتي إليكم /من المستحيل /جراحي إشاراتُ عمري /وكلُّ انكسارات هذا النخيل /مباحٌ لكم أن..!! وأن لا تجيئوا /فإنَّ الذي بيننا والصحارى..!!/ أضأتُ الطريق فلم تعبروها / ولن تعبروها أضأتُ الطريق وظلَّ القتيل!!../ ص21. فالشاعر رغم التحدي الذي أبداه لم يستطعْ إخفاء قلقه، وإن أعلن انتماءَه واستعداده للتضحية لما تتعرَّض له أمته من صعوبات. فهو ملتحم بالدم والروح والحرف مع هذه القضية الكبرى, والتي تشغل باله، وتشغل بالَ أيِّ إنسان يعيش اللحظة ويواكب الأحداث ومستجدّاتها المفعمةَ بالمرارة.

الآن من صمتي.. /ومن صوتي.. /أجيء.. /صمغٌ على كل الدروب /صمغٌ على طول المكان /صمغ على طول الزمان / لا يستفيق العيشُ فينا /لا يستفيق الريح فينا.. /لا تستفيق..!!/تلك الفواصل أغرقتنا../ ص22.

أحسن الشاعر توظيف لفظة /صمغ / وكرّرها للتأكيد على دلالتها ,وكذلك كرّر كلمة /لا تستفيق /فهو يعي ما يقول، ويعي ديناميكية اللفظة. فالصمّغ ضيّق الوقع, ويقابله الزمان مرة والمكان أخرى، وكذلك تلك الدروب الممتدّة.. من هنا انطلق للتأنيب والتنديد من خلال تكرار النفي مصحوبا مع(تستفيق) وما تحمله من دلالة. وفي هذه القصيدة وغيرها زاوج الشاعر بين التفعيلات الشعرية. فلم يلتزمْ تفعيلة أحادية وهذا ما أكسب القصائد حركة وانسيابيّة بالإيقاع تُحْسبُ لصالحه، وكذلك للشاعر رموزُه الشفّافة والمتداوَلة، ولكنه يأتي بها في الوقت المناسب والمكان المناسب لها..

ما بين خمرتنا وكأسِ الريح مفتاح السفر /نادت ففتَّح ياسمين الروح واندفق عطره/ فكل لفظة في هذا المقطع تحوي دلالتها ومفاتيحها وهي الأدوات التي يبحث عنها الشاعر ضمن أساليب متنوِّعة وذلك لجذب القارئ. ففي قصيدة " طائر الليلك الحزين " يستهل المقاطع بــ /أحبُّك.. /و /عند.. /والآن نراه يختم الكثير من المقاطع التي فيها بـ /قال العرّاف.. /قال الراوي / وهناك لحظة يقدرُ فيها الشاعر على مسك المقاطع الشعرية باستخدام عبارات لها علاقةٌ بالحواس../ الآن من صمْتي.. /ومن صوْتي /و /يا حبَّها.. /هذا التلوين يعدِّد المداخل إلى أعماق القصيدة ويبعث فيها الروح. فتكرار "قال الراوي " يبعث على الإقناع والتأثير، وكأنّه يعطيه شهادةَ حضورهِ وإدانته لما يجري أمامه..

يا آخر ورقة توت.. /سقطت.. /ماذا ستقول الآن ..؟ /للجمهور الطيب في أنحاء القاعة /ماذا ستقول؟؟!! /عورتُنا انكشفتْ.. /الكلُّ سكوت.. /من ينطقُ حرفا سيموتْ /قال الراوي/ ص33.

يأبى إلا أن يصحبنا معه وأن يُدخلنا أجواء الألم القاسيةَ فحينا يثيرُ سمْعنا .ويهُّزنا ومرة يرسم اللوحات المفزعة وأحيانا بالسخرية المرّة.. ففي ختام القصيدة المذكورة سابقا يقول : / الآن من صمتي.. /ومن صمتي.. /أجيء.. / وأقول آخ /هذا زمان جارح /ودمي صراخ.. /من يشتري مني بقايا ما تبقّى ؟؟/ إن تبقى.. /الصورة ُالآن اندياح ُالأفق في هذا الردى /الصورة الآن الصدقْ /طرقاتُ قافلتي خرابْ.. /ووجوهُ أحبابي غيابْ.. /وأقولُ آخْ.. /هذا زمانٌ جارحٌ/ هذا خرابْ.. / ص27

في المقطع صيحة عميقة ولوحة مأساوية ولحظة متفجِّرة بالألم صَبغَتْ سوداويَّةَ الواقع، ويظهر هذا الانكسار أعمقَ وأقصى في قصيدة " الخروج من وردة الحلم " وهي آخر ما في الديوان, وهي مطوَّلة تتوالى فيها انكسارات الشاعر والتي أعتبرُها انكساراتِ أمة وشعبٍ وإنسانية. فالشاعر لسانُ حال المعذّبين ،وهو أكثر قدرة على التعبير والتعرية. وهي قصيدة غنيّة بالصور الفنّيّة الجميلة واللافتة، البحر يتسول في الشوارع /الرمال تطرد الرصيف من عهدة الظل /الخيول تبيع الحمحمة وتنام.. /الأجوبة تخلع سراويلها.. /وتمشي خرساء على شاطئ النيل /الأسئلة تطلق الرصاص في الهواء../وتنتحر.. /ص55. إنه فصل التعرّي الذي يحفر في الروح والجسد. تعريةً للواقع وللنفس التي استكانت ورمتْ كلَّ أسلحتها ودخلت ْمعركة الموت المجاني فهذه قصيدة تكثر فيها الانحناءات وتلك الانكسارات والبوّابات.. التي تشكل مدخلا لصلب المضامين :قلْتُ الحريق على الجسدْ /والريح يخنقها الزّبدْ ../ص 72 قال :الملامح /أبحرت / لن تستعيد فصولها / وهطولها.. /قلت : الملامح أبحرت /قل لي إذن !! /من يشتري حبرا لفوضانا ؟؟ / قمرا أخيرا واحدا/كي يرتوي في الليل موتانا.. /ص 68.

شاعرٌ قاموسُه اللغوي الخاص في هذا الديوان، مفرداتٌ تحفر في البدن، توقظ الذاكرة، وتجعلك تلتفت على كلِّ الجهات، وتتلمّس نفََسَك وجسَدَك، لتقول : هل أنا معنيٌّ بما يجري وبما جرى..؟

/بين قطرة الماء وقطرة الحبر مشنقة /أحيانا كان يخرج الموتى إلى الشارع الخلفي /يقصّون على المارَّة حكاياتٍ مضحكة / المارّة عادةً لا يضحكون.. /يحملون أقدامَهم.. حين يجدونها، ويركضون..!! /دائما يتساءل الموتى : لماذا لا يضحكُ هؤلاء ؟؟

رغم السردية والمباشرة العفوية يقدِّم الشاعر مشهدا حكائيّا وتمثيليّا بجمل شعريّة موحية فُصِّلت له. وهذا عائد للتنويع بين السرد والمنولوج والنجوى والتوصيف للطبيعة (البحر – الأرض – الفصول – الزمان – المكان) وقد استخدمها الشاعر كثيرا في قصائده :

/ لا أحد يريد أن يشعل فتيل الأغنية /أصابع الدالية تبحث عن زجاجة بحجم الريح /الغيوم تدخِّن لفافة َصيف وتسرق المطر من جيب الشتاء /العصفور يصطاد قفصا ويرفض أن يخرج منه../ يزحف النمل نحو النار ويلتهم آخرُ جمرةً وينام /يطفئ الليلُ شمعة َالصباح ويغسل قدميه برماد الأمنيات /هكذا اغتيلت الحكاية واستفاق الصمت..!!/ ص66.

إنها لوحة مسرحية تراجيدية فيها سخرية لاذعة وتعرية لواقع يسير إلى الهاوية، هذه القدرة على التصوير والتوصيف وظّفها الشاعر معتمدا على أشكال مختلفة. وكان يلح ّعليها على اللفظة والحالة، ويحيط بها من كلِّ جوانبها. لأن هاجسا مخيفا ينتابه، فيُغْفَر للشاعر تكرارُه وإلحاحُه وتعظيم ُالأمور وتهويلُها في القصيدة الأخيرة ذاتِها أيضا. ففي ختامها يدور حوارٌ مؤلم ومؤثِّر, ويختصرُ كلَّ ما أراد قوله في الديوان..

/ قال : ابتعد /قلت الرصيف وأنحني /قال ابتعدْ.. / قلتُ : اختنقْتُ ولم أجد !!/ قال: ابتعد.. /قلت : المكان /قال : السلام على الزمان.. على المكان.. قلت الرصيف الملح أشرعة تهاوت.. وانحنتْ /كفَّتي وآخرَ طلقة /قال السلام على الزمان والمكان /قلت : السلام على الزمان والمكان /على المكان.. على الزمان.. /على المكان.. / ص73.

وبهذا يكوِّن الصوتان صوتا واحدا ,والفجيعة واحدة. والانكسار عظيم عندما ينكسر الصمتُ والإنسان، ويتلاشى الوعاء الزماني والمكاني فتموت الأشجار والخيول والنمل والليل..
وفي النصوص لعبة فنية وذكية بل مهارة أجاد الشاعر توظيفها إنها لعبة الأسئلة الكثيرة والتي تفتح أمامك الأجوبة والتماس الحلول.. وهناك اتِّكاء على واقع الحال المتمثِّل بالزمان والمكان وهما وعاءٌ أساسيٌّ يستوعبُ الأحداث والإنسان والمستجدّات، ولذلك يُكثر الشاعر من إحضارهما وإسقاطهما على المضامين والإصلاح يكون بإصلاحهما... :

/ مدَّ أصابعها وآخرَ ما تبقّى من دم.. /لا تدخلوا..!! /إن الفضاء معبَّأ بالأسئلة /حين ارتشفْتُ الظلَّ وامتدّتْ يدي/كان الجوابُ المقصلةْ /سأعيد ترتيب المكانِ.ِ. /أعيد ترتيب الزمانِ.ِ. /فأطلقِ الآن الرصاصَ /على القتيلِ لأقْتلَهْ../ ص41.

هذا الديوان يولد في زمن صعب, ويضع الكثير من النقاط على حروفها، في زمن تغيب فيه المواقف، وتضمحلُّ الكلماتُ و تفقد وميضها لِيخمدَ فتيلُها، ويضعف تأثيرُها. كلمات الديوان شهود عصر مليءٍ بالترهات الفكرية والإبداعية والسياسية.. ومليءٍ بالانكسارات القاصمة للظهر. الديوان غنيٌّ بالمضامين المتوهّجة وغنيٌّ بالفن الموحي المتوازن المدروس والذي استوعب هذه المضامين السامية. فالجملة الشعرية محلّقة، تحملها صور موظَّفة بدقة ومنسوجة ببراعة، وربما تتفَّد بريادة الشاعر لها : /وعندما يصطاد الذباب الخيول.. /وتمدُّ الفئران أرجلها وتصير الكلاب سيدة الموقف.. /قل على الدنيا السلام / قال العراف : /ص28.

الديوان يستوعب أكثرَ من دراسة، ويحتاج لأكثرَ من حديث لأنه يبقى ضمن كوكبةٍ جميلة من الدواوين الشعرية التي ما زالت تقول كلمتَها، وترسم نهجها وتقول : إن الشعرَ ديوان العرب.. .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى