الجمعة ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم محمد شداد الحراق

سياسة تعطيل الوعي وتخدير العقل

عندما تعجز محركات التنمية عن الحركة، وتتعطل قاطراتها عن الاشتغال، وتتوقف عجلاتها عن الدوران، ينغمس المجتمع في مستنقع اللامعقول، وتكثر في حياة الناس المفارقات الكبيرة والتناقضات الصارخة التي لا تنفع معها فلسفة ولا سياسية ولا اقتصاد...وحينما يهيمن على الحياة منطق التدجين المعقلن والسخرية المنظمة والاستغلال المبرمج، يفقد المواطن بوصلته الهادية، وتختلط أمام عينيه الصور والألوان والأشكال. فلا يستطيع التمييز بين الأشياء وظلالها، وبين الأصوات وأصدائها. يدخل في متاهة لانهاية لها،وتصبح حياته إشكالية لا حل لها. يحس المواطن أنه قد أصبح ضحية سياسة الإلهاء المقصود أوتكتيت تحويل الرأي العام الذي تستخدمه الشبكات الممارسة لطقوس توزيع الثروات والغنائم في المزادات السرية والعلنية. يتم إلهاء المواطن بالفقاقيع السياسية والفنية والرياضية وبالمناسبات المصطنعة حتى يسهل استدراجه للمشاركة في الكوميديا البشرية التي يكتب فصولها الشيطان، ويقوم بأداء أدوارها فقهاء المكر وأساطين الخدع الاجتماعية والسياسية والثقافية.

في هذه المسرحية الماكرة يتم إغراء المواطن بالباطل المقنع وإغراقه بالمواسم المبلدة للعقول والمحجرة للفكر والمستدعية لأرشيف الجهل المركب والتخلف الممنهج، كي يفرغ حمولته الطوطمية والغثائية في عقول الناس ومشاعرهم، ويلبد سماء بساطتهم وسذاجتهم بسحب الخرافة والخوارق والعجائبية. فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن تيار التدجين قوي، يكسر الحواجز النفسية، ويخترق طبقات الوعي، ويستوطن خلايا الدماغ ، ويعشش فيها لينتج عقائد باطلة ومسلمات وهمية وطقوسا جاهلية تؤله البشر والحجر والقمر والشجر، وتصنع أصناما آدمية تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. في هذه المواسم الفلكلورية يتم إحياء الأموات وإقبار الأحياء، فيها يبعث صدأ الماضي ويدفن بريق الحاضر، فيها يقدس تمثال القديم الذي قضى نحبه، ويحارب شعاع الحياة الذي ينير المستقبل. في هذه المواسم تتحرك ترسانة الخرافة بعتادها القوي وبعياراتها الكبيرة لتعطيل آليات التفكير الحر. ولكي يتم إلغاء عملية التأمل النقدي والملاحظة والمحاسبة، تتحرك هذه الترسانة بتغطية كهنوتية يتبرأ منها الدين والعلم والفطرة، فتفرض على العقول الانصياع التام والخنوع والركوع الذليل لكل تمثال عابر.وأي إعراض أوعصيان يعد في شريعة شبكة التخدير مروقا وزندقة، وكل نقد أوتعليق يعتبر سفسطة وهرطقة. فإذا تكلم الجهل، فعلى ألسنة العقل أن تعطل لغة الكلام.

إنه كلما رأيت كثرة المواسم المدغدغة لحاسة السلبية ولغدة الهذيان في الإنسان علمت أن أجهزة التخدير تضاعف من جرعاتها المسكنة للعقل، وتعمل على تشغيل مفاعلاتها التبليدية ومولدات الجهل العالي التي تصيب الإنسان بالشلل الكلي. ففي فضاء هذه المواسم تؤجل الأولويات والضروريات والحاجيات..فيها تتلاشى أنات الجياع ، وتتبدد آهات المرضى والمحرومين، وتضيع صرخات الأيتام والعاطلين. فيها تلغى ثقافة الإحساس بالظلم والغبن الاجتماعي.

ولامتصاص فتوة الشباب ولإخماد ثوران اندفاعهم ، يتم اصطناع مناسبات للصخب المفتعل باسم الثقافة العصرية وباسم الفن الثائر الذي يلغي الحدود بين المباح والمحرم، ويخلط بين الأصيل والدخيل، فتكثر المهرجانات المحركة للأجساد والغرائز، وتعلوالأصوات والألحان بإيقاعاتها الجنونية والهجينة، وتسود الضوضاء التي تصم الآذان وتلوث الأذواق،ويتم تكريم كل صاحبة جسد متمرد ووجه معدل وفن رديء. فتحلب جيوب الضعفاء السذج البسطاء، فيتحول عرق جبينهم دولارات في المصارف الأجنبية.كل ذلك باسم جلالة الفن وقداسته. والفن من ذلك بريء ، لأنه أسمى من أن تحتكره الخفافيش التي تعيش في الظلام، وأشرف من أن يحترفه الذين يتسترون وراء الجدران ويعيشون في الجحور مع الجرذان.بذاك النوع المبتذل نعلن انتماءنا إلى هذا العصر، وهوالنوع الوحيد من الحداثة الذي حققنا فيه أرقاما قياسية، وحطمنا به كل الحواجز.فحينما عجزنا عن إقامة حداثة علمية وتكنولوجية،وحينما أهملنا تحديث البنى الاقتصادية والخدمات الاجتماعية والأنظمة السياسية،تعلقنا بأهداب الفن الصاخب لنعلن للعالم بأننا من عائلة الحداثيين، وتلك هي المفارقة العظمى مع الأسف؟؟

في مهرجانات الفن الثائر المستعار يحرر الجسد ويلغى العقل، ويحرم عليه التفكير والاندماج مع قضايا الواقع ومشاكل الحياة. فمع صخب الإيقاعات وعنف الحركات المتشنجة، ومع هستيريا الهذيان ينفصل الإنسان عن وعيه، فيؤجل حاجياته ومتطلباته، وينسى همومه وانشغالاته. فإذا تحركت الأجساد وتمايلت الأشباح البشرية، فلا وقت لكتابة القصائد البكائية أولرفع اللافتات المأساوية.

فإذا ما استفاق الناس من شرودهم وغفلتهم، واستعادوا جزءا من وعيهم وإدراكهم، تحركت آليات الإلهاء المقصود من جديد لتحويل الأنظار نحوالملاعب التي تمتص الملايين بعشبها المصطنع. فترى الفئات النشيطة المنتجة قد أجلت مصالحها وأعمالها ودراستها، واستسلمت للصراعات المفتعلة المنتجة للعصبية والمفرقة للجماعة. تقف الطوابير المتشنجة الغاضبة ساعات منتظرة صفارة الانطلاق، فترسل شرارة غضبها المجاني وجنونها السريالي. وهكذا ينسى الشقي همه وبؤسه، وينسى المتدين صلاته وربه،وينسى الطالب كتابه ودرسه.وكأن اليوم يوم قيامة، يفر الناس من آبائهم وأبنائهم، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يلهيه وينسيه.قيامة من نوع كاريكاتوري.. الكل واقف بين يدي إلهه المقدس/الكرة ..المعبود الهوائي الطائر. الكل يسبح بحمده في خشوع لا وجود له في المساجد، وفي متعة تذهب معها آلام البطون الجائعة والجيوب المثقوبة والفارغة.من أجل هذا المعبود الجديد يعطل الناس مواعيدهم، ويؤجلون دفن موتاهم، ويؤخرون قضاء حاجياتهم، ويوقفون عجلة الحياة وآليات الإنتاج في الشوارع والمصالح والمؤسسات.

أصبحت الكرة أفيونا للجياع والعاطلين والغاضبين والحالمين، تحجب عنهم الرؤية، تصيبهم بعمى الألوان. تنقلهم إلى عالم وهمي، الكل فيه وراء السراب ولا يجني سوى الدخان والضباب والمزيد من العذاب. يفرغون ما في أعماقهم من غضب، وما في عروقهم من دماء من أجل حلم عابر. وفي النهاية يستسلمون للصمت القاتل في انتظار شوط آخر من المأساة والمعاناة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى