الاثنين ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم أنمار رحمة الله

السحابة

يا لهذه الأرض المصابة بالحمى، الساعة ألان الثامنة، والنجمات تجمّعن حول القمر كجوار، ومازال حرّ الظهيرة في المدينة الجنوبية يجلد ظهرَ المساء، إذ دفع اللائذين من الحر إلى التجمّهر على شاطئ النهر.يسبحون أو يجلسون على الجرف منتظرين نسمة هواء عذبة، أو أغنية يطلقها احدهم كحمامة في سماء آذانهم.المنظر مألوف للجميع، تكراره اليومي جعله كلوحة معلقة على جدار المدينة.النهر الزاحف كجندي جريح، لم يسلم من تحرشات الجالسين، وخصوصاً راجميه ببطحات العرق، و(قناني) البيرة المستوردة.وتلك المجاري السوداء التي تلفظ أنفاسها الكريهة على وجهه.ولكن لم يسمع احدهم شكواه وأنينه ولم يلتفت احدهم إلى مرضه المزمن، هاهم الرفاق تجمعوا دوائر..دوائر.دائرة سكرى تغني /دائرة تتشاجر/دائرة تتناقش بأمور السياسة /دائرة تفعل أشياء مريبة في الظلمة.والنهر يرى ولا يتكلم/لا يعربد/لا يعترض.

فرك احد السكارى عينيه، ثم بحلق من جديد في الفضاء، ثم رجع ليفرك عينه فركاً أقوى من سابقه، ثم بحلق من جديد، فنبس إلى رفاقه الذين تمايلت خصورهم، واهتزت أردافهم طرباً لأغنية (يا مدلولة) التي يغنيها احدهم:انظروا..انظروا ما هذه..؟! نظر احدهم فلم يرَ شيئا، ثم ضحك ورفع كأسه مهنئا صاحبه:على الخير....سكرت.واتبعها بضحكة عالية.ولكن صاحبنا ليس سكراناً، وتأكد أكثر حين غسل وجهه بالماء، وعاد ليصرخ بهم من جديد:انظروا.... انظروا... التفت الجميع إلى ناحية البساتين البعيدة /إلى الظلام الذي التحفته، تفاجئوا حين لاحظوا نقطة ضوء ثلجي يقترب إليهم من جهة البساتين، ولكن لم يعرف الجميع مصدر هذا الضوء العالي، وخصوصاً انه ارتفع عن النخيل العالي بعدة أمتار.ضحك احدهم وقال:انه ضوء الجسر البعيد.لطمه احدهم على مؤخرة رأسه وقال له: وهل الجسر من هذه الجهة يا غبي.انه من هناك)وأشار بيده إلى جهة أخرى.نهض السكارى وصعدوا إلى رصيف الشارع المطل على النهر، حيث جموع الناس جالسة هنا وهناك.الضوء الثلجي بدأ يكبر /يقترب رويداً رويداً، يسير كنعش ملك عظيم، والنخيل خلفه بدا وكأنه المشيعون لهذه النعش. بدأت الأعين تطالع الضوء من بعيد، توقفت الجموع عن الحديث، هناك مجموعة من الطلاب كان صراخهم عالياً عن حال الامتحانات وهمومها توقف صراخهم.

ومجموعة أنيقة أخرى تتحدث عن السياسة وقفوا مندهشين يطالعون الضوء الآتي من بعيد.السكارى طبعا حلّق المشروب من رؤوسهم كالعصفور، وظلوا يحدقون بالضوء، الذي بدأ يكبر ويكبر حتى رآه الجميع.سحابة ثلجية مخروطية، قذفت الرعب في قلوب المتجمهرين.احد الواقفين خادع نفسه وقال مطمْئناً الجمع /لعله ضوء الطائرات الأجنبية التي تجول في سمائنا...). تناوبت ضحكات هنا وهنا.وأسكته أصحابه بحجة انه (كسر وجوههم) بمنطقه الساذج.نبس آخر:لعله ضوء مصباح سيارة..؟)لم يصدقه احد.ارتفعت أصوات هنا وهناك منهم من قال نيزك ساقط/وآخر توقع انه ملاك هابط /وآخر فسره انه لعنة ستصيب الأرض (وراح يستذكر بعض الأحاديث الدينية والروايات التي لا علاقة لها بالموضوع).ارتفعت أصوات الناس، منهم من صلى على النبي، ومنهم من غادر المكان، ومنهم من طلب من رجال الأمن عمل أي شيء يفك رموز شيفرة الحادث، المشكلة إن رجال الأمن تسمروا واقفين في مكانهم لا يقدرون حراكاً، بل اكتفوا بسحب أقسام البنادق وتهيئوا لضرب هذه السحابة بالرصاص.

السحابة الثلجية اقتربت من الجرف ووقفت على بعد أمتار معدودة، مع حفاظها على ارتفاعها الذي كان يعلو على رأس النخيل.توقفت السحابة الثلجية وكأنها تحدق بالناظرين إليها في سخرية يملؤها الضحك، بينما تراجع الواقفون إلى الوراء عدة خطوات، ليعلنوا أنهم خائفين جدا من هذه الحالة التي لم يصادفها احدهم في حياته.جماعة منهم بدأوا بمشروع استغفار وأدعية تنجيهم من اللعنة، وجماعة أخرى اكتفت بالنظر والرهبة، أما السكارى وقفوا صفاً، وراحوا يتكلمون بعقلانية أكثر من أي احد في ذلك المكان.اقترب احد رجال الأمن من تلك السحابة الثلجية، وراح يصرخ بأعلى صوته، قف...قف أقول لك....سأرميك..من أنت..؟والسحابة الجامدة، كأنها امرأة حبلى ينازعها الطلق.لم تحرك ساكناً، ولم يرهبها صراخ الشرطي الخائف.

النهر الذي لولا مرضه لوقف ضاحكاً على المتهالكين أمامه خوفا ورعباً، النهر الذي أنهكه التعب حتى بدأ يشعر بنهايته تقترب، السحابة توقفت عند صدر النهر النحيف، وراحت ترنو إليه /تستنشق أنفاسه /تداعب وجهه بيدها المضيئة.هناك حوار جرى لم يفهمه انس ولا جان، حوار يكتنفه الغموض والتساؤل.انه حوار الطبيعة التي إلى ألان...لن يفهم كنهه الإنسان الجاحد.

بعد مرور عشر دقائق، تحركت السحابة ببطء، ارتفعت للأعلى، بسرعة هائلة، سرعة لم يرَ العالم لها مثيلاً، حتى أنها وصلت إلى قلب السماء في ثوان معدودة، توقفت في قلب السماء، والأبصار شاخصة إليها في رعب دفيق، تريد أن تعرف ماذا سيحدث بعد هذا الاستعراض الرهيب.انتقلت عيون الحشود إلى الجهة الخلفية من السحابة، ليلاحظ الجميع وجود طائرتين أجنبيتين كانتا في جول استطلاع، ولكنهما انتبهتا إلى السحابة فاقبلنَ نحوها، ولكن السحابة انطلقت شرقاً بلا توقف، الطائرتان بما تتمتعان به من سرعة لم تستطيعا اللحاق بالسحابة التي غابت عن الأعين بعد ثوان قليلة.

بدأ فوران همهمة وهسهسة وضحكات متناوبة بين المتجمهرين، حين نبس احد السكارى وهو يخرج (قنينة بيرة) من جيبه هاتفا بالرفاق: طلعت طيارة....هاهاهاهاها).هناك رجع الجميع إلى أماكنهم، إلى دوائرهم، نقاشتهم، سكرهم، همومهم، أشيائهم المريبة في الظلماء.ولم يلتفتوا إلى النهر الذي ودّع السحابة بعد أن وضعت في كفيه جنينها التي أنجبته في حزم وسكون مهيب.

*_أحداث القصة حقيقة، والسحابة الكونية نزلت فعلا في شهر حزيران من العام 2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى