الجمعة ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم تحسين عباس

العاطفة المتدفقة والصدق الفني

عندما تستلقي الذاكرةُ الموسيقيةُ على أرائكِ التأمل والاستحضار ستحدو بنا حتماً إلى رفوفٍ نغميةٍ ترعْرعَ فيها الإبداعُ بحناجرَ مازلنا نحتاجُ إليها رغمَ امتدادِ الزمن عن بيئةٍ ابتعدَتْ عقدين أو أكثر، مُنذُ سماعِنا لتلك الأغاني التي استطاعتْ أن توشم تغريدها في أذهاننا شوقاً بعد كلِّ إعادة .

فما جاء هذا العمل الفني إلا من تدبر وفطنةٍ أهَّلت أركانَ الغناء الثلاثة (الكلمات، التنغيم، الأداء) للغوص في ذوق المستمع بحرية وثقة جامحة، فمثل هذه الأغاني تستحوذ على متابعة المستمع استلذاذاً بالطيران في أجوائها دون أن يكون محتوى فكرة الكلمات مطابقاً للحالة التي يعيشها المستمع، فهي تستطيع أن تجذبهُ بسحرها النغمي كما تستطيع أن تجعلهُ يعيشُ الحالَ الذي افترشتهُ الكلماتُ المُنغَّمةُ بصوتِ المطربِ المُناسب وهذه النقطة من أهم نقاط العمل الفني الناجح الذي يدوِّنُ بصْمتَهُ في ذاكرةٍ تنجبُ نفسها في كلِّ حين.

فمن هذا المرتكز يتحقق احد أهداف الفن في توصيل الأدب الصوتي إلى المتلقي فنرى أن العاطفة والشعور المتمثلة في كلمات النص قد أخرجها المُنغِّم من الورق كمقروء إلى واحة الصوت المُنغَّم كمسموع، بحنجرة قادرة على أداء المساحة النغمية لإحداث الإفهام في ذهن المتلقي ؛ فهذا هو السبب المنطقي عندما نستغربُ يوماً بأننا نُعجَبُ ونَطربُ إلى أغانٍ اقتُبسَ تنغيمها (لحنها) ووضعَ عليه كلمات جديدة غير كلماتها الأولى التي من الممكن أن تكون باللغة التركية أو الهندية أو الفارسية.

فالسببُ يعود إلى أن مُنغِّمها الأول كان ناجحاً في استنهاض العاطفة والشعور في النص الأول ومن ثمَّ إخراجهُ إلى عالم الصوت المتناسق (الموسيقى ) لذلك لا نعيرُ الاهتمام إلى الكلماتِ الجديدةِ رغم اختلاف فكرتها عن الكلمات الأصل التي انشىء العمل الفني لأجلها فهذا العامل هو الذي يطغي على بقية الركائز البنائية للأغنية ومن ضمنها وجوب اندماج فكرة الكلمات مع التنغيم.

كما تنطَبقُ هذهِ الرؤيةُ على المؤلَّفاتِ الموسيقيةِ التي ألَّفها أصحابها بما يمتلكون من عاطفة وشعور للحدث الذي عاشوهُ او استشعروه وكيفية استحصال الشاعرية الصوتية من أعماقهم فألفوا من اجلهِ مقطوعاتهم الموسيقية.

فمن الأغاني التي مازالت تسبحُ في فضاء الاهتمام هي أغنية (عليك اسأل ) ل د. فاضل عواد، كلمات كريم خليل، وتنغيم ذياب خليل

فكرة العمل

نلاحظ أن فكرة بناء النغم قد بُنيت من مقام العجم على درجة النوى(صول ج) مع انسحاب إلى مقام اللامي على درجة أل (فا# ديز) فالسبب أن المنغم لهذه الكلمات تأثر بفحوى فكرة النص التي أفصحت عن الثبات على الظن الحسن بالحبيب رغم كثرة الأسئلة في داخل النص التي تكررت بجملة ( عليك اسأل ) وما يرادفها من معان أخرى التي تدلُّ على فقدان الأجوبة مما نجمَ عنها المعاناة والآلام في غياب الحبيب أو هي ثورة من الشوق إليه ؛ فكانت روح العجم طاغية في الأغنية رغم رجوعهِ إلى الدرجة المشتركة بينه وبين اللامي ( فا# ديز).

المقطع الأول

عليك أسأل... عليك أسأل منو الرايح ومن الجاي
وأحن ليك... أحن ليك مثل راعي ويحن للناي
وأقول أصبر على غيابك
وفي وما تنسى أحبابك
ولابد ما الشمس يكسر وراها فياي. (1)

يبدأ تدفق الإصرار على وفاء الحبيب ورجوع الحال السابق إلى ما كان عليه في (وفي وما تنسى أحبابك) وخصوصاً في ختام المقطع: (ولابد ما الشمس يكسر وراها فياي)
فهنا صورة شعرية من إبداع الشاعر الرائد كريم خليل، استطاع من خلالها رسم واقع الأمل وعدم انقطاعه بالمقارنة مابين الشمس( الحقيقة _ المتبوع _ والظل (ناتج الحقيقة ) _ التابع _ رغم تكرار الأسئلة بلا رد، ليكمل أخوه المُنغِّم المبدع ذياب خليل تغيير إيقاع البداية (الرمبا 2/4 ) إلى إيقاع (الربع 3/4) الذي يوحي بالبهجة.

المقطع الثاني

مدام الطير مهما يغيب بلهفه يرجع العشه
مدام الليل مهما يطول لابد ما تجي الغبشه
وأظل طول العمر أهواك
أنسى روحي لو ردت أنساك
لابد ما تجي وتضحك فرح دنياي.

يستأنف التنغيم تعبيرهُ عن الأمل عند تقديمهِ موسيقى المقطع الثاني حيث استخدم المنغم مقام العجم للتعبير مرة أخرى عن ثقةِ المُخاطِب بمحبوبهِ وارتشاف نسائم تعلقهِ بهِ في موسمٍ يُكرِّرُ اشراقاتهِ ويمتدُّ وفاؤه ُوصلاً بالروح رغم حصول الغياب المادي.

* عليك أسأل... عليك أسأل منو الرايح ومن الجاي
وأحن ليك... أحن ليك مثل راعي ويحن للناي
وأقول... أصبر على غيابك
وفي وما تنسى أحبابك
لابد ما تجي وتضحك فرح دنياي *

وهكذا تدور الأغنية في تنغيمها في المقطع الثالث ولم يأت هذا التدوير اعتباطاً وإنما دلَّ على استدارةِ الحالةِ التي يعيشُها الولهان حول مسألةِ تعلقهِ بالآخر وتموضع السُؤال رغم اختلافِ تفاصيل المشاعر فيذهب بالأسماع إلى عالمهِ وخيالاتهِ الرحبة ويستحوذ على لهفة الاستماع بأسلوب اللاتوقع .

بحبك أظل سفان مبحر والهوى شراعي
وأحن لعيونك الحلوات حنيني لأهلي والكاعي
تدري الوفي من طبعه
للمحب يعتلك شمعه
لابد ما تجي وتضحك فرح دنياي
 
* عليك أسأل... عليك أسأل منو الرايح ومن الجاي
وأحن ليك... أحن ليك مثل راعي ويحن للناي
وأقول... أصبر على غيابك
وفي وما تنسى أحبابك
ولابد ما الشمس يكسر وراها فياي
لابد ما تجي وتضحك فرح دنياي *

(1) فياي: ظلي من فيء وأفياء


مشاركة منتدى

  • اخوي تحسين صحيح انت شاعر, لكن عندك حس موسيقي عميق ..انا كنت
    من زمان ادور على تحليل هذي الاغنيه الجميله واخيرا حصلتها عندك يا مبدع ..لك جل الاحترام والشكر.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى