الجمعة ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١

دياب ربيع شاعر المقاومة في الشعر المهجري

أحمد الخطيب

سيظل لتجربة شعراء المهجر خصوصيتها، وألقها، ووهجها.. فقد جاءت مغايرة للسائد والمألوف في شعرنا العربي على

مستوى الموقف والتشكيل، وجاءت استجابة للمطالب الفكرية، والروحية، والجمالية للأمة آنذاك، وسارت في خطٍ موازٍ –تقريباً- مع تجربتي مدرسة الديوان وجماعة أبوللو. وقد كان لمدرسة المهجر إضافاتها النوعية المميزة، فقد قدم شعراؤها على نحو مطّرد تجربة شعرية من وجهة نظر رومانسية، في الوقت الذي أخفق شعراء الديوان في تقديم تطبيق عملي إبداعي (على نحو مطرد) لما دعوا إليه على نحو نظري، فكانوا نقاداً كباراً، وشعراء متواضعين(1).

أما جماعة أبوللو، فقد ضمت خليطاً من الأصوات الشعرية العربية، كان الصوت الرومانسي أعلاها وأقواها، فقدمت مجموعة من الأصوات الرومانسية الصافية، مثل : أبي القاسم الشابي، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وحسن كامل الصيرفي، ومختار الوكيل، والتيجاني بشير.. وغيرهم.

وإذا كان المزاج الرومانسي هو الإطار العام لتجربة شعراء المهجر، والديوان وأبوللو، فإنّ شعراء المهجر زادوا عن أقرانهم في الشرق العربي بنزوعهم الروحي التأملي، الذي جاء نتيجة اتصالهم ببعض التيارات الفكرية والفلسفية السائدة آنذاك في الولايات المتحدة بخاصة، بالإضافة إلى إمعانهم في الاهتمام بالطبيعة وتقديسهم لها، وامتزاجهم بها، كما لا ننسى عزفهم الجميل على وتر الغربة والحنين إلى الوطن، وتشبثهم بالجذور، وقد عبروا عن ذلك كله بلغة عصرية، محاولين إلى حدٍ بعيد –التخلص من سطوة اللغة التراثية على تجاربهم على مستوى المفردة، والتركيب، والصورة، و"الكليشيهات" كثيرة الدوران في تجارب شعرائنا عبر قرون متطاولة قبلهم.

ونحن نعلم أنّ تلك الطيور العربية المهاجرة كانت ضحية أوضاع سياسية رديئة، مرّت بها بلاد الشام، تتمثل في أفول الدولة العثمانية، وبداية المشروع الاستعماري للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى.

لذا، شكل جانب محدود من تجربتهم رفضاً واحتجاجاً لما حلّ بأوطانهم، وقد أسعفهم بُعدهم عن قبضة الاستعمار في بلادهم بأن يكونوا في هذا الجانب صوت الحرية والحق والمقاومة.
أما الشاعر دياب ربيع الذي نَعَتْه الأوساط الأدبية في حزيران من هذا العام 2010م، فيعد "خاتمة أشهر شعراء المهجر"، كما وصفه ناشر ديوانه(2)، و"آخر العنقود في الشعر المهجري"، كما نَعَتَتْه إحدى المجلات في المهجر(3).

لقد استقر دياب ربيع في نيويورك عام 1947م، قادماً من فلسطين، في الوقت الذي بدأ ينحسر فيه مدّ الشعر المهجري في أمريكا الشمالية، وذلك بموت جبران خليل جبران في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وعودة ميخائيل نعيمة إلى لبنان إثر وفاة جبران، ورحيل نسيب عريضة عام 1946م، ثم وفاة إيليا أبي ماضي عام 1957م.

لذا، كان قدره أن يلتقط راية الشعر في المهجر، ويمضي بها نحو ستين عاماً مستكملاً دور تلك الكوكبة الرائعة من شعرائنا، كما كان قدره أن يغادر فلسطين في لحظة تاريخية عزّ نظيرها عام 1947م، واعياً لما كان يدبر على ثراها، مدركاً للخطر الذي يلفّها، ويتهدّد مصيرها، وكان قد نذر كل طاقاته في الصحافة, والفكر، والإبداع للوقوف في وجه مدّ الحركة الصهيونية قبل انتقاله إلى أمريكا، كما جعل مقاومة هذا المشروع همّه الأول والأوحد بعد أن استقر هناك، فاستحق أن يكون "شاعر المقاومة في الشعر المهجري"، مضيفاً إلى تجربة شعراء المهجر بُعْداً آخر، لم يوله الدارسون اهتماماً كبيراً، وخُيّل إلينا أن الشعر المهجري قد انتهى برحيل آخر أعلامه الكبار في منتصف خمسينيات القرن الماضي.

ولد الشاعر دياب ربيع في بلدة "بيرزيت" ، القريبة من القدس عام 1922م، وفي كلّيتها المعروفة، التي غدت جامعة بيرزيت عام 1976م، تلقى تعليمه، وعلى أيدي مجموعة من الأدباء المعروفين تتلمذ، وعرف فيها أمثال: فارس مراد، ووديع ديب، وسعيد العيسى، وكان الشهيد كمال ناصر أحد زملاء الدراسة فيها.

ثم اجتذبته يافا إليها، وقد كانت ملتقى الشعراء آنذاك، وشكّلت مركزاً ثقافياً مهماً(4)، فاستقطبت العديد من شعراء فلسطين، أمثال: معين بسيسو، وكمال ناصر، ومحمد حسن علاء الدين، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وسعيد العيسى وغيرهم. كما اجتذبت إليها العديد من شعراء الأمة، أمثال الشاعر العراقي أحمد صافي النجفي، وشاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار)، والشاعر المصري علي منصور، أحد شعراء بلاط الأمير عبد الله بن الحسين في إمارة شرق الأردن.

وقد اتصل شاعرنا بهؤلاء جميعاً عن قرب من خلال المنتديات الثقافية النشطة في يافا قبل النكبة، وفي هذه المناسبة، نرى أن الحياة الثقافية والأدبية في يافا قبل النكبة بحاجة على دراسة أكاديمية مستقلة.

ويذكّرنا دياب ربيع بكثير من أعلام الأمة في النصف الأول من القرن الماضي، حين كان دورهم التنويري يفرض عليهم أن ينهضوا بأكثر من دور في وقت واحد، فقد كان تربوياً، وصحفياً، وشاعراً. ثم انتقل إلى أمريكا ليعمل في التجارة، فامتلك العديد من المطاعم، وتحول بعدها إلى تجارة السجاد العجمي، ولكنه ظل وفياً لقضيته ولفن الشعر، ولم يتحول عنهما حتى وافته منيته.

والمعروف عنه أنه منذ خرج من فلسطين عام 1947م، لم تطأ قدمه ثراها حتى جاءها زائراً عام 1973م، لكنّ منظر جنود الاحتلال على جسر اللينبي صدمه، فعاد على أعقابه رافضاً دخولها في ظل الاحتلال.

وللشاعر ذكريات مهمة مع العديد من الشعراء العرب، سواء قبل هجرته إلى أمريكا أو بعدها، وتعد صفحات نادرة، تنطوي على إضاءات مهمة، جاء بعضها في مقدمة ديوانه الوحيد "شذرات الربيع: المجموعة الشعرية الكاملة لآخر أشهر شعراء المهجر"، ولعلّ بعضها مدّخر لدى ورثته ومحبّيه في المهجر.

ومن تلك الذكريات المقتضبة في مقدمة ديوانه، ذكرياته مع شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار)، والشاعر المصري علي منصور، والشاعر العراقي أحمد صافي النجعفي، الذين التقاهم في يافا قبل النكبة. كما التقى هناك عدداً من شعراء فلسطين مثل: معين بسيسو، وكمال ناصر، وسعيد العيسى (أستاذ دياب ربيع)، ومصطفى درويش، أما الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي فقد التقاه في بروكلن بنيويورك، وظل قريباً منه، متواصلاً معه حتى وفاته، وقد رثاه عند رحيله.

ومن يتأمل ديوانه الشعري، الذي رتّبه قبيل وفاته، ونهضت جمعية بيرزيت في الولايات المتحدة بنشره عام 2010م، سيجد أن فلسطين لم تفارقه لحظة واحدة، وأنها – كما يقول جهاد فاضل في مقدمة الديوان – مقيمة معه، أو أنه مسكون بها، لا فرق, فهمي حاضرة في شعره الغزلي، كما هي حاضرة في شعره التأملي.. لذا، كان دياب ربيع حاسماً في خياراته، فهو شاعر وطني مقاوم قبل كل شيء.

يقع ديوان " شذرات الربيع " في ( 181 ) صفحة, ضم خمسة أقسام, هي : الوطنيات, والتكريم, والغزليات, والتأملات, والمراثي. وبلغ مجموع تجاربه مائة قصيدة.
وقد استحوذت الوطنيات على نصيب الأسد منه, علماً بأن هاجس المقاومة لم يزايله – كما قلنا – في الأقسام الأخرى.

وتجاربه بعد النكبة تذكرنا بتلك النغمة الحزينة, والبكاء على الوطن السليب, وذلك شأن التيار الواقعي في الشعر العربي بعامة, والفلسطيني بخاصة, حيث شغل الشعراء بتصوير تشرد أهل فلسطين, وحرمانهم من وطنهم الجميل, ولجوئهم إلى الأقطار العربية المجاورة, ومقامهم تحت الخيام, وفي الكهوف , يلفهم شعور بالذلة والمهانة, يتضورون جوعاً... الخ(5), ولكن شاعرنا زاد عنهم بتقديم رؤية, ظل متمسكاً بها, وهي أنّ القوّة هي السبيل الأمثل إلى استعادة الحق السليب, أي أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة, ولعل نغمة الأمل في الشعر الفلسطيني بدأت تظهر في الخمسينيات بعد ثورة يوليو 1952 م, وبعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 م, وإحساس المواطن العربي بقدرته على تحدي قوى الشر(6), ولكن هذه النغمة ظهرت قبل ذلك عند دياب ربيع.

ففي تجربة " قسماً بقدسك ..."(7), التي كتبها عام 1947 م , أي بعد قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة, يستهلها بقوله:

سكت الهزار عن الصداح
وبكى على الروض المباح
وغدا يهـوّم في الفضاء
وتستـبدّ بــه الريــاح

لكنه ختمها بقوله:

لن يُستـردّ حمـــاك
إلا بالأسّنة والـــرمـاح
أو يستوي عدل الشعوب
بغير مسنون الســـلاح؟
قسـماً " بقدسـك " يـا
فلسطين المخضّبة الجنـاح
ستظلّ فوق ثراك تخفـق
رايةُ العرب السمـــاح

وفي الكثير من تجاربه تطالعنا ذكرياته على ارض فلسطين, تلك الذكريات التي شكلت الحبل السري بين الشاعر وأرضه, وظلت تشدّه بأمراس الشوق والحنين إليها, وتجلد روحه بسياط التوق إلى مسقط رأسه, وملعب صباه, ومراح لهوه... فقد عاش دياب ربيع حياته حاملاً صليبه, وهمّ شعبه, يناضل بالكلمة في كل مكان, راوياً مآسيه على مسامع الضمير الإنساني, فاضحاً صنيع إسرائيل, رافضاً العودة إلى وطنه في ظلّ حراب الاحتلال(8):

كم ليلة ناديتـها بمدامــعي
وسفحت قلبي في الدموع لها دما
لم يمض يومٌ في حياتي لم أكن
بحقوقكم وحقـــوقها متكلّـما
وأذود عنـكم بالبيــان مردّداً
صيحاتكم أشكـو النوى متـألماً

وجاء في ختامها قوله:

سأظلّ في دنيا اغترابي حاملاً
أعباءكم وبكم أظـلّ مُتيّمـاً

ونشفق عليه حين حنث في يمينه, بعد أن اقسم ألا يزور فلسطين في ظل الاحتلال, وعاد عام 1973م عن جسر اللينبي, رافضاً رؤيتها أسيرة مغلوبة على أمرها, ولكن حين تقدم به العمر, قهره الحنين بعد خمسين عاما من الغربة والنفي, فزار مدينته الأثيرة يافا(9).
مضت خمسون عاما فالتقينا
لساعات بدت لـي كالثوانـي

ثم يقول:

وأقسم لا يعود إلى ثراهـا
وإسرائيل تنعم في كيــان
ولكن السنين قصمن ظهري
ألحّت أن أعود ولــو لآن

ثم تأمل هذه الصورة الفذة للتعبير عن اللقاء الحميمي بين الشاعر والمكان في ظل الاحتلال:

أعانقها وتمعن في عناقي
مكبّلة وفي أسر مــــهان

والقصيدة تقطر مرارة وألماً في شفافية مدهشة, يصور فيها عذابات محب موله, يحلم بلحظة وصال بعد أن استبد به الشوق, وطال أمده. وعلى الرغم مما فاضت به التجربة من نبرة الأسى والشجن, إلا أنه يتماسك في نهايتها, ويعود متشبثا برؤيته, لائذاً بها, مكرّسا لها, شديد الإيمان بتحققها إلى حد اليقين, فيقول:

فسوف نعود يا يافا وحتماً
تعود الأهل في عـز وشـأن

وتطال مقاومة دياب ربيع تعرية اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة, الذي يتاجر بالرسالة السمحاء للسيد المسيح ( عليه السلام ), ويناصر الصهاينة الجدد, أمثال : بات روبنسن, وجيري فارويل, وغيرهما, فيقول عام 1990 م مخاطباً السيد المسيح(10).

أولا ترى كيف اليهود وصحبهم
قد أنكروك وغـيّروا النامـوسا
وغدا صليبك رمزهم وشعارهم
في صَلْب من لا يستعين "بموسى"

وقد عبر عن موقفه الرافض لصفقة السلام, التي أبرمها (أبو عمار) مع إسرائيل عام 1994م, ونحا عليه باللائمة لسوء فهمه لعدوه, وكان صريحاً إلى حد الخشونة في محاورته له في تجربة عنوانها ( أبو عمار ), جاء في استهلالها قوله(11):

" أبو عمار " لو تدري وتعلم
بما يجري لكنت أخا مكرّم
ولكن ساء فهمك للأعادي ولم
تـدرك لهم كيداً وتفـهم

وظلّ دياب ربيع قابضاً على جمر الأمل في موقفه من قضية شعبه وأمته، مهما طال الزمن، وتردّى الواقع، وغاب الضمير العالمي، ومهما بلغ حجم المشروع الصهيوني على أرض فلسطين(12):

فإسرائيل لن تبقـى كياناً
يهـددنا بأنواع الوقـود
سيأتي اليوم تذكرنا المعالي
وتخفق فوقنا أعلى البنود
فهذي الأرض لم تنبت سوانا
وسوف نظل فيها كالورود

والبعد المقاوم في تجربة شاعرنا لا يقف عند حدود فلسطين وحسب، فهو يدرك أهمية عمقها العربي، وأنّ قضيته لا تنفصل عن قضايا أمته، بل هي حجر الزاوية في قضاياها، فالحسّ العروبي في ديوانه واضح جليّ، لا تشوبه شائبة، فقد نعى على أمته العظيمة ما آل إليه أمرها، وما ران عليها من تراجع وهوان، وصغار.. فمكانتها الآن لا تليق بها، وبإمكاناتها الهائلة، وتاريخها المجيد، ودورها الحضاري، الذي يقرُّ به العدوّ قبل الصديق، فيخاطب أمته قائلاً(13):

وطن العروبة كيف يا وطن
تتصاعد الأحداث والمحـــن
وتظلّ مكتوف اليديـن ولا
تقوى، وينهش قلبك الضــغن

وينتفض فرحاً وطرباً عند إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958م(14)، ويتعاطف مع أطفال الجزائر أثناء ثورتهم ضد الاستعمار الفرنسي(15)، ويرى أنهم سواء مع أبناء فلسطين معاناة، وظلماً, ورفضاً.

ويعزّ عليه أن يأخذه الأمن اللبناني بدعوة الاشتباه حين زاره عام 1973م، ولبنان في خاطره بلد الحق، والقانون، والاستنارة، وجزء مضيء من أرض العروبة، فيقول(16):

أين العدالة فيك يا " لبنان "
أين حماتها – كفروا بشرعك قيما

ويتساءل الشاعر: كيف يقدم عمره, ويبذل فنه من أجل رفعة أمته, ويأتي رد الجميل على هذا النحو المفارق:

وأنا الذي عشت الحياة لأمتي
من خيرها أعطي وأصدح ملهماً
فعروبتي أيّ الديار نزلتهـا
والشعب شعبي، ما حللت مكرما

ويهيب بمصر عام 1975م، أن ترفض مشاريع كسينجر، الرامية إلى فرض السلام على مصر؛ لأن المساومة على انسحاب إسرائيل من سيناء، هو التفاف على نصر أكتوبر المجيد، وإساءه لروح الأمة كلها؛ لأنّ سيناء تختزل شرف الأمة وروحها(17):

أيها الصحراء لا تستسلمي
لشروط وعروض بانسحاب
لست يا "سيناء" رملاً إنما
أنت روح العُرب في كفِّ العذاب

ويتحول ديوانه إلى معرض للأحداث الجسام في فلسطين، وعلى امتداد الأرض العربية، فهو البعيد القريب، يتابع بحس مرهف انتفاضة الأطفال وأصداءها، ومفاوضات السلام، وأحداث العراق، وموقف أمريكا غير المنصف من قضية شعبه، وانحيازها الظالم إلى الخندق الآخر.. ونراه حيناً يبكي بغداد بعد أن سقطت تحت سنابك مغول هذا العصر. وحيناً آخر نسمعه وهو يستصرخ أمته في قصيدة يجعل استهلال الشطر الأول من أبياتها قوله: "ألا يشجيك.."، مذكراً بقصيدة فارس بكر وشاعرها الحارث بن عبّاد، حين تفجر حزنه وغضبه معاً، إثر قتل ولده غدراً، في قصيدة مدوية، استهل أبياتها كلها بقوله: "قرّبا مربط النعامة منّي..". والنعامة فرسه، وهي من الخيول العربية الأصيلة المعروفة.

ودياب ربيع يحاور –في تلك القصيدة – كل عربي غيور، فجاءت تجربته مدجّجة بالأسئلة، وهي أسئلة مؤلمة لقضايا مؤرِّقة، ولأن القبول بها يعني الحياة في الموت، أو الموت في الحياة، ويصبح وجود العربي معها وجوداً عدمياً عبثياً، فهو يقول منها(18):

ألا يشجيك مثلي أن تراها
بلا صوت تسجله الأعادي؟
ألا يشجيك.. أنك من ديـار
تظـل بـلا وفاق واتحـاد؟
ألا يشجيك.. أن يُملي عليها
عدوّ مـن حثالات العبــاد؟

ولا يخفى أنّ مثل هذه التجارب التعبوية تعتمد إيقاعاً "يملأ الفم والأذن"، كما يقول أبو نواس، وتقع في شيء من المباشرة والوضوح. وليس هذا اتهاماً لتجربته، وتنقّصاً لقيمتها الفنية.. لكنه ملمح شديد الصلة بموقفه النضالي، لا يكاد يفلت منه شاعر فلسطيني مقاوم مهما سما قدره(19).

ويستعيد شاعرنا بيت أبي العلاء المعري المشهور، ويجعله ختاماً لقصيدته، مختزلاً فيه موقفه ورؤيته، فيقول:

لقد أسمعت لو ناديت حيّاً
ولكن لا حياة لمن تنادي

ويظلّ هاجس المقاومة مُلحّا عليه في تكريمه أو رثائه لبعض الرموز، مثل: جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وبعض الأهل والأصدقاء، مثل: والده، وشقيقته ندى ربيع، وصفيّه وأخيه الأكبر في الوطن قبل الهجرة الأديب مصطفى درويش الدباغ، وصديق عمره كمال ناصر، وأستاذه سعيد العيسى، والشاعر الكبير عمر أبو ريشة، وشاعره الخالد وصديقه في المهجر إيليا أبي ماضي، والفنان التشكيلي الفلسطيني المرموق إسماعيل شموط، حين رحّب به في شارلوت محل إقامته في أمريكا، بمناسبة زيارته وحرمه الفنانة تمام الأكحل لحضور حفلي تخريج ولدهما بلال، وإعلان خطوبته، فيقول(20):

يا صاحب الفن الرفيع
في الفن والشكل البديـع
كم لوحة صوت فيها
قسوة الألـم الفظيــع
صوّرت شعبك ثائراً
في كبريـاء المستطـيع
ذرفت بالألوان دمعك
فاستحـال إلى نجيــع

فكل تجربة من تجاربه الشعرية تتحول إلى مناسبة للتعبير عن موقفه المقاوم، رافضاً خنوع أمته وخضوعها، وتراجع موقعها، مندداً بدعم أعداء الأمة للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين، مؤكداّ على حق شعبه في العودة والحياة الكريمة، متشبثاً بجذوره، مكرساً رؤيته، بأن تحرير وطنه أمر لا مراء فيه مهما طال الزمن، وأن الوجود الإسرائيلي على ثرى فلسطين، إنما هو موجة عابرة، تشبه غيرها من الموجات التي سادت ثم بادت، ثم عادت الأرض إلى أهلها عربية الوجه واليد واللسان(21):

فهذي الأرض لم تنبت سوانا
وسوف نظلّ فيها كالورود

ومن الجلي أنّ دياب ربيع قد هاجر إلى أمريكا بعد أن امتلك ناصية البيان، ووصل نفسه بينابيع الشعر العربي قديمها وحديثها، أما لغته فهي تحمل ملامح الشعر المهجري في سهولها وعصريتها، وبعدها عن لغة التراث الشعري وتراكيبها المألوفة، ولعل هذا من أثر عمله مبكراً في الصحافة، وتلمذته على شعراء المهجر الكبار.

وعلى الرغم من صلته الوطيدة بتيارات الشعر الحديثة، وصداقته لعدد من أعلامها، إلا أنه ظل حفيّاً بالشكل العروضي التقليدي للقصيدة العربية، عاملاً على تأثيثه بلغة عصرية، وصور تحمل طوابعه الفنية، ولم يسع في إحدى تجاربه إلى اختراق العروض الخليلي، في صوره الكلاسيكية المألوفة، وهذا موقف فنيّ يعدُّ ضرباً من القبض على جمر الهوية، ينسجم مع موقفه المقاوم.

هوامش الدراسة

راجع في ذلك:

الاتجاه الوحداني في الشعر العربي: د. عبد القادر القط,دار النهضة العربية, بيروت, 1981م, ص 136, 139.

شعر ناجي.. الموقت والأداة: د. طه وادي، دار المعارف, القاهرة, 1981 م, ص 40 – 45.
انظر: ديوان شذرات الربيع: للشاعر دياب ربيع، منشورات جمعية بيرزيت في الولايات المتحدة، الطبعة الأولى، حزيران 2010م، ص 5، كلمة الناشر.

انظر: كلمة الناشر، ص 5.

انظر: ص 8 من مقدمة ديوانه.

راجع: الاتجاهات الفنية في الشعر الفلسطيني المعاصر، د. كامل السوافيري، مكتبة الأنجلو المصرية، 1973، ص 371، وما بعدها.

راجع : شاعر الأرض المحتلة، رجاء النقاش، دار العلم للملايين، بيروت، ص85.

ديوان" شذرات الربيع"، ص 29.

المصدر نفسه، ص 40.

المصدر نفسه، ص 42.

المصدر نفسه، ص 44.

المصدر نفسه، ص 45، وقد تحاشينا الاستشهاد بما هو أكثر من ذلك، فالقصيدة صرخة رفض مدوية، وإدانة شديدة اللهجة.

المصدر نفسه، ص 47.

المصدر نفسه، ص 48.

المصدر نفسه، ص 55.

المصدر نفسه، ص 56.

المصدر نفسه، ص 61.

المصدر نفسه، ص 67.

المصدر نفسه، ص 100.

لقد تناولت باستفاضة موضوع "المباشرة والوضوح في الشعر الفلسطيني المقاوم، في دراستي لتجربة الشاعر أحمد الريماوي، وعنوانها "ظواهر حديثة في شعر المقاومة" منشورات وللمزيد : انظر تلك الدراسة، وراجع:

صدمة الحجارة، عبد العزيز المفالح، درا الآداب، بيروت، 1992، ص 129-130.

الانتفاضة والشعر الفلسطيني، إبراهيم خليل، دار الكرمل، عمان، 1995، ص 37، 38، 68.
محمود درويش، الشعر والقضية، نادي ساري الديك، دار الكرمل، عمان، 1995م، ص 150 وما بعدها.

استشراف الشعر، صبري حافظ، الهيئة العامة للكتاب، 1985م، ص 213.

ثلاثية أطفال الحجارة، نزار قباني، منشورات قباني، بيروت، 1988، ص 16.

ديوان الانتفاضة، أحمد الخطيب، مطابع النور، الدمام،، 1991م، مقدمة الديوان ص 22.

ديوان شذرات الربيع، ص 109.

المصدر نفسه، ص 47.

أحمد الخطيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى