الثلاثاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

الطريق

شقت السيارة طريقها بسرعة جنونية، وكأنها غزال هاربة! لم يفكر في حينها سنان أبن الخامسة والعشرون عاماً، إلا في أخيه عامر الذي كانَ يعاني من الآلام مبرحة في البطن جعلته كالمسمم، والغائص في المقعد الخلفي، وقد لف ببطانية ليبدو وكأنه صرة ملابس. يئن بصوت حاد أو شيء كالعواء ويحث أخيه على السرعة كي يصل به إلى المستشفى العسكري التي ينتسب إليها.

تمضي السيارة مسرعة كالريح، وسط طريق عاري، بلا مارة! أظلم وكئيب وكأنه مسرح لكابوس! لا أحد يعنيه في ذلك الوقت الحالك الظلام من أمر سنان وعواء أخيه شيء. فالجميع نائمون كالموتى! إلا من فوانيس الطريق الخافتة التي تعبر عن تعبها وإرهاقها هي الأخرى وتشع حزنً أكثر من أن يكون نوراً، لِما لا وهي واقفة كأنها تماثيل في طريق حزين، كأعمدة مشانق!

فجأة استضاء الطريق بغتة، نوراً ساطعاً، كالنار الملتهبة! وتقربَ الضوء الصارخ من سيارتهم وكأنهم في حلم، فزع سنان من مكانه وكأنه لدغ للتو من ثعبان! فلم يرى إلا الضوء الذي يعمي البصر كضوء الشمس، وهو يقرأ دعاء كانَ قد حفظه عن أمه عندما تشتد الشدائد! كرر الدعاء بسرعة دونَ أن يبلع ريقه، فكادَ يشرق! ثمَ أخبر أخيه( الذي مازال يئن من تحت الغطاء) بارتباك قائلاً:

أخي عامر يواجهنا ضوء ساطع لا أستطيع التأكد من هويته يلاحقنا منذ دقائق، ما رأيك هل نتوقف أم ماذا؟

صرخَ به عامر دون وعي كالمجنون... ماذا تقول... نتوقف ؟! ثمَ أرفف متهالكاً، أرجوك قل كلام آخر، أسرع ولا تبالي، فحياتنا كلها واقفة على كف عفريت! ماذا سيكون أو سيحدث أكثر مما رأينا! ثمَ أمره بحزم بعد أن تماسك، وكأنه يناجي السماء: أستمر فالآلام تقطع أوصالي كالسكاكين الحادة، أرجوك سأموت أن توقفت بلا شك، ثمَ غمغم بانكسار وبصوت خافت، كالمخنوق:

ماذا عساه أن يكون؟ تراه مجرد وهم لا أكثر... ثم حثه على السير بسرعة وبدت السيارة وهي تشق الطريق بقوة كالإعصار...

في قلب الليل الساهد والساكن خدشَ حياء الصمت! أثر صوت إنذار يعبر عن الشؤم والمتاعب، تناثرت الأضواء منتشرة بسرعة رهيبة وبألوان عدة منها الأزرق والأحمر والأبيض المصفر وصراخ الإنذار لا ينقطع وكأنه النذير أو ساعة القيامة. أجبرَ سنان على التوقف بعد أن شعر بحرج الموقف وهوله( أنه لا يحتمل أن يكون وهماً كما أراد أخيه أن يفسره) وما أن توقف سنان حتى فتح باب السيارة عليه دونَ استئذان! وصوت مجلجل كالهدير يقول آمراً:

ترجل من السيارة حالاً وأبقى ومحافظاً على هدوئك، كي تبقى على قيد الحياة! وأرفع يديك إلى الأعلى وأنتظر أشارتنا. في هذه اللحظة الشاردة تجمدت الروح في جسد عامر عندَ سماعه تلك الأصوات الهادرة كالرعد، فظلَ دونَ حراك بعد أن فقد السيطرة على النطق وحتى من الأنين! فباتَ ساكناً كالحجر، بينما علت أصوات البوليس الليلي عاليةً في الهواء وهي تستجوب سنان بكل قسوة، وكأنه مجرم! متسائلين: أجب ولا تفكر باختلاق الأعذار، فنحن نعرفك جيداً، لقد كنا نبحث عنك منذُ أسبوعين! لقد أتعبتنا يا حقير... ثمَ هوت صفعة جلجلت الأفاق وشقت هدوء الليل، كضربة مطرقة على وجه سنان وهو ساهي وصامت كالصنم لا يجيب...! بعدَ لحظات قليلة( بانت له طويلة كالدهر) وعى على نفسه وكأن وحياً نزلَ عليه والذاكرة عادت له من جديد... فدمدم مرتجفاً من الخوف وهول الموقف الذي صادفه هكذا دون موعد، كالقضاء والقدر، فأردفَ متهالكاً:

أرجوكم اتركونا نتابع سيرنا إلى المستشفى، فأخي عامر مريض جداً ويعاني من الآلام مبرحة، قاتلة في بطنه وأن لم نصل إلى المستشفى في الوقت المناسب قد يفارق الحياة... فقاطعة ضابط البوليس صارخاً وكأنه قرص من عقرب! ما هذا الذي تحمله في المقعد الخلفي... وهو يطالب زميله بالابتعاد، بعد أن سحبوا سنان معهم مبتعدين عن السيارة وهو يطلق صوتاً كعواء الذئب ويقول ستنفجر السيارة حتماً! ثم طلب من زميله آمراً بالاتصال بالدورية القريبة منهم لأجل المساعدة.

بهتَ سنان وهو ينظر نحو أخيه الغائص تحت الغطاء لا يتحرك. ثمَ على صوته فجأة وهو يبكي بتذمر ويقول: يمكن لكم التأكد بأنفسكم، أنه أخي المريض ولا أحد غيره في السيارة! ثمَ تشجعَ صوته واكتسى قوة عجيبة وكأن الحالة ألهمته الشجاعة، فهتف بحزم وكأنه في مظاهرة:

يمكن لكم أن تسعفوه أو أن تطلبوا له سيارة إسعاف، ثمَ أردف بتواضع غريب، ومن ثمَ هو جندي! أي ينتسب إلى قوات الجيش العراقي، ولن يعالج إلا في المستشفى العسكري وأنتم تعلمون... عندها تغيرت لهجته فجأة وأصبحت متوسلة وبدا وكأنه شحاذ! وهو يدمدم بانكسار وتخاذل: أرجوكم، أتوسل إليكم، أحلفكم بالله أن تقدروا موقفنا ولا داعي لهدر الوقت هكذا في أوهام لا وجود لها...

 صكَ الضابط على قبضة يده وهوى بها على رأس سنان وهو يصرخ بهوس، كالمخمور: ستقتلنا يا مجرم، أنتظر في مكانك حتى تأتينا قوة مساعدة! بينما ظلَ سنان( يتابع نظرات الضابط الزائغة وصوته الأبح بغيظ مكتوم) استمرَ الضابط يتحدث بعنف وكأنه في معركة! وهو يقول... أنا أعلم بأنَ هذه الليلة سوفَ لن تنتهي إلا بموت أحدنا أو جميعاً! ثمَ بصقَ بقوة وبتقزز في وجه سنان وكأنما يتقيأ! دون خجل... تفوه... في حين كانَ يهز بدنه وكأنه يرتجف من البرد!

وصلت سيارة بوليس أخرى وترجلَ منها أربعة رجال، قساة المنظر كطبيعة الصخر! هائلين لطولهم وضخامتهم، كالعمالقة! نظراتهم غريبة تبعث الرعشة والرعب في قلب كل من يراهم! يرفعون أسلحتهم عالياً في الهواء، وكأنها بيارق! ثمَ على صوت أحدهم، له أنف كبير كأذن حمار! ووجه مغلق كالسر! وهو يدمدم بنبرة لا تخلو من سخرية وثقة عالية في النفس، كمن يدارى هزيمته بضحكة زائفة:

فتشوا السيارة بحذر شديد... والله سيكون معكم يا أبطال! ثمَ أردف بعنجهية متعالية، هذا أمر... وهو ينظر إلى سنان، نظرة متحرشة، متحدية... هربَ لها قلبه!

توجهوا رجال البوليس بأمر آمرهم إلى السيارة وهم مترددون والخوف يأكل وجوههم الغليظة، وكأنهم أمام لغم أو قنبلة موقوتة! فتحَ أحدهم صندوق السيارة بكل وجل، وكأنه يفتح كنزاً مدفون لقرون! وهو يكاد يموت بالسكتة، فلم يجد شيئاً، مما جعله يتشجع قليلاً لتكملة الحملة التفتيشية...توجه نحو المقعد الخلفي الذي كانَ عامر يرقد فيه مغطى، ليبدو منحنياً كترس السلحفاة! رفع الغطاء بكل حذر وهو يصرخ دونَ سبب واضح ولعله من شدة الارتباك؟! وإذا به يفاجأ بجسم آدمي مكور وجامد كالثلج! وضعَ يده الخشنة التي تبدو كيد تمساح! على رقبة عامر لجس النبض... فوجده كقطعة خشب، بلا نبض! لأنه كانَ قد فارق الحياة...

رجعَ مسرعاً إلى آمره وهو يدمدم كالمعتوه بكلمات تبدو غير مفهومة! سيدي... هناك... أقصد رجل ميت، ثمَ أردف بخبث كالحاقد! بعدَ أن دخلَ الهدوء قلبه فجأة وكأنَ الوحي قد نزلَ عليه: لا نعلم لماذا يريد هذا الرجل( وهو يشير بإصبعه نحو سنان) دفن الميت بهذه الطريقة الغريبة وفي جنح الظلام، وكأنه هو القاتل!! وأستمر وكأنه محامي... رأي يا سيدي أن نتحقق من الموضوع بكل روية وإناء، فقد تكون هناك فعلاً جريمة قد اقترفت ونحن لا نعلم؟!

هزّ الضابط رأسه، كالحصان بارتياح وتنفس الصعداء وقالَ بهدوء بعد أن تغلبَ على خجله، وكأنه يطلب شيئاً يأكله: استدعوا سيارة الإسعاف لنقل الميت، وخذوا السائق معكم لاستجوابه، وحرزوا على السيارة لحين استكمال التحقيق ثمَ غادرَ المكان وهو يفرك أنفه الحماري بقوه ويعطس كالرعد، وكأنه في مقبرة فرعونية! وهو يتلفت كالمطارد بعدَ أن نفخَ صدره ورفعَ رأسه، كالعريس في ليلة زفافه! وصرحَ مخاطباً زملائه وكأنه قائد فوقَ جبل: هدفنا نبيل وسامي، وفي كثير من الأحيان يكون أنبل من الشرف ذاته! فقهقه بعنف، وكأنه يضرب أحداً... ثمَ قالَ متابعاً، مستدركاً... آه كم جميل أن نسهر نحن وأن ينام المواطن وهو ينعم بالأمان والهدوء والطمأنينة... فردت عليه الأصوات الخشنة من حوله كأنين المرضى! عندكم حق يا سيدي وما تقولونه هو الصواب...

هوى سنان راقداً على الأرض، ساجداً وكأنما يصلي، والدموع تنزلق على خده حارة... بعدَ أن شعرَ بأنَ الحزن يطوقه، كخشب التابوت! فظلَ صامتاً بخشوع عجيب وكأنه هو الذي مات... بينما شقت سيارة البوليس الطريق مجدداً بفخر كالمنتصر... كي يسود الأمان والسلام حياة العراقي وهم من أجلهم ساهرون...!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى