الثلاثاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم حسن توفيق

الشهداء يعودون هذا الأسبوع!

( 1 )

لو أنني قلت لكم: الشهداء يعودون هذا الأسبوع.. فلابد أنكم ستتهمونني بالجنون أو على الأقل ستندهشون مما أقول، وربما تتساءلون أو يتساءل بعضكم بقدر لا بأس به من التهكم والسخرية: كيف يمكن أن يعود هؤلاء الشهداء إلى بيوتهم وإلى أهاليهم وأصدقائهم ومحبيهم بعد أن انتقلوا للدار الآخرة ؟! والحقبقة أن الدهشة ستتلاشى تماما حين نعلم أن هذا الذي يبدو كأنه خبر غير قابل للتصديق هوعنوان مجموعة قصصية للكاتب الروائي الجزائري الطاهر وطار، وكانت هذه المجموعة قد صدرت عن المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائرسنة 1984وهي تضم سبع قصص قصيرة، تتسم بالواقعية، وكلها تتعلق بالشأن الجزائري، كما أنها مكتوبة بلغة عربية مبسطة، وإن كان تأثير الأدب الفرنسي يبدو واضحا في طريقة سرد كل قصة منها.
لماذا أعود لقراءة هذه المجموعة القصصية، رغم أنني قرأتها أكثر من مرة على امتداد سنوات سابقة ؟ إني أعود إليها لكي نرى جميعا كيف تنعكس صورة محددة من صور الماضي على مرآة الحاضر، ولكي نتأكد – من جديد – أن التاريخ يعيد أو يكرر نفسه، ولكي نتذكر المثل العربي الشهير: ما أشبه الليلة بالبارحة!

لكي أفصح عما أريد قوله، لا بد من العودة إلى التاريخ فيما يتعلق بثورة الجزائر، ولا بد من أن نتأمل حالة السيولة الفوضوية التي نشهدها ونعايشها كل يوم فيما يتعلق بالثورات العربية التي اندلعت في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وعلينا بعد ذلك أن نستكشف وجوه التلاقي والتشابه بين ما جرى – تاريخيا – في الجزائر، وما يجري حاليا في تلك الدول العربية التي تشهد ما يسميه الإعلام ربيع الثورات العربية ابتداء من ديسمبر 2010وإلى الآن وما بعد الآن!

في الأول من نوفمبر سنة 1954 اندلعت الثورة الجزائرية التي ساندتها مصر – جمال عبد الناصر بكل قوة مادية ومعنوية، وظل الاحتلال الفرنسي للجزائر يحاول القضاء على تلك الثورة، لكنها انتصرت في خاتمة المطاف، بعد أن قدمت قرابين الفداء متمثلة في مليون شهيد، وتم إعلان استقلال الجزائر رسميا يوم 5 يوليو 1962 وبحكم الطبيعة البشرية في كل مكان وزمان كان لا بد أن يحصد الثوار المنتصرون غنائم النصر التي تتوزع على الأقارب والأصدقاء، بل كان من الطبيعي أن يتصارع الثوار فيما بينهم فيما يتعلق بتوزيع الغنائم، على حساب البسطاء والفقراء الذين يفترض أن الثورة قد اندلعت من أجلهم ومن أجل تحقيق حياة كريمة لهم!

هذا الذي جرى في الجزائر منذ انتصار الثورة هو ما رصد الكاتب الروائي والقاص الطاهر وطار ملامح متنوعة منه، أما ما يجري وما يزال يجري في أجواء ربيع الثورات العربية فهو ما رصده كثيرون من الكتاب والأدباء العرب، وأعتقد أن من حقي الآن أن أشير إلى قصيدة لي بعنوان لا مكان للشهداء، وفيها أقول:

غسل الشهداء شوارع مصر وأهدوا للأرض هداياهم وانصرفوا
جاء الأفاقون الكذابون الدجالون القتلة
حشدوا معهم كل الجهلة
أخفوا لمعان خناجرهم كي يخفوا ما كانوا اقترفوا
شحذوا بالمكر حناجرهم ثم اندفعوا لشوارع مصر
كي يختلسوا ثمرات النصر...

يبقى سؤال: ما هذا الذي رصده الطاهر وطار في مجموعته القصصية الشهداء يعودون هذا الأسبوع ؟!

( 2 )

إذا كنت قد أشرت إلى المجموعة القصصية التي أصدرها الكاتب الجزائري الطاهر وطار سنة 1984، فإني لم أتحدث عما رصده هذا الكاتب الجاد والملتزم على امتداد قصص هذه المجموعة، وبالذات ما رصده في إحدى قصصها التي سماها: الشهداء يعودون هذا الأسبوع ، وهي قصة تستدعي تأملا عميقا نتيجة لارتباطها الوثيق والعمبق مع ما يجري على الأرض العربية التي تشهد ما يطلق عليه الإعلام الغربي ومعه الإعلام العربي: ربيع الثورات العربية.
تصور هذه القصة مشاعر إنسان قروي موغل في العمر، يقضي أيامه القاسية وهو يتذكر ابنه الذي استشهد وهو يقاتل الاحتلال الفرنسي الذي جثم على تراب الجزائر على امتداد مائة وثلاثين سنة، وكلنا نعرف بالطبع أن ابن القروي الطاعن في العمر لم يكن الشهيد الوحيد، فقد قدمت الثورة الجزائرية ما يقرب من مليون شهيد كانوا بمثابة قرابين الفداء إلى أن تحقق حلم استقلال الجزائر.

فجأة تسلم هذا الإنسان القروي رسالة من مكتب البريد التابع للقرية، وقال له موظف البريد وهو يسلمه الرسالة إنها من ابنه الشهيد وقد أرسلها له من مكان بعيد.. بعيد جدا، ولست أريد الآن أن أتدخل في سرد أحداث قصة الشهداء يعودون هذا الأسبوع، ولذا سأترك المجال أمام كاتبها الجاد والملتزم، لكي نتعرف منه ومن خلال أسلوبه الخاص على الذي جرى للإنسان القروي عند قراءة رسالة ابنه الشهيد!

.. فتح الإنسان القروي – العابد بن مسعود – الرسالة، وانحنى عليها، وأغرقها في عينيه ولبث متكورا في برنسه الأبيض المتسخ. دار الظل وتركزت فوقه الشمس.. أخيرا وبعد أربع ساعات طوى الرسالة ووضعها في كيس صغير معلق بعنقه، ثم نهض متثاقلا وراح يسير بخطوات متئدة، إلى أن قابل أحد أبناء قريته وهو والد شهيد مثله، وقال له بمنتهى الجدية: ألم تفكر قط أن ابنك الشهيد قد يعود يوما، يدق الباب ثم يفتحه ويتناولك بين أحضانه ؟

شاع خبر تسلم العابد بن مسعود رسالة من ابنه الشهيد في كل أرجاء القرية، وكان هناك من اندهشوا وتعجبوا، كما كان هناك آخرون ممن تصوروا أن الجنون قد أضاع عقل العابد بن مسعود، وأنه يهذي هذيانا لا شفاء منه، لكن الرسالة ذاتها أحدثت بلبلة كبيرة بين الجميع، فهناك – مثلا - أفراد من كوادر حزب التحرير ممن حصلوا على امتيازات خاصة بعد الاستقلال أخذوا يؤكدون للآخرين أن الشهداء لا يمكن أن يعودوا للحياة من جديد، وحتى لو عادوا – وهذا مستحيل – فإن عودتهم لا يمكن أن تعطيهم الحق في أن يقتسموا معهم ما حصلوا عليه من امتيازات خاصة، لم يحصل على مثلها البسطاء والفقراء!

ماذا لو عاد الشهداء للحياة من جديد ؟

قال أحد الموظفين الروتينيين: على هؤلاء الشهداء أن يقدموا شهادات تفيد بأنهم أحياء، لأننا قد استخرجنا لهم من قبل شهادات وفاة، بينما قال واحد من المنتفعين الجدد: لن يلبثوا أسبوعا حتى يتزيفوا، إنهم سيؤولون إلى ما آل إليه غيرهم ، أما زوجات الشهداء فإن منهن من أصبحن يشعرن بالحرج، فهناك من تنفق ببذخ على ملذاتها بفضل ما تلقته من تعويضات، وهناك من قامت بتحويل بيتها إلى دار للدعارة! وعلى أي حال فإن قصة الشهداء يعودون هذا الأسبوع مليئة بالمفارقات وبالتناقضات الحياتية، لكنها تنتهي بمصرع العابد بن مسعود على قضبان السكة الحديدية دون أن يعرف أحد هل دفعه أحد المنتفعين الجدد نحو القطار ليلقى مصرعه تحت عجلاته أم أنه قد انتحر ؟!

ما علاقة هذه القصة بما يجري الآن على أرضنا التي تشهد ربيع الثورات العربية ؟!

علينا أولا أن نعود للتاريخ لنتذكر أن فرنسا قد احتلت الجزائر يوم 3 يوليو سنة 1830 لكن الجزائر أعلنت الاستقلال يوم 5 يوليو سنة 1962 بعد نجاح الثورة المسلحة ضد الاحتلال والتي كانت قد اندلعت ابتداء من يوم الأول من نوفمبر سنة 1954 وقد تعاقب على الحكم في الجزائر بعد إعلان الاستقلال كل من أحمد بن ييلا وهواري بومدين والشاذلي بن جديد ومحمد بو ضياف واليامين زروال ثم عبد العزيز بو تفليقة، وكان من هؤلاء الرؤساء من حدث انقلاب عسكري ضدهم ومن اغتيلوا علنا أمام أنظار الجميع، وبالطبع كان هناك مستفيدون ومنتفعون من مكاسب الثورة وغنائمها بعد أن حل هؤلاء مكان المستوطنين الفرنسيين، أما الفقراء والبسطاء فإنهم ظلوا على ما هم عليه من فقر وبؤس مع تعاقب أجيالهم جيلا وراء جيل!

وحين نعود من التاريخ إلى الواقع الذي نحياه الآن، فإننا نجد أن ما جرى في الجزائر يكاذ يتشابه أو يتكرر فيما يجري على الأرض العربية التي انطلقت فيها ثورات شبابية وشعبية، ففي تونس ومصر ما يزال من يريدون الاستفادة من مكاسب الثورة يحاولون تحقيق مآربهم الخاصة لكي يحلوا مكان النظام الذي سقط في كل من البلدين، ومقابل هؤلاء ما يزال الفقراء والبسطاء يقاسون متاعب الحياة اليومية التي أضيف إليها إدراكهم لكارثة غياب أو تغييب الأمن مع إحساسهم الفطري بفقدان الأمان، فالبلطجة تفصح عن نفسها دون خوف من أحد،والقتلة يمارسون القتل بأعصاب باردة وبطرق وحشية، والذين يخطفون رجال الأعمال لكي يحصلوا على فدية مالية ما زالوا في الساحة، أما الاحتجاجات الفئوية والطائفية فإنها في تزايد مستمر، ومع تزايدها تتقلص بالطبع حركة الإنتاج في كل مكان تقع فيه مثل تلك الاحتجاجات، وإذا كانت الثورة في كل من تونس ومصر قد نجحت في إسقاط النظام بفضل حفاظها على الطابع السلمي لها، فإن الدماء ما تزال تغرق الأرض في كل من ليبيا واليمن وسوريا، ويبدو المشهد مرعبا حقا حين يسقط شهداء جدد لاحقون أثناء تشييع جنازات شهداء سابقين، بينما تحاول فلول الأنظمة التي تتداعى أن تلعب على أوتار الطائفية والمذهبية وذلك لإيقاظ الفتن والضغائن الكامنة في كثير من الحالات .

لم يعد للحياة أحد من شهداء الجزائر، ولن يعود للحياة أحد من الشهداء الذين سقطوا والذين يتساقطون في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ولكن هل هناك طريق آخر أمام الذين أهدرت كرامتهم وتم سلب حقوقهم سوى أن يواصلوا المسيرة الصعبة بكل ما تتطلبه من تقديم قرابين تضحية وفداء ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى