الخميس ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

إقامة دائمة

الإقامة في اللغة: المكث والعيش في مكان ما، مصدر من الفعل الرباعي أقام، وفي الاصطلاح: الإقامة أنواع، منها إقامة الصلاة بعد الأذان، ومنها الإقامة في الوطن، أي العيش فيه.

والإقامة أشكال حسب الظروف، فمنها إقامة دائمة في مكان الاستقرار، ومنها إقامة في بلاد الاغتراب طلبا للرزق ولقمة العيش، ومنها إقامة في المنفى لأسباب سياسية.. إلى غير ذلك من الأنواع والأشكال..

وفي اصطلاح علم الدول، استخدمت كلمة إقامة في دوائر الهجرة والجوازات؛ للدلالة على مكان الإقامة، وهي تأشيرة تمنح للمسافر بعد تأشيرة الدخول إلى بلد ما، تمنح للمهاجر بعد إيجاد فرصة العمل.. وتنتهي هذه الإقامة وتجدد حسب نظام كل بلد..

وفي الدول الغربية تتطور الإقامة بعد ثلاث سنوات أو خمس إلى نيل جنسية البلد المضيف، ويتمتع الضيف، بعد أن يصبح مواطنا، بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها المواطن الأصلي..

أما في البلاد العربية، ولا سيما في دول النفط، فالجنسية حلم يحلم به المواطن العربي.. بل يعد أجنبيا، ويعامل على هذا الأساس.. في حين أن المواطن الغربي الذي نقول عنه في عرفنا الاجتماعي: إنه أجنبي؛ لأنه لا يتكلم العربية، فهو غير أجنبي، ويتقاضى رواتب تزيد على رواتب المواطنين الأصليين؛ لأنه محترم في بلاده، فيفرض فرضا على هذه البلاد، ويعامل معاملة احترام وتقدير تفوق معاملة المواطن أو الوافد العربي بمئات المرات.. فالويل الويل لمن يسيء إلى هذا الإنسان الغربي.. لأن الأساطيل البرية والبحرية والجوية في أهبة الاستعداد لرد الإساءة بالقاذفات والصواريخ والبوارج الحربية.. أما العربي فالويل كل الويل له إذا هو أساء أو أخطأ في التصرف!

روى لي أحد الزملاء، وهو مدرس اللغة الإنكليزية، أنه كان بصحبة مدرس آخر في المجال عينه، كانا يرافقان فتاتين أجنبيتين، وفي الطريق كان أحدهما يقبل فتاة، وفجأة حضرت دورية الشرطة فأوقفتهم، وعندما دق الشرطي نافذة سيارتهما، نظر إليه المدرس الآخر، وكانت ملامح وجهه توحي بأنه ألماني أو إنكليزي، فقال للشرطي باللغة الإنكليزية: what you won’t ? ) ).. فرد الشرطي قائلا: sorry..Sorry) ) ظانا أنهم أجانب، ولوعرف أن الشابين عربيان، لحلقت شعورهم وأودعوا السجن، ثم تم ترحيلهم على الفور..

إن أمور الجنسية والمواطنة مشكلة متعددة الأشكال في الدول العربية، إذ نجد من يحمل الجنسية الأصلية من سكان البلد الأوائل، ويأتي في المرتبة نفسها أناس من أصول مختلفة استطاعوا أن يلحقوا تاريخهم بتاريخ هذه الدول وأن ينالوا شرف جنسيتها، مع أن معظم هؤلاء ليسوا من العرب.. وبعض الناس جاؤوا إلى هذه البلدان منذ سنوات عديدة، فحملوا جواز البلد الذي حلوا فيه دون جنسيته.. يضاف إليهم أعداد هائلة من الآسيويين كالهنود والباكستانيين والفلبينيين وغيرهم، وهؤلاء لا يحق لهم أن يحملوا الجواز أو الجنسية، ثم تليهم فئة العرب من البلدان العربية، ويعاملون معاملة الأجانب..

ومن القصص المحزنة أن أناسا دخلوا بلدا خليجيا بتأشيرة زيارة، وهم من أصول إيرانية وعربية وفلبينية، فأجبرتهم قوانين البلد على تجديد تأشيراتهم بعد شهرين، أو تحويل بعضها من تأشيرة زيارة إلى تأشيرة إقامة، فركبوا طائرة إيرانية متهالكة من عهد الشاه؛ ليطيروا بها من سماء ذلك البلد إلى سماء جزيرة إيرانية تدعى (كيش)؛ لأن قانون البلد لا يسمح بتعديل تأشيرة الزيارة إلى إقامة أو تجديدها إلا بعد المغادرة إلى بلد آخر..

انطلقت بهم الطائرة، وحلقت فوق جزيرة (كيش)، ثم عادت ودخلت سماء ذلك البلد العربي، وقبل الوصول إلى المطار بدقائق، حدث خلل فني في محركات الطائرة، فهوت حطاما مفحما على الأرض، وكان ســقوطها

فوق منطقة سكنية أمرا محتما، لكن الطيار البطل آثر الموت على الرمال، لا فوق أرواح البشر، فقاد الطائرة إلى منطقة رملية بعيدا عن الأحياء السكنية المجاورة..

ولم ينج من الكارثة إلا طفل ورجل، أما بقية الجثث وعددها أربع وأربعون جثة، فقد تفحمت، وصار من المستحيل معرفة شخصية أو هوية أصحابها..

لقد حرمت قوانين البشر هؤلاء الأبرياء من تعديل تأشيرات زيارتهم إلى إقامة، لكن إرادة الله شاءت أن ينالوا في ذلك البلد إقامة دائمة، فهبط عزرائيل من السماء؛ ليمنحهم إقامة أبدية على ثرى ذلك البلد، إقامة لا تحتاج إلى تجديد أو فحص للدم؛ لمعرفة الأمراض السارية، وفي مقدمتها الإيدز اللعين أو إلى بطاقة صحية، بعد دفع رسوم باهظة وعناء غير قليل..

فمن أراد الحصول على إقامة دائمة في بعض الدول العربية، فما عليه إلا أن يحلق في الجو على متن طائرة متهالكة، كتلك التي هوت، وفي غضون ساعات أو دقائق ينال إقامة دائمة غير قابلة للتجديد، مختومة بخاتم عزرائيل عليه السلام.. وسلام على تلك الأرواح البريئة التي قتلتهم قوانين الغباء والأنانية البغيضة..

ويتبادر إلى ذهني أسئلة كثيرة حول قوانين وضعية جمة سنتها عقول البشر، لا تخدم البشرية بقدر ما تعرقل من حركة التقدم والحضارة والرقي ورفاهية الإنسان..

وفي هذا الصدد يقف المرء، والألم يعتصر جوارحه، أمام حقائق مرة، ولا سيما إذا ألقى الضوء على بعض القوانين الخشبية التي أكل الدهر عليها وشرب في معظم البلدان العربية، منها ما يتعلق بالقضاء، ومنها ما يتأطر ضمن علاقات السياسة والاجتماع والاقتصاد.. والأمثلة الواقعية أكثر من أن يحيط بها عد أو إحصاء.. ولا أدل على ذلك من نظرة واحدة إلى طوابير البشر أمام سفارة أو قنصلية أو محكمة أو أي دائرة حكومية أو مدنية أو مؤسسة استهلاكية أو مخبز ..

فالفوضى وشريعة الغاب هي السمة الغالبة في كثير من البلدان العربية نتيجة القوانين المطاطة أو الخلبية أو الخشبية التي لا تتناسب وحركة المجتمع وتطور الحياة، وأحيانا تنتج الفوضى عن جهل المجتمع أو تجاهله للقوانين التي وضعت من أجل راحة أو سلامة الناس..

أما في الغرب فالقوانين أعراف مقدسة يخضع لها الرؤساء والملوك والخاصة والعامة، الكبير والصغير، فلا أعشاش عناكب تعصف بها الطيور الكبيرة، و تكون مصيدة للحشرات الصغيرة، وليست القوانين شعارات تكتب على الجدران ولوحات التوجيه والإرشاد، وإنما هي أخلاق وسلوكيات وثقافة يتحلى بها الفرد في علاقاته بالآخرين انطلاقا من أصغر خلية في المنزل وارتقاء إلى أعقد خلية تنظم المجتمع في كل مجالات الحياة..

ولذلك تطور الغرب ونهض من كل كبواته الغابرة.. وارتقى إلى ذرا المجد والحضارة والسؤدد وطاول عنان الجوزاء بالعلم والرقي والتقدم، وبنى صرحا للحضارة سيخلده التاريخ في صفحاته وتترجمه للأجيال أوابده الراسخة أطوادا تتكلم آيات من التحدي على فم العصور الآتية..

أما نحن، فسنظل عجينا من كلمات وأقاويل وروايات.. ربما يخجل التاريخ من تقليب صفحاتنا، فيشيح بوجهه غير مبال؛ لأن التاريخ سجل حافل بالأرواح المتمردة والعقول العبقرية والنفوس البركانية، كما أنه مستنقع آسن للأرواح المستكينة والعقول المسطحة والنفوس الموحلة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى