الجمعة ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
نهل الروائيون المغاربة من فضاءاتهم سردياتهم وشخوصها

سر المحلية وسحرها

محمد نجيم

صدر مؤخراً، ضمن سلسلة “الأربعة”، الكتاب الجديد للناقد والأستاذ الجامعي المغربي الدكتور مصطفى يعلى، تحت عنوان “ظاهرة المحلية في السرد المغربي”، ويقع في 348 صفحة من الحجم الكبير.

وعن الأسباب التي دفعت بالدكتور مصطفى يعلى إلى تأليف هذا الكتاب، ودواعي الخوض في مسألة المحلية في السرد المغربي يقول المؤلف: لقد كان الإنتاج السردي الذي أبدعه الكتاب المغاربة باللغة العربية، من بين ما تعودنا رصده قراءة ومتابعة منذ مرحلة الدراسة الثانوية في بداية الستينيات من القرن الماضي. وطالما شعرنا أن هنالك بهاء خفي ذا جاذبية شقية يحفزنا إلى قراءة نصوص عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب وأحمد بناني وعبد الرحمان الفاسي ومحمد الخضر الريسوني وأحمد عبد السلام البقالي وغيرهم، علما بأننا كنا ندرك أن هذه الأعمال كانت قاصرة جماليا مقارنة مع ما نقرأه من سرود أجنبية وعربية، لاسيما وأن أسماء من مثل جيمس جويس ومرسيل بروست وفرجينيا وولف وفرانز كافكا وإرنست همنغواي ووليم فولكنر وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأضرابهم.. كانت تملأ الساحة الأدبية وتشغل المتلقي بإبداعها الرصين وصيتها المنتشر، المدعم بقوة الإعلام.

ثم بدأت شفرة تلك الجاذبية السرية الساحرة تتكشف لنا شيئا فشيئا، وفطنا في النهاية إلى أن ذلك السر لم يكن سوى هذا الحرص من أولئك الكتاب المغاربة، النابع من الحب والإشفاق، على تصوير الفضاءات المحلية بنكهتها المحببة وخصوصياتها الأصلية وشخصياتها النمطية الطريفة، مما يكوّن واقعا حميميا مألوفا لدينا لأننا كنا جزء منه نلبسه ويلبسنا، نعيشه ونعايشه بكل مشمولاته داخل المجتمع المغربي وقلما نجد له صدى في المبدعات الأدبية والفنية المختلفة. ومن ثم وعينا أن الأمر يتعلق بظاهرة معينة يشترك فيها لأسباب محددة معظم القصاصين المغاربة خلال الفترة المدروسة في هذا البحث، لم تكن إلاّ ظاهرة المحلية فيها كانوا يجترحونه من سرد سواء كانت قصة قصيرة أم رواية.
ويضيف المؤلف قائلا في توطئة كتابه هذا: وبموازاة مع هذا الحضور المحلي الملحوظ في النصوص السردية المغربية والعربية أيضا، الذي لم يكن في جوهره سوى نوع من الدفاع عن الذات في وجه الأجنبي المحتل الذي يهدد بالتهام كل شيء؛ أثارت انتباهنا إشكالية نقدية مثيرة، تمثلت في غياب اهتمام الباحثين والنقاد العرب بهذه الظاهرة، على الرغم من اشتغالها اللافت داخل متن هائل من النصوص السردية مغربية وعربية. ويمكننا تأويل سبب ذلك القصور بأمرين اثنين:

أولهما؛ نوع بجدة الموضوع وندرته، وربما بوهم لصوقه بحقل الإثنوغرافية أكثر من ارتباطه بالأدب. خصوصا وأن الدراسات الأدبية العربية الحديثة والمعاصرة كانت ولا زالت تركز غالبا على موضوعات أدبية تقليدية مكررة، وعلى قضايا تقف وراءها إيديولوجيات معينة، ثم دخل على الخط الاهتمام بما هو مستورد من الانشغالات والإشكالات الأدبية والمنهجية الحداثية.

وثانيهما؛ سياسي يعود إلى غلبة الاهتمام بالقومية على حساب المحلية لما كان للقومية في حينه من وضعية اعتبارية اقتضتها الظروف السياسية الضاغطة، إذ أن المرحلة كانت مرحلة عنفوان المد القومي المواجه لخصومه الشرسين في الداخل والخارج، مما قد يكون ركّب في نفوس الباحثين والنقاد العرب نوعا من الخوف من الاتهام بالإقليمية المقيتة، إن هم حاولوا معالجة تجليات الظاهرة المحلية في قطر من الأقطار العربية، لذلك ابتعدوا عن دراسة المحلية في الفن والأدب وغيرهما، مع أن صرح القومية الحقيقي لا يقوم إلا على أساس العناية بما هو محلي، لما بين الاثنين من تساند.
وهكذا، لما فكرنا في إنجاز البحث الحالي، لم نعثر خلال قراءاتنا المتعددة على دراسات فرعية وأبحاث مباشرة شافية عن المحلية باعتبارها ظاهرة أدبية وفنية مماثلة، من شأنها أن تذلل الصعوبات وتضيء الطريق وتسهله، وكل ما وجدناه لا يعدو بعض الفتات المنشور هنا وهناك في بعض الصحف والمجلات والمؤلفات، أو ما تدوول في بعض الندوات والملتقيات المحدودة إن على المستوى الوطني وإن على المستوى القومي. لذلك استشعرنا حسرة مريرة وإحساسا عميقا بفداحة المسؤولية، حيث كان لزاما علينا أن نجتهد ما أمكن من أجل تكوين تصور تقريبي موسع عن مفهوم المحلية، ومحاولة تخليصه من التداخل مع مفاهيم أخرى من نفس الأسرة تجاوره من مثل الإقليمية والوطنية والقومية، ورصد تجليات المحلية في الفن والأدب عامة، حيى يصير السبيل يسيرا وملائما لمواجهة الظاهرة في العقلية والسرد المغربيين، بالنسبة لجيل من المثقفين والقصاصين هو جيل الرواد بقيمة ومفاهيمه وتطلعاته.

ومن اجل تخطي التوجس من دراسة موضوع حساس مثل المحلية، لما قد يثير لدى بقايا المتحمسين المخلصين للتيارات القومية المندفعة، من ردود فعل غير مرضية أقلها الاتهام بالتعصب الشوفيني، عمدنا في هدوء وعن اقتناع واعتقاد إلى محاولة الربط العضوي بين المحلية والقومية، مستندين إلى الضرورة الموضوعية القائلة بوجوب دراسة ما هو محلي لتكامل القومي، من منطلق المساهمة في الحفر في الذات العربية المهلهلة، بغية المزيد من الكشف عما تحوزه أطرافها من خصوصيات مميزة تصب كلها في شخصية الأمة، حتى تتم عملية التنخيل النقدي الدقيقة الكفيلة بتهميش السلبي منها وتجاوزه ورعاية الايجابي وترهينه، ردما وترميما لشروخ هذه الذات، في وقت أصبح يراد للخصوصيات المثيرة للشعوب المختلفة وللشخصيات النوعية للقوميات المتمايزة، الذوبان في نموذج عولمي واحد ووحيد تحت مختلف الذرائع.

ويرى يعلى أن سؤال الخصوصية لم يحتج في يوم من الأيام إلى مواجهته بالأجوبة الضرورية من طرف المثقفين والمتخصصين والمبدعين وغيرهم، أكثر مما هو في حاجة اليوم؛ بسبب فتنة العولمة الكاسحة التي تتحدى هجمتها الجبارة الجغرافية والتاريخ وفي مقدمتها ثقافات الشعوب رسمية وشعبية، بالنموذج المتأمرك في غرطسة وتعنت، وبواسطة أدوات شيطانية هائلة لا قبل لأحد على ردها. وفي هذا الصدد، نعتقد أنه رغم كل ما قد يثار من اعتراضات مفترضة من طرف المؤمنين بحتيمة العولمة إما عن فهم ووعي أو عن تبعية وانبهار، فإن الخصوصية التي لا تعني الانغلاق، تظل صمام أمان حقيقيا ضد تلاشي التنوع الثقافي للأمم والمجتمعات البشرية، وضد الوقوع في كارثة التأمرك العولمي الهوجاء.

فسوف يظل الارتباط بالمجتمع المحلي بألفة شخصيته وجاذبية نكهته، والتشبث بالوطنية القوية بتطلعاتها الطموحة، والانتهاء إلى الهوية القومية المشتركة بتكتلها الأمني والاقتصادي والحضاري.. سيظل كل ذلك وغيره من مظاهر التآزر والتوحد المستوي، نبضا حيا وحارا يتردد دوما في وجداننا ونفسيتنا وذهنيتنا، وعمقا يحمينا من أية إخفاقات كارثية مصيرية وأية محاولة للالتهام أو أي مشروع خبيث لتفتيت الأمة. وبكلمة واحدة: إن التشبث بالأصالة من غير أي إقصاء للمعاصرة هو دفاع عن وجودنا. وليست هناك للأسف بدائل لهذا الخيار التوفيقي الذي تكرس على مضض لدى العرب، منذ عصر نهضتهم في القرن التاسع عشر حتى الآن، والذي تسعى العولمة المتوحشة حاليا إلى سحبه هو الآخر منا وفرض الشق الثاني منه وحده فقط علينا كالقدر بشتى الطرق، نكاية فينا واستهانة بنا، لكوننا صرنا نحن العرب من العيار الخفيف المستفز في كل المحافل والمستخف به في كل الأمور بسخرية ما بعدها سخرية، ويظهر ذلك أكثر مما يظهر في القضايا الكبرى الساخنة مثل القضية العربية المركزية، تعني القضية الفلسطينية التي تنفضح خلال انتفاضتها الثانية عجز الأنظمة والجماهير العربية على السواء.

فبدل صيغة الذوبان في الآخر بعملية قيصرية مشكوك في مصداقيتها وبالتالي في نتائجها، يجب التأكيد على مقترح تفعيل التلاقح معه من أجل إنجاز مثاقفة تقوم على تواصل حضاري حقيقي يفيد ويستفيد، من شأنه أن يغني التراثين معا بل وكل التراث الإنساني. أي، وضع عين على الماضي من اجل تحيين أروع ما فيه من تراث ثري، والأخرى على المستقبل قصد استشرافه والاستعداد له بالعدة والشروط الموضوعية المطلوبة، حتى لا تقف عجلتنا عن الدوران لا قدر الله، كما تنبئ كثير من المؤشرات وكما يحذر بعض المتفاعلين ع العولمة. فليس من الضروري أن نربح العولمة ونضيع شخصيتنا وإنسانيتنا، وإلاّ سنكون من الخاسرين في حالتي الرفض أو القبول بهذه العولمة.

محمد نجيم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى