السبت ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم محمد زكريا توفيق

الدولة المدنية هي الحل

ظللت أتابع ثورة 25 يناير على شاشات التليفزيون المصرية والعربية والعالمية مدة ال18 يوما المجيدة، هنا في مدينة نيويورك.

لم تذق عيناي النوم أكثر من ساعة أو ساعتين كل يوم. في يوم 11 فبراير عندما تنازل مبارك عن الحكم مجبرا، اغرورقت عيناي بالدموع، ووجدت ابنتي الصغيرة تندفع نحوي لكي تقبلني وهي تقول مبروك يا بابا. لحظات الانتصار قليلة وخالدة في عمر الإنسان.

أمجد ثورة في التاريخ. هي ثورة شعبية قامت بدون قيادة وبدون رأس، ربما هذا هو سر نجاحها. فقد دأب أعوان الشيطان على قطع الرؤس الوطنية التي تصلح لقيادة الثورات.

هي أيضا ثورة لم يسبقها فلاسفة ومفكرين قاموا بالتمهيد لها. ولم تقم أصلا لنشر أيديولوجية معينة. قامت فقط للتعبير عن الغضب الذي لا يطلب سوى التغيير إلى الأفضل.

بدأها شباب كنا نعتقد أنه لا يأتي منهم رجاء، ولا نتوقع منهم شيئا له قيمة. رواد "الكفي شوب" والمقاهي والنوادي و"الفيس بوك" والتويتر والإنترنيت وكرة القدم.

ثورة اللوتس، انضمت لها كل فئات الشعب المصري، من نساء ورجال وأطفال وكهول، ومسلمين ومسيحيين وفقراء معدمين وحملة بطاقات تموين، وسكان العشوائيات والقبور والقري والنجوع والمدن، وسكان التجمع الخامس ومارينا ومراقيا.

لقد رأيت وسمعت في الأخبار طفلة تقود المظاهرات قائلة، "يالله يا رجالة". وإلى رجل أمي يحمل لوحة بيضاء يطلب من المارة أن يكتبوا له شعارا يريد أن يرفعه لأنه لا يعرف القراءة والكتابة. ورجل يحمل طفله على كتفيه والطفل يرفع يده بعلامة النصر.

عائلة بكامل أفرادها تذهب إلى ميدان التحرير. وقس مسيحي يصب الماء لرجل يتوضأ. وجماعة مسيحية تقيم القداس في حراسة مسلمين.

ناس من الصعيد تجلس على الأرض لتأكل مع ناس من وجه بحري، عيش وفول وطعمية. أطباء متطوعين، وباعة متجولين تبيع البيض والسميط للجائعين.

رجال ونساء بدون حالة تحرش واحدة. مسلمون ومسيحيون بدون هوس ديني. فقراء وأغنياء بدون حقد طبقي. الناس في مهرجان وطني أو في مولد شيخ العرب السيد بطنطا، أو في الليلة الكبيرة للقديس مار جرجس. لا في ثورة فقدوا بسببها 860 قتيل وما يزيد على 8 آلاف جريح.

آخرين يقومون بتوزيع زجاجات المياة والبلح على المارة. وحراس لمداخل الميادين لتفتيش القادمين حتى تكون الثورة سلمية مئة في المئة. وناس تقوم بكنس ورش المكان وتنظيفه وتجميله حتى يعود أجمل مما كان.

ماذا حدث للمصريين؟ لاشك أنها العناية الإلهية، وأرواح الأجداد التي كانت تحوم في الميدان وباقي البلدان.

طبعا يمكنني الاستمرار في هذا السرد بدون توقف لوصف لحظات رائعة من تاريخ هذا الشعب العظيم. كل فرد اشترك في هذه الثورة له قصة خالدة يجب أن تسجل لتكون عبرة للأجيال القادمة.

قبل الثورة بعدة شهور، كنت أجلس في قهوة بحي المعادي بالقاهرة. تطرق الحديث، بيني وبين اثنين من الأصدقاء، عن حالة البلد التي تصعب على الكافر، كما يقول المثل الشعبي.

لقد أجمعنا على أن الشعب المصري تم إفساده بكل الوسائل، من تعليم سئ وأجهزة إعلام غير أمينة، وأفلام هابطة وفنون رخيصة، ودعاة جدد، ورشاوي وتجويع وتهميش. حتى فقد القدرة على الحياة الكريمة وعلى التفكير والثورة.

أذكر أنني قلت لأصدقائي، حقيقة تم افساد الشعب المصري حتى يستمر الحكم الاستبدادي، لكن توجد تحت السطح، جينات مصرية عظيمة. تحمل الصفات الوراثية منذ أيام الفراعنة.

هذه الجينات هي التي جعلت أحمس يقوم بالثورة على الهكسوس وظل يطاردهم حتى أبادهم من ذاكرة التاريخ. وهي نفس الجينات التي حمت الإسلام والحضارة الإنسانية من هجمة المغول، وحمت مصر من غزوة الصليبيين، بقيادة أبطال مثل قطز والظاهر بيبرس وقلاوون. صحيح القادة كانوا من أصل أجنبي، لكن غالبية الجيش كانوا أبناء الفلاحين.

هذه الجينات هي التي ثارت على الحكم التركي والمماليك، وأجبرت الباب العالي كي يعترف بمحمد على باشا حاكما لمصر عام 1805م. وهي أيضا التي جعلت الشعب المصري يقوم بثورة 19 ضد بريطانيا العظمى ويجبرها على الاعتراف بمصر كدولة مستقلة لها سيادة.

وهي نفسها الجينات التي أبدعت في ملحمة العبور عام 73، وقضت على أسطورة التفوق الاسرائيلي، بأسلحة أقل كفاءة، وهزمت عدوا مدعوما من كل قوى البغي والظلم.

هي الجينات التي بنت المعابد الرائعة والأهرامات الخالدة والحضارات العظيمة، وحفرت قناة السويس، وبنت السد العالي، وغيرها من الإبداعات الفريدة.

الشعب المصري شعب رائع. صبور حقا أكثر من اللازم، لكن يتسم بالإباء والشمم. نجد هذه الصفات واضحة جلية بين البسطاء وأبناء الريف. مشكلة مبارك أنه لم يفهم طبيعة هذا الشعب الذي ظل يحكمه 30 سنة.

عندما كنت طالبا في الجامعة، ركبت الأوتوبيس عائدا لبلدي في أحد أيام رمضان. تعطل الأوتوبيس قبل البلدة بعدة كيلومترات. قررت السير بدلا من الإنتظار.
في طريقي، وجدت فلاحا معدما حافي القدمين يسير بجوار حماره. مشيت بجواره وأخذنا نتبادل أطراف الحديث.

في منتصف المسافة، جاء وقت آذان المغرب حيث وجب الإفطار. أخرج الرجل من خرج الحمار رغيف خبذ واحد هو كل ما يملك. قسمه نصفين وأعطاني نصفه.

عندما تمنعت بحجة أننا على وشك الوصول، أقسم بأغلظ الأيمان أن لابد أن أشاركه الطعام. إننا في رمضان وحرام أن أظل صائما بعد المغرب.

جينات هذا الشعب سليمة وعظيمة لم تتغير منذ الفراعنة. الذي تغير هو الصفات المكتسبة التي يمكن اصلاحها في جيل واحد أو سنوات قليلة.

لذلك تأتي أهمية ثورة 25 يناير، ثور اللوتس. نحن الآن أمام مفترق طرق. طريق السلامة، وطريق الندامة. طريق يأخذنا إلى عنان السماء ويجعلنا نعيد أمجاد أجدادنا الذين بهروا العالم بما قدموه للبشرية من حضارة رائعة.

وطريق محفوف بالمخاطر والتخلف والريبة وعدم الثقة. طريق التكفير والشك ومحاربة الفكر والرأي. طريق كبت المرأة وطمس معالمها، وتقسيم الشعب إلى طوائف، وتمييز طائفة عن الباقي.

طريق التفتيش في عقول وقلوب الناس. طريق محاكم التفتيش وفتاوي التكفير والحكم على المصريين بعقائدهم، لا بعقولهم ومساهماتهم في رفعة وطنهم.

طريق الشد والجذب، وتمزيق نسيج الشعب الواحد. طريق الحروب الأهلية التي غالبا ما تنتهي بتقسيم الوطن إلى دويلات.

الدولة المدنية هي دولة حتمية في هذا الوقت بالذات. أنظروا إلى ما يدور في العالم من حولنا. وقولوا لي بالله عليكم، هل يمكن الآن أن نقيم دولة دينية في مصر مثل السعودية أو أفغانستان أو إيران أو الصومال أو السودان؟

الدولة المدنية تحمي الفرد في الداخل والخارج، وتحمي حقوقه وتحمي بيته وأسرته وحريتة وعقيدته وممتلكاته.

الدولة المدنية تطلق كل طاقات الشعب المصري في إتجاه التقدم والرفعة. وتجنبه الصراع الذي يبدد طاقة الوطن فيما لا طائل من ورائه.

بدون الدولة المدنية، لن نعيش في سلام. سيظل المجتمع بين مد وجذب. وبين صراع أيديولوجيات دينية، يعتقد كل مؤمن بها أنها الصواب، وغيرها الضلال والخراب.

من هنا كانت أهمية الدستور أولا. حتى نستطيع أن نؤسس الدولة المدنية التي نستحقها. الدولة التي توظف كل أفراد الشعب المصري بكل طوائفه وعقائده ورجاله ونسائه ومسلميه ومسيحييه وما يدينون بديانات أخري، ومن لا يدينون بأي دين.

توظف كل هؤلاء في شئ واحد وفي إتجاه واحد. هو رفعة هذا الوطن وتقدمه ورقيه، حتى يصل إلى عنان السماء كما كان في الماضي.

هل الدولة المدنية تمنع الناس من الذهاب للمساجد أو الكنائس؟ أبدا. وهل تأخذ شيئا من الإخوان المسلمين أو تنقص من قدرهم؟ أبدا. هل تأخذ شيئا من السلفيين وتضعهم خلف القضبان؟ أبدا.

هل تتضطهد اليهود وتطردهم خارج مصر حتى يتجندون هم وأبناؤهم في جيش إسرائيل لكي يحاربوننا؟ أبدا. هل تمنع البهائيين والشيعة من آداء طقوسهم وفرائضهم؟ أبدا. هل تجبر المفكرين المصريين على الهرب بأفكارهم وخبراتهم إلى خارج البلاد؟ أبدا.

التمسك بنتيجة الإستفتاء كحجة لعدم كتابة دستور جديد أولا، الهدف منه هو محاربة قيام الدولة المدنية. لذلك يتمسك بها فقط من لهم أجندة الدولة الإسلامية.

هل هي مصادفة أن يتفق الإخوان مع السلفيين على رفض قيام دستور جديد موضوع بكل أطياف الشعب وخبرائه ونقاباته وجامعاته وعلمائه وشعرائه ومفكريه وكل من لهم القدرة على الخيال والتصور لمستقبل مشرق؟

لقد أثبتت الأيام صدق مخاوفنا. الثورة ليست في أيدي أمينة. الضوء الذي نراه في نهاية النفق كما يقول مأمون الفندي، ليس الأمل الذي نرنو إليه، أو نور الشمس الساطعة خارج كهف أفلاطون. إنما هو ضوء قطار الشرق السريع القادم من الإتجاه المعاكس. قطار الدولة الدينية التي سوف تدمرنا جميعا.

قطار الدولة الدينية، بدأ مع اطلالة الثورة. عندما طبخ اللواء ممدوح شاهين والمستشار طارق البشري وصبحي صالح خطة محكمة، لتمزيق أوصال الوطن بين الدستور أولا أم الإنتخابات أولا.

بحجة الإسراع في نقل السلطة. لكن يأتي بعد ذلك الإعلان الدستوري المكون من 63 مادة، والغير مبرر، لكي يجعلنا لا نحصل على عنب الشام أو بلح اليمن. فلا أسرعنا بانتقال السلطة، ولا عملنا الدستور الذي يليق بنا.

حقيقة احتضن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الثورة منذ البداية. لكن لا ليحميها كما تحمي الأم الحنون أطفالها الرضع، وإنما لكي يكسر عظامها ويقتلها ثم يبتلعها لقمة سائغة.

مثل حية الأناكودا البايثون، التي يبلغ طولها 18 مترا. فهي حية غير سامة، تقضي على فريستها بالإلتفاف والضم والضغط والصعق، حتى تفتت عظامها وتفجر عروقها. ثم تبتلعها لقمة سائغة، وتذهب لتنام مرتاحة البال، في الظل تحت الشجرة، كأن شيئا لم يكن.

المجلس العسكري هو المسؤول الأول عما نحن فيه. لقد أطلق القوي الإسلامية من عقالها وخصوصا السلفيين قبل أن نستعد بدستور مدني ديموقراطي، يحمينا من تطرفهم وأفكارهم المغلوطة. وتآمر المجلس لكي يجعلهم ينفردون باختيار لجنة وضع الدستور.

تخيلوا صبحي صالح، صاحب قصر زواج الإخواني من الإخوانية، أو عبد المنعم الشحات، الذي يعتبر الديموقراطية كفر، وأدب نجيب محفوظ دعارة، والحضارة المصرية القديمة عفن.

تخيلوا هؤلاء أعضاء في لجنة وضع الدستور القادم. استمعوا إلى أسلوب وطريقة رئيس جمعية الإخوان في التفكير، وهو يرجع هزائم مصر في الحروب إلى الاضطهاد الذي وقع على الإخوان. مما يوحي بأن الإخوان جمعية مقدسة تحظى بحماية الرب وعنايته.

هل يرجى من هؤلاء دولة مدنية؟ وليس لدينا أي شئ يحمينا ويحمي مستقبل أولادنا من فهمهم الخاطئ للدين. فلا هناك مبادئ حاكمة، ولا وثيقة حقوق إنسان مؤكدة، ولا شواهد ودلائل مطمئنة.

الآن، بعد أن فاز الإسلاميون بأغلبية ساحقة في مجلس الشعب، كما كنا نتوقع، وكما أراد وخطط المجلس العسكري. ليس أمامنا سوى الأمل والرجاء والدعاء. وهي حيلة الضعفاء والمغلوبين على أمرهم.

ليس أمامنا، بعد أن فقدنا الثقة في المجلس العسكري وفي أنفسنا، إلا أن نأمل في أن يرتفع قادة الإخوان إلى مستوى اللحظة التاريخية التي تمر بها بلادنا. وأن يتخطوا حدود الزمن والمكان الضيقة، إلى رحاب أعظم وأوسع.

فيختاروا لجنة توافقية لوضع الدستور. تمثل المجتمع كله، لا فريقا بعينه؟ حتى يمكن وضع دستور عظيم جليل لمستقبل مشرق. يليق ببلادنا العظيمة؟

هل يمكن لقادة الإخوان أن يعلوا على أنفسهم في هذه اللحظة الفارقة، لكي يمثلوا الجنس البشري كله (الهوموسبيان)، أو على الأقل الشعب المصري كله برجاله ونسائه وجميع نحله وطوائفه وعقائده المختلفة؟

أم سوف يقعون أسرى للتعصب وضيق الأفق، ويصرون أن يظلوا داخل دائرتهم الضيقة، التي تمثل فقط حزبهم وجمعيتهم؟ هذا ما سوف تجيب عليه الأيام القادمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى