الاثنين ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

شِعريّة البناء الموسيقيّ

(مراجعاتٌ نقديّةٌ في خطابنا الشِّعريّ الحديث-3)

أشرتُ في المساق السابق إلى أن قصيدة النثر، من حيث هي كتابة نثريّة، لا إشكال في أدبيّتها. بل أكثر من ذلك، هي ليست بجديدةٍ في الأدب العربي(1). ولقد كتبتُ عن نماذج متميّزة منها، ووجدتُ في بعضها تجاوزًا لقصيدة النثر إلى ما أسميته (قصيدة النثريلة)، المزاوِجة بين النثر والتفعيلة. كما لستُ ممّن يرَى قصيدة النثر- بصفتها نثرًا- واردَ الغربِ بإطلاق. وذكَّرتُ هنالك بما قلتُ مرارًا وكتبتُ تكرارًا في أكثر من مقام: أن خلافي مع بعض كتبة قصيدة النثر هو خلافٌ اصطلاحيٌّ، حول عَدِّ قصيدة النثر شِعرًا (عربيًّا).

تبقى الإشكاليّة الحقيقيّة، الثقافيّة الأدبيّة، مع أحبّتنا من الطرفين، في أن كلّ فريقٍ لا يريد أن يفهم إلّا ما في رأسه! وأن كلّ فريقٍ يأخذ المسألةَ مسألةَ نِضالٍ وفِصالٍ، واصطفافٍ مع هؤلاء أو أولئك. لذلك ستجد معظم الفريقين غيرَ راضٍ عن مثل هذا الطرح، ولكلٍّ أسبابه الخاصّة. لأن المندفعين للدفاع عن قصيدة النثر يَعُدُّون ما أقول ضِدَّهم، فإمّا أن أشهد أن قصيدة النثر شِعرٌ، ولا شيء غير الشِّعر، كأن تكون نثرًا جميلًا، لا سمح الله! أو أَسْكُتَ، كما يسكت آخرون! هذا إنْ لم يهدني الله لأتطوّع ضمن الفرقة الشعبيّة للتطبيل مع المطبّلين؛ وذلك كي ينالني شرف الانضواء تحت مظلّة الحداثة النثريّة الوارفة! قائلين: ما لكَ ولنا؟ ثم لِمَ ترتدّ اليومَ عمّا قلتَ في أماكن أخرى؟ ألم تكتب عمّا أسميته قصيدة النثر والنثريلة؟ ما هذا التناقض؟! حَدِّد موقفك: أأنت معنا أم ضدّنا؟! وفي المقابل فإن خصوم قصيدة النثر، والحداثة- جملةً وتفصيلًا- لا يرضون كذلك منّي إلّا الإدانة الكاسحة لخصومهم! فهم يصفِّقون لما يظنّونه نَيلًا من جنسٍ أدبيٍّ، أو كُتّابٍ معيَّنين. بيد أن عَلَيَّ الاستقامة في صفّهم، والثبات على ملّتهم، وأن لا أرتدد عن تيّارهم المختار. فإنْ قرؤوا لي في سياقٍ آخر ما يَفرح به أتباعُ الفريق السابق، اتّهموني بالزيغ، والمروق، أو بالتناقض.

أفهذه ثقافة معرفيّة، أم هي ثقافة حزبيّة متعصّبة، واحديّة الرأي والهوى؟! إنها أخلاقيّات "المثقَّف"، بمعناه المعجميّ القديم، أي: الرُّمح الذي (ثَقَّفَه الحدَّاد)!

-2-

ونعود إلى ما كنّا ألمحنا إليه في مساقٍ سابقٍ من أنها قد انزلقت التبعيّة التقليديّة العربيّة في العصر الحديث لكلّ واردٍ من هناك، أي من الغرب الشِّعريّ، شيئًا فشيئًا؛ فمن التنصّل عن الوزن إلى التنصّل من الإيقاع الشِّعريّ برُمَّته؛ بترك التفعيلة إلى ما يُسمّى قصيدة النثر، من كلّ خواطر اعتياديّة، تتفاوت نثريّتها فنيّةً وبُرودًا. على أن تلك الشخصيّة الشِّعريّة الغربيّة التي حاكاها الشِّعر العربيّ الحديث نجد ملامحها منذ القِدَم. وقد أشار إليها، مثلًا، أرسطو، حسبما يرد- في التراث العربي- لدى صلاح الدِّين خليل بن أيبك الصفدي(2)، (696- 764هـ= 1296- 1363م)، حيث يقول: "قال أرسطو- حكيم اليونان وخطيبهم وشاعرهم- وليس الشِّعر عندهم ما يكون ذا وزنٍ وقافية، ولا ذاك رُكن فيه، بل الرُّكن في ذلك إيراد المقدّمات المخيّلة حسب، فإنْ كانت المقدّمة التي تورد في القياس الشِّعري مخيّلةً فقط، تمحّض القياس شِعْرِيًّا، وإن انضمَّ إلى المقدّمة قولٌ إقناعيّ، تركّبت المقدّمة من معنيَين: شِعريّ وإقناعيّ... وذَكَرَ لي الشيخ الإمام شمس الدِّين أبوعبدالله محمّد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري أن الشِّعر اليوناني له وزنٌ مخصوص، ولليونان عَروضٌ لبحور الشِّعر والتفاعيل عندهم تُسمَّى الأيدي والأرجل. قال: ولا يبعد أن يكون وَصَلَ إلى الخليل بن أحمد شيءٌ من ذلك أعانه على إبراز العَروض إلى الوجود." ومحدِّد الجنس الشِّعري، وَفق هذا المنظور، هو التخييل فقط، بقطع النظر عن الموسيقى الشِّعرية، أو ما سمّوه "الأيدي والأرجل". وما كذلك هو الجنس الشِّعري وَفق المزاج العربيّ، منذ عَرَفَ العرب الشِّعر. ولذلك فكثيرٌ من النثر العربيّ منذ العصر الجاهليّ يُعَدّ شِعرًا، بحسب التوصيف السابق، ومنه سجع الكُهّان؛ لأن مقدّماته مخيّلة، بل فوق ذلك: هو لا يخلو من التنغيم والإيقاع التفعيليّ. ونصوصٌ، كالمواقف والمخاطبات لدى النِّفري- على سبيل المثال- محض شِعرٍ إذن. وهو ما لم يزعمه حتى النِّفري نفسه! لكنّ هناك من يزعمه اليوم، ويُصرّ على فرضه، بل يصفه تطوُّرًا جديدًا للشِّعر العربي، لم يسبق له مثيل! مع أنه موجودٌ، ومبتذلٌ، في تراث النثر العربيّ منذ القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، وقبل ذلك!
ولأن النثر العربيّ- من جانبٍ آخر- حافلٌ بالموسيقى، فَرِحَ رُوّاد الشِّعر الحرّ لمّا وَجدوا نصًّا لابن دريد- ونسبه عبدالكريم الدجيلي إلى البند- فجعلتْ تبحث فيه نازكُ الملائكة(3) عن التفعيلات، فوجدتْ جذاذاتٍ متناثرةً، فيها تفعيلات من: الرجز، والهزج، والرَّمل، و"المكسور"، فعَدَّتْ ذلك من الشِّعر الحُرّ! وكذلك حينما وَقَفَتْ على ما نقله الدجيلي عن "وفيّات الأعيان" لابن خلّكان، من كلامٍ للمعرّي، يجري هكذا: "أصلحك الله وأبقاك! لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي؛ لكي تحدث عهدًا بك يا خير الأخلّاء؛ فما مثلك من غَيَّرَ عهدًا أو غفل." وكان من حقّها- ما دام الكلام السابق شِعرًا حرًّا في نظرها، لمجرّد النَّغَم فيه- أن تَعُدَّ عنوان الكتاب: "وفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العبّاس ابن خلّكان"، من الشِّعر الحرّ؛ لأنه كلام مُنغّم "مُتَفْعَل"! ذلك أن كلامَ العرب موسيقيٌّ، شاعريّ، حتى في أحاديثهم الاعتياديّة. وهم يتفنّنون في النثر تنغيمًا وتسجيعًا، خطابةً وكتابةً. وليست الموسيقى خاصّةً بالشِّعر عند العرب، بل بإمكانك أن تجد التفعيلات في أيّ تعبيرٍ نثريٍّ أو خطابيٍّ، كأن يقول أحدهم مثلًا: "فابعث رجلًا ممّن ترضى دِرءًا لأبي بكرٍ والجيش الإسلاميّ معه..."؛ وهكذا يخرج كلامه على وزن الخَبب دون قصد. ولو أراد المتحدِّث أن يكون حديثه كلُّه على الخَبب، لفَعَلَ. ولقد اتَّفَقَ أن جاءت آياتٌ قرآنيّةٌ على بعض الأوزان، كقوله تعالى: "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ."(4) أ فيقول قائل إن هذا شِعرٌ لأنه جاء على ما يشبه مجزوء الرمَل؟! أو يقول في الآية: "وَدَانِيَة عَلَيْهِم ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً"(5)- بعد حذف الواو من أوّلها وضَمِّ ميم "عليهم"- إنها من الرجز؟(6) أو أن الآيتين "أرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم"، من البحر الخفيف؟(7) أو أن الآية "وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ"(8)، من الوافر- بعد تحريك ميم "يخزهم" بالضم- وهو ما فعله دعبل الخزاعي(9). أو يقول في مثل قوله تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ؛ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"(10)، إنه شِعر تفعيلة؛ لأن إيقاع التفعيلة فيه ظاهر، حتى إنه بتحويرٍ يسيرٍ جدًّا للنصّ يصبح على التفعيلة تمامًا، هكذا: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ؛ [فإِنَّ] اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ [كلّها؛ وإِنَّهُ] هُوَ الْغَفُورُ [والرَّحِيمُ]"؟! هذا ما لا يُقال؛ لأن المَوْسَقَة في كلام العرب أمرٌ مألوفٌ، وهي مكوّنٌ بلاغيّ في النثر، لا في الشِّعر وَحْدَه. ولنأخذ مثالًا على ذلك أيضًا من وثيقة مكتوبة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم، إذ كتب إلى وائل بن حُجْر الحضرميّ:

"مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى الأَقْيَالِ الْعَبَاهِلَةِ، مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ، بِإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ: على التَّبِعَةِ الشَّاة، والتِّيمَةُ لِصَاحِبِهَا. وَفِي السُّيوب الْخُمس، لا خِلاَطَ، وَلاَ وِرَاطَ، وَلاَ شِنَاقَ، وَلاَ شِغَارَ. وَمَن أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام."(11)

أفلا ترى إلى هذا الأسلوب المتماوج بالوحدات النغميّة والتجنيس والسجع، الذي يُشبه أن يكون نظمًا تفعيليًّا؟! هكذا كان كلام العرب عمومًا، وما عَدُّوه شِعرًا قط؛ لأن للشِّعر في ذائقتهم خصائص أسمَى!

إن النظم عند العرب يقع في النثر وفي الشِّعر، وأحد عوامله: النظمُ الصوتيّ، في ثقافةٍ الشفويّةُ ظلّت تغلب فيها الكتابيّة. فهل أمثال هذا حُجّة للقول بأصالة الشِّعر الحرّ في التراث العربيّ؟ إنما هو التمحّل والبحث عن ماءٍ في سراب، لغرس جذورٍ (منبتّةٍ) من شِعرنا الحديث.
[للحديث بقيّة].

(1) حول موقع قصيدة النثر من النثر العربي، انظر كتابي: حداثة النص الشِّعري، (الرياض: النادي الأدي، 2005)، 125- 126.

(2) (1305هـ)، الغيث المسجم في شرح لامية العجم، (القاهرة: المطبعة الأزهرية المصريّة)، 1: 30. وقد راجعتُ النصّ على (مخطوطة الكتبخانة الأزهرية، ذات الرقم ع45267/ خ3993، ج1: الورقة20)، فوجدتُ أن ليس فيها وصف (أرسطو) بـ"شاعرهم". ومن الاختلافات فيها عن المطبوع كذلك ما يأتي: "وليس الشِّعر عندهم ما يكون ذو وزن [كذا]... صاعد الأنصاري... واليوناني عَروضٌ... أن يكون الخليل بن أحمد وصل إلى شيءٌ من ذلك أعانه على إيراد العَروض إلى الوجود". كما أن عنوان الكتاب في المخطوطة: "غيث الأدب الذي انسجم في شرح لاميّة العجم". فيما يتطابق المطبوع تقريبًا مع مخطوطة أخرى تركيّة، تعود إلى وقفٍ لخليل حميد باشا (برقم: 0652/1)، والنص المذكور فيها يقع على (الصفحتين 53- 54)، إلّا أن فيها كلمة "تفاصيل" مكان "تفاعيل". وقد أُعيد نشر الكتاب، غير محقّق، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1975).

(3) انظر: 8- 9.

(4) آل عمران: 92.

(5) الإنسان: 14.

(6) وقد ضمّن أبو نواس الآية في بيتين، يرويهما (ابن المعتزّ، (د.ت)، طبقات الشعراء، تح. عبدالستّار أحمد فرّاج (مصر: دار المعارف)، 207). إذ يُحكَى أنه اجتمع جماعة من الشعراء في مجلس، فقال بعضهم: أيّكم يأتي ببيت شِعرٍ فيه آية من القرآن؟ فأخذوا يفكّرون، فبادر أبو نواس، قائلًا:

وفتيةٍ في مجلسٍ وُجُوْهُهـُمْ
رَيحانُهُـمْ قد أمِنوا الثقيلا
دانـيـةً عليهـــــمُ ظِـلَالـُهـَا
وَذُلِّـلَــتْ قُطُوفُهَـا تَذْلـيـلا

(7) الماعون: 1- 2. وضمّنهما أبو نواس كذلك في نصٍّ له. (انظر: م.ن، 206).

(8) التوبة : 14.

(9) انظر: ابن المعتزّ، م.ن، 207.

(10) الزمر: 53.

(11) العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل (ـ بعد 395هـ =1005م)، (1971)، الصناعتين.. الكتابة والشعر، تح. علي محمد البجاوي، ومحمّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: عيسى البابي الحلبي)، 161.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى